fbpx

أسطورة التعايش في إسرائيل… كذبة تاريخية مدوّية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما زال والدي، البالغ من العمر 82 سنة، ينتظر اليوم الذي لا يتعين عليه فيه العيش في خوف من طردنا من وطننا. فأن تكون فلسطينياً في إسرائيل، يعني أن تنتظر اليوم الذي تُقرر فيه إسرائيل التخلص منك إلى الأبد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

زار أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي، إسرائيل والضفة الغربية لتعزيز اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ فجر يوم الجمعة 21 أيار/ مايو، والذي تم بموجبه وقف القصف الإسرائيلي على غزة وكذلك هجمات حماس الصاروخية صوب إسرائيل. وخلال مؤتمر صحافي مشترك، عُقد في القدس، تحدث بلينكن عن نيته “حشد الدعم الدولي” لمساعدة غزة وإعادة بناء ما دمره القصف.

لكن وعلى رغم اتفاق وقف إطلاق النار، لا تزال احتجاجات الفلسطينيين في القدس وغيرها من المناطق مُستمرة. واعتقلت الشرطة الإسرائيلية عشرات الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، مع تمادي المستوطنين الإسرائيليين في استفزازاتهم.

لم تكن الانقسامات في المُجتمع الإسرائيلي بمثل هذا الوضوح من قبل، وتظل القدس الفتيل الذي يُمكن أن يُشعل حريقاً كارثياً آخر ما لم تتم معالجة الأسباب الأساسية الكامنة وراء ذلك: استمرار احتلال إسرائيل الأراضي الفلسطينية وسياستها التمييزية المُتعصبة.

قبل أسبوعين، كنتُ في منزل عائلتي في حيفا، المدينة التي تقع شمال إسرائيل حيث يعيش الإسرائيليون والفلسطينيون معاً. ورأيتُ مجموعة من الشباب يحملون الأعلام الإسرائيلية والعتلات الحديدية ويسيرون في الشوارع وهم يهتفون “يحيا شعب إسرائيل” و”الموت للعرب”!

شاهدتُ مع والدي خلال بث مباشر على التلفزيون حشداً من الرجال اليهود في مدينة اللّد – إحدى المدن الأخرى المختلطة – يسألون رجلاً عما إذا كان عربياً، ليُخرجوه بعد ذلك من سيارته ويبدأوا في ضربه. وقد أحرق بعض المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل كنيساً يهودياً في مدينة اللد، بدافع إحباطهم وغضبهم من الإسرائيليين اليهود ورموز الدولة اليهودية التي تقمعهم.

لطالما اعتبرت مدينة حيفا – التي يُشكل اليهود 85 في المئة من سكانها في حين يمثل الفلسطينيون 15 في المئة فقط – إلى جانب مدينة اللّد والمدن المختلطة الأخرى مثالاً على التعايش، وهو ما يُفسر سبب طرح هذا السؤال مراراً في الوقت الراهن: لماذا تحولت تلك المدن فجأة إلى بؤرٍ للعنف الجماعي؟

الحقيقة هي أن المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل وبقية الأغلبية اليهودية في البلاد لم يعيشوا في وئام قط. فنحن فلسطينيون نعيش في إسرائيل “على الهامش”، في ظل نظامٍ من التمييز والعُنصرية، مع قوانين تُكرس وضعنا باعتبارنا مواطنين من الدرجة الثانية وبموجب سياسات تضمن عدم مساواتنا بالمواطنين اليهود مُطلقاً.

لم يحدث هذا مصادفة، بل عمداً. إذ إن العنف المُوجه للفلسطينيين في إسرائيل – بدعمٍ من الدولة الإسرائيلية – الذي شهدناه على مدار الأسابيع القليلة الماضية كان مُتوقعاً. 

يُشكل المواطنون الفلسطينيون حوالى 20 في المئة من سكان إسرائيل. وهم أولئك الذين نجوا من “النكبة”، ذلك التطهير العرقي الذي حدث بحق الفلسطينيين عام 1948، عندما طُرد أكثر من 75 في المئة من الفلسطينيين من بيوتهم لإفساح المجال أمام المُهاجرين اليهود خلال فترة تأسيس إسرائيل.

كان والدي ضمن الـ25 في المئة من السكان الفلسطينيين الذين ظلوا في مناطقهم. كان في التاسعة من عُمره عندما أُجبر على ترك بيته في قرية المجيدل الفلسطينية، التي تقع بالقرب من مدينة الناصرة. لينتقل والدي وعائلته إلى هناك. وبسبب فرارهم إلى الناصرة – التي تبعُد نحو 3 كيلومترات فقط – فإن القانون الإسرائيلي يعتبرهم “غائبين حاضرين”، ما يعني أن في إمكان إسرائيل تجريدهم من ممتلكاتهم والتصرف بها.

إقرأوا أيضاً:

وهذا هو ما حدث بالفعل، فقد دمرت إسرائيل بيته ومدرسته بل ومُجتمعه بالكامل من أجل إفساح المجال للمُهاجرين اليهود. وأسست على أنقاض قرية المجيدل الفلسطينية بلدة أخرى يسكنها اليهود فقط، يُطلق عليها “مجدال هعيمق”. وأصبح والدي، غير اليهودي، شخصاً غير مرغوب فيه في دولة “إسرائيل اليهودية”، بدلاً من أن يكون مواطناً يحظى بالمساواة في وطنه الأم.

ومنذ عام 1948 إلى عام 1966، عاش هو وغيره من الفلسطينيين في إسرائيل تحت الحكم العسكري – الذي يُشبه كثيراً الوضع القائم في الضفة الغربية اليوم – وقد سُلبت معظم أراضيهم منهم وأصبحوا مُطالبين باستخراج تصاريح للسفر من مدينة إلى أخرى. كان على والدي مثلاً الانتظار لسنوات قبل أن يُسمح له بالذهاب في رحلة قصيرة لرؤية ما حدث لِبيته ومدرسته. 

وقد دأبت إسرائيل على إنكار النكبة أو رفضها، ويحظر على الدولة تمويل المنظمات التي تُحيي ذكراها. إذ تحكي لنا كتب التاريخ في المدارس عن ارتباط اليهود بأرضنا، من دون أن تتطرق مُطلقاً إلى ذكر النكبة. كما لو كنا متطفلين على وطننا الأم.

في أعقاب انتهاء الحكم العسكري عام 1966، روّجت إسرائيل للأسطورة التي تدّعي أن المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل قد صاروا الآن مواطنين كاملي المواطنة، مشيرةً إلى أننا نستطيع التصويت لانتخاب أعضاء الكنيست وأن لدينا ممثلين فيه أيضاً. بيد أنه منذ تأسيسها، سنّت إسرائيل أكثر من 60 قانوناً تُرسخ مكانتنا باعتبارنا مواطنين من الدرجة الثانية. في حين يُتيح أحد القوانين للإسرائيليين اليهود في الكثير من المدن حرماني أنا والفلسطينيين الآخرين من الحق في العيش إلى جانبهم لأننا لسنا “مناسبين اجتماعياً”.

وقد دأبت المحاكم على تأييد مثل هذه القوانين التمييزية، وما فتئ المشرعون يُعرقلون عاماً بعد عام محاولات إصدار تشريعات تُكرس المساواة بين الفلسطينيين واليهود. في حين دفعت العنصرية المؤسسية والتمييز ضد المواطنين الفلسطينيين ما يقرب من نصفنا إلى الوقوع في براثن الفقر، وارتفع معدل البطالة لدينا إلى 25 في المئة.

ثمّة توجه من جميع السياسيين والأحزاب الإسرائيلية الرئيسية يحض على العنصرية ضد الفلسطينيين ويستغلها. (بخلاف حزب العمل الإسرائيلي، الذي لم يحصل إلا على سبعة مقاعد فقط في الكنيست، فهو الاستثناء الوحيد). وحتى “الوسطيون” مثل يائير لبيد زعيم حزب “هناك مستقبل”، الذي كُلف بمهمة تشكيل الحكومة المُقبلة في أعقاب الانتخابات البرلمانية غير الحاسمة التي أجريت في مارس/آذار الماضي، فقد صرح بأنه يريد “التخلص من العرب” وأن أهم أولوياته هي “الحفاظ على أغلبية يهودية في أرض إسرائيل”.

فضلاً عن أن السياسيين يدعون إلى إسقاط الجنسية عنّا، أو إلى ما هو أسوأ من ذلك – مثل وزير الخارجية السابق أفيغادور ليبرمان، الذي قال إن رؤوسنا لا بد وأن تُقطع، أو وزير التعليم السابق نفتالي بنت، الذي صرح قائلاً، “لقد قتلت الكثير من الفلسطينيين وليست لدي مشكلة مع ذلك”.

منذ عام 2019، عقد رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو مرتين تحالفات انتخابية مع حزب “عظمة يهودية” المعروف بعنصريته السافرة، الذي يضم أتباع مائير كاهانا المعروف، وهو مؤسس حزب “كاخ” الذي صنفته الولايات المتحدة هو وفروعه بأنه منظمة إرهابية. ويقود ايتمار بن جبير حزب “عظمة يهودية”، الذي يقول إن مَثله الأعلى هو باروخ جولدشتاين، الذي أطلق النار على 29 فلسطينياً أثناء أدائهم الصلاة في الخليل عام 1994.

لا يساهم ذلك كله في حشد الأصوات لنتانياهو فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى تطبيع الكراهية تجاه الفلسطينيين. فقد بات الشباب اليهودي أكثر تطرفاً من آبائهم، فقد أظهرت استطلاعات الرأي أنهم لا يريدون العيش إلى جانب الفلسطينيين، فضلاً عن تأييدهم إسقاط الجنسية عنّا.

لا يقتصر هذا التحيز والعنصرية والعنف المُوجه ضد الفلسطينيين على شريحة متطرفة من المجتمع فحسب، بل أصبح سِمة عامة سائدة في المجتمع. فقد سمحت حكومة نتنياهو خلال شهر أيار/ مايو فقط، بمسيرات قام بها المتعصبون اليهود العنيفون عبر الأحياء الفلسطينية في القدس وداخل حرم المسجد الأقصى. وقد مُنِح أفراد الشرطة الإسرائيلية والمواطنون اليهود حصانة فعلية تحميهم عند مهاجمتهم الفلسطينيين.

الواقع أن مجرد وجودنا يثير غضب النُخب الحاكمة في إسرائيل، التي تصرّ على الحفاظ على يهودية الدولة. وما زال والدي، البالغ من العمر 82 سنة، ينتظر اليوم الذي لا يتعين عليه فيه العيش في خوف من طردنا من وطننا. فأن تكون فلسطينياً في إسرائيل، يعني أن تنتظر اليوم الذي تُقرر فيه إسرائيل التخلص منك إلى الأبد.

كيف أشرح لابني البالغ من العمر سبع سنوات ما الذي يعنيه أن يكون مواطناً فلسطينياً في إسرائيل؟ ما هو المستقبل الذي يُمكن أن يتطلع إليه، بينما يُحرض قادة الحكومة على الكراهية ضده؟ وما هو الأمل الجريء الذي يمكن أن يصبو إليه عندما يكون مُجبراً على مواجهة العنصرية والتمييز في التعليم والعمل والسكن؟

أما الآن، فكل ما أحاول فعله هو حمايته من مشاهدة الصور التي تُعرض على التلفزيون وعلى هواتفنا، لكن قريباً سيأتي وقت لا أستطيع فيه حمايته من حقيقة أنه محاط بأشخاص يعتبرونه مُواطناً من الدرجة الثانية.

هذا المقال مترجم عن nytimes.com ولقراءة الموضوع الأصلي زوروا  الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً: