fbpx

انفجار المرفأ ضرب أسس “قصر العدل”: الانهيار لا يستثني القضاء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

السلطة السياسية تسعى من خلال عرقلة تشكيلات مجلس القضاء الأعلى إلى “تعيين أعضاء المجلس ليكونوا ممثّلين للقوى السياسية فيصبح المجلس بمثابة ذراع لها داخل القضاء أكثر مما هو درع للقضاة في وجهها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

التحقيقات التي وُعد اللبنانيون بأنها ستنجز خلال ساعات وأيام لا تزال تتمدد بلا جدوى.

فالذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت أو جريمة العصر والتي راح ضحيتها أكثر من 200 شخص وجرح أكثر من 6 آلاف شخص بعد تدمير نصف العاصمة تقترب من دون ملامح لأي عدالة أو محاسبة بحق مرتكبي الجريمة. 

دأبت السلطة السياسية، خلال هذه السنة، بدلاً من السعي إلى اقتياد المتورطين إلى العدالة، إلى ترويع أهالي الضحايا بهدف إسكاتهم لتمييع القضية وطمسها بشتّى السبل، بالتوازي مع محاولات حثيثة للضغط سياسياً على القضاء لثنيه عن كشف الحقيقة في نهج سلطوي بات ينسحب على كل الملفات التي يضع القضاء يديه عليها راهناً.

قمع مستمر في حق أهالي الضحايا 

منذ 4 آب/ أغسطس من العام الماضي، لا يكلّ أهالي ضحايا انفجار المرفأ، وبعدما تُركوا وحيدين في مواجهة الفاجعة، عن متابعة آخر مستجدات القضية والمطالبة بسوق المتهمين إلى التحقيق ومحاسبتهم، وذلك على مسامع دولة متخاذلة صمّاء قابلتهم بالقبضة الأمنية عند كل مفترق. 

فلا تغيب التعزيزات الأمنية المشدّدة عن أي تحرّك لأهالي الضحايا إن كان أمام المؤسسات الرسمية أو القضائية أو حتى في محيط المرفأ. وفي شباط/ فبراير الماضي، اعتدت عناصر مكافحة الشغب بالضرب المبرح على الأهالي خلال تنظيمهم وقفة احتجاجية أمام منزل القاضي الموكل بالتحقيق حينها فادي صوّان، لمطالبته بعدم التلكؤ في إحقاق العدالة بعدما وجهوا له رسالة لم يجب عليها، وأظهرت المشاهد المصوّرة بوضوح سقوط بعض الأهالي أرضاً فيما قامت العناصر الأمنية بضربهم بالعصي ودفعهم بقوّة.

مرفأ بيروت بعد 10 أشهر على الانفجار

وبعد معركة طويلة، تمكّن الأهالي من انتزاع قانون يساوي ضحايا انفجار المرفأ بضحايا الجيش اللبناني وتداعوا إلى أمام مجلس النواب للمطالبة بتنفيذه، فكان عدد كبير من عناصر قوى مكافحة الشغب بانتظارهم لمنعهم من الوصول إلى محيط مجلس النواب مستخدمين كل أساليب التهديد والترويع المعهودة.

 وفي أيار/ مايو الماضي، أوقف عناصر من مخابرات الجيش كل من وليم نون شقيق الضحية جو نون ودافيد ملاحي شقيق رالف ملاحي الذي قضى أيضاً في الانفجار، بحجة أن نون اتهم المخابرات بالضلوع في انفجار المرفأ، فيما قام ملاحي بالدفاع عن نون اثر تلاسن بينه وبين القوى الأمنية. وبعد تحقيق دام نحو ثلاث ساعات أطلق سراح الاثنين مع منع نون من الدخول إلى المرفأ بتاتاً مهدّدين بملاحقته في حال خالف قرار المنع.

وكان نون، في شباط الماضي، أكّد في مقابلة تلفزيونية أنه تعرّض للتهديد من قبل شخصين على دراجة نارية طلبا منه عدم التعرّض لـ”حزب الله”.

حصل ذلك في وقت يؤكد الأهالي أن أحداً من المسؤولين لم يقدّم إليهم حتى واجب العزاء، فيما يمتنع عدد منهم عن مقابلتهم في كلّ مرة يطلبون فيها ذلك بعدما وعدتهم السلطة الدينية بكل أركانها كذباً بأنها ستقوم برفع الغطاء الطائفي عن أي متورط. 

وعلى المنوال القمعي نفسه، تم توقيف الناشط شربل رزّوق في منزله من قبل ملثّمين بأسلوب بوليسي،  ليتبيّن لاحقاً أنهم عناصر من أمن الدولة وذلك بسبب قيامه برفع لافتة كتب عليها “شو عملت يا غسان بأكثر من 35 ملف؟” في إشارة إلى قيام مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات بعرقلة فتح ملفات الفساد. كما أوقف فرع المعلومات المحامي رامي علّيق وتم اقتياده بالقوة للتحقيق معه على خلفية نشره فيديو يقول فيه إن عويدات مجرم ويتحمّل مسؤولية التغطية على كارتيلات الفساد، واستنكاراً لذلك أعلنت نقابة المحامين الإضراب ليومين ضد “التصرف القمعي الذي يهدف إلى كم الأفواه ويؤشر إلى الانزلاق إلى الدولة البوليسية”.

تعاظم التدخلات السياسية لتطويع القضاء بالكامل

لعل أبرز الملفات التي أكّدت فداحة تدخل السياسة في القضاء كانت تلك المتعلقة بالتحقيق في انفجار مرفأ بيروت. فبعدما كشفت التحقيقات التي تولاها القاضي صوان، أن عدداً من المسؤولين الكبار على رأسهم رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب كانوا يعلمون بوجود مواد متفجرة في المرفأ، إلّا أنهم لم يتحرّكوا لتفادي الكارثة. وفي 10 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، ادّعى صوّان على دياب وثلاثة وزراء سابقين، هم وزير المالية السابق علي حسن خليل ووزيرا الأشغال السابقان غازي زعيتر ويوسف فنيانوس. لم يمثل أحد من المدعى عليهم أمام القاضي صوّان، وتقدّم كل من خليل وزعيتر بمذكرة أمام النيابة العامة التمييزية طلبا فيها نقل الدعوى إلى قاض آخر بحجة “الارتياب المشروع” ولأن صوّان خالف الدستور بادعائه عليهما، لأنهما يتمتعان بحصانة دستورية. وكان لهما ما أرادا، ففي 18 شباط الماضي، كفّت محكمة التمييز الجزائية يد صوّان عن القضية معلّلة ذلك بأن “ارتياب الوزيرين مشروع لأن منزل صوّان قد تضرّر في الانفجار وقد يؤثر ذلك في موضوعيته” لتنجح بذلك السلطة السياسية في تحقيق أول تدخل سافر لها في القضاء لحرفه عن مساره وإعادة التحقيقات إلى المربّع الأول. 

أما دياب، الذي سارع إلى الاحتماء بغطاء سياسي وطائفي أمّنه له نادي رؤساء الحكومات السابقين ووأولهم سعد الحريري ومفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، فرفض أيضاً الامتثال لطلب صوّان معتبراً اتهامه سياسياً فهو “لم يكن على علم بطبيعة المواد الموجودة في المرفأ”.

أي تطور إيجابي في عمل القضاء لن يكون ممكناً، إلّا من خلال إصلاحات قانونية شاملة تحرّر القضاء من لعبة المحاصصة والكوتا الطائفية ومعها من الشهوات والفيتوات السياسية.

ادّعاءات حسان دياب الذي اتهمه صوّان بالإهمال، كذّبتها وثائق رسمية تبيّن قيام أمن الدولة بإعلامه “بوجود 2700 طن من نترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، وأن تلك الكمية كافية لتدمير بيروت”، وذلك في تقريرين أرسلا لدياب في حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو، أي قبل شهر من وقوع الانفجار، فلم يكن من دياب إلّا أن ألغى زيارة كان مقررة له إلى المرفأ بعدما ورده اتصال رفض الكشف عن مصدره قيل له فيه إن الموضوع “مش محرز”. ولم يسعَ دياب حتى إلى وضع الملف على جدول أعمال جلسات المجلس الأعلى للدفاع الذي كان ينعقد بصورة دورية العام الماضي بحضور كل قادة الأجهزة الأمنية، ومن بينهم أمن الدولة الذي حقق بموجودات المرفأ. 

تعليقاً على الممارسات السلطوية التي أدّت إلى تنحية صوّان، يقول مدير “المفكرة القانونية” المحامي نزار صاغية إن ذلك حصل “بعد هجوم شاركت فيه قوى نافذة، على رغم تخاصمها السياسي، من حزب الله إلى نادي رؤساء الحكومات. الهجوم عليه حصل فقط لأنه تجرأ على السياسي. وهو هجوم يستهدفه ويستهدف كل قاض قد تسوله نفسه التجرؤ على أي من هؤلاء”.

وبعد تعيينه خلفاً لصوّان، يواصل المحقق العدلي القاضي طارق البيطار منذ أشهر التحقيق في انفجار مرفأ بيروت من دون أن تصدر عنه أي معلومات جديدة ومن دون إبدائه نيّة لاستدعاء أي من الرؤوس الكبيرة، بل اكتفى بإخلاء سبيل ستة من الموقوفين من أصل 25 كان قد أوقفهم صوّان في ملف المرفأ، وسط تداول معلومات صحافية تفيد بأنه يميل إلى التمسّك بنظرية أنّ أعمال التلحيم تسبّبت بنشوب حريق في العنبر رقم 12، ما أدّى إلى انفجار آلاف أطنان نيترات الأمونيوم مع كل ما قد تحمله تلك النظرية من تبرئة للرؤوس الكبيرة المتورطة في الملف. 

وعلى خلفية ذلك، أبقى البيطار على كل الموقوفين في الجانب المتعلّق بالتحليم إدارةً وتنفيذاً قيد التوقيف. ولم يحسم وجود نيّة جرمية وراء الانفجار، الأمر الذي سعت السلطة السياسية إلى إخراجه من المعادلة وذلك من خلال قيام وزير الاقتصاد بتوجيه كتاب إلى البيطار طلب فيه إخراج فرضية العمل العسكري أو الإرهابي من الأسباب التي أدّت إلى تفجير المرفأ، إلّا أن الضغط الذي مارسه أهالي الضحايا دفع بنعمة إلى التراجع عن طلبه الذي يعتبر “جرماً تصل عقوبته إلى الأربع سنوات ونصف السنة، بحسب المادة  419 من قانون العقوبات الجديد التي تجرّم التدخّل في أيّ مراجعة قضائية، وتشدّد العقوبة على من يتولّى وظيفة عامّة”، وفق صاغية، إلّا أن نعمة بقي خارج دائرة المحاسبة. 

وعلى هذا النهج تسير السلطة في محاولة تطويع القضاء وإفراغه من دوره. فما أن تقدّمت وزيرة العدل ماري كلود نجم راهناً باقتراح مرسوم بتعيين 4 قضاة في مجلس القضاء الأعلى للحؤول دون تعطيل هذه المؤسسة، حتى توالت الاعتراضات السياسية والحملات الإعلامية المعترضة على هذا القرار الذي “تم بدون التنسيق مع القوى الوازنة في الحكم”، وقد وصلت الاعتراضات إلى حد السعي إلى التشهير بأحد القضاة الذين وردت أسماؤهم في الاقتراح وهو القاضي سامر يونس الذي “لا يتميّز فقط باستقلاليته، إنّما بأنه أحد القضاة القلة الذين لم يجدوا حرجاً في خوض معارك من أجل العدالة ولو في مواجهة عدد من كبار القضاة وأصحاب النفوذ، وأن اقتراح اسمه ليس مجرد اقتراح اسم بل حدث على صعيد المواصفات المرجوة لدى أعضاء مجلس القضاء الأعلى وتالياً على الدور المأمول من هذه المؤسسة”، بحسب صاغية، الذي يعتبر أن السلطة السياسية تسعى من خلال هذه العرقلة إلى “تعيين أعضاء المجلس ليكونوا ممثّلين للقوى السياسية فيصبح المجلس بمثابة ذراع لها داخل القضاء أكثر مما هو درع للقضاة في وجهها.”

وفي بيان صادر عنه، أكّد يونس أن سبب استبعاده جاء لأنه “لا يساير أحداً ولا يراعي ولا يهادن ولا يتملّق”. 

في السياق نفسه، لا يغيب عن الأذهان مشهد التجاذبات التي حصلت بين النائب العام الاستئنافي في جبل لبنان غادة عون ومدعي عام التمييز غسان عويدات في قضية تهريب الأموال إلى الخارج والتي أدّت إلى قيام عويدات بكفّ يد عون عن هذه القضية وعدد من القضايا المالية الأخرى المهمة، الأمر الذي تعتبره لجنة الحقوقيين الدوليين “عرقلة واضحة لعمل القضاء”. ولدى تقدّم عون بدعوى أمام مجلس شورى الدولة لوقف تنفيذ قرار عويدات لأنه خالف قواعد الصلاحية، قرر مجلس القضايا في المجلس المذكور ألّا يقرّر في القضية وأن يستدعي مجلس القضاء الأعلى لإبداء رأيه، ويعتبر ذلك سابقة قانونية خطيرة، بخاصّةً أن المجلس يجمع رؤساء الغرف الذين يتم تعيينهم وفق الكوتا الطائفية وغالباً المحاصصة السياسية وأن واحدة من أعضاء المجلس هي القاضية فاطمة الصايغ عويدات، زوجة أحد أقارب عويدات، والتي لم يطلب أحد تنحيتها، بحسب المفكرة القانونية. 

هذا ويحفل تاريخ السلطة السياسية بمحاولات ناجحة للتدخّل بعمل القضاء في السنوات الأخيرة، تبدأ من قضية زياد عيتاني وتبرئة المقدم سوزان الحاج التي أشارت التحقيقات إلى ضلوعها في تلفيق تهم عمالة له ولا تنتهي عند قضية “جزّار الخيام” عامر فاخوري وإطلاق سراحه سريعاً بتسوية سياسية. 

العدالة الدولية كملجأ أخير 

وبالعودة إلى ملف انفجار المرفأ، يشعر أهالي الضحايا بأن رهانهم على القضاة النزيهين في الجسم القضائي اللبناني قد يكون خاسراً، فبعدما انقسم عدد منهم بين من يطالب الدولة بإحقاق العدالة عبر تحقيق داخلي شفاف وبين من يطلب تدخلاً دولياً عبر لجنة تقصّي حقائق دولية، قرروا أخيراً توحيد مطالبهم حول الدعوة إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية يكون من بين أعضائها قاض لبناني أو أكثر. وإلى حين استجابة الجهات الخارجية المعنية لهم، يبقى الأهالي رهينة الانتظار الذي تريده السلطة أن يطول. 

أما في ما يتعلّق بالملفات الأخرى، فإن أي تطور إيجابي في عمل القضاء لن يكون ممكناً، بحسب “المفكرة القانونية” إلّا من خلال إصلاحات قانونية شاملة تحرّر القضاء من لعبة المحاصصة والكوتا الطائفية ومعها من الشهوات والفيتوات السياسية. وإن بدا ذلك بعيد المنال في ظل التهالك الشامل الذي هندسته السلطة السياسية  ليضرب الدولة بكل مؤسساتها، وعلى رأسها القضاء.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.