fbpx

في الشهر العاشر… لعلّ مفجِّر بيروت يقرأ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عشرة أشهر ولم يخبرنا أحد من فجّر بيروت؟ ومن قتل 200 رجل وامرأة وطفل؟ أيها المفجِّر، لعلّك تقرأ…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أخرج من السرير ورأسي يعدّ، واحد، اثنان… تسعة، عشرة. تسعة أو عشرة؟ أفرك عينيّ جيداً. أكره الرياضيات، كرهي لمن فجّر بيروت. لا، إنها مقارنة مجحفة، فمن فجّر بيروت يستحق ما هو أبعد من مجرد كراهية عادية، يكنّها الواحد للرياضيات أو للأفوكادو. لكن الاثنين دمّرا أشياء أحبّها. فكما يدمّر التفكير في النتيجة الرقمية للأشياء، حلاوة الشعر ورقة الصيف وسوريالية لوحة وسرّ نص تجريديّ، كذا فجّر أحدهم مدينة كانت تناضل من أجل أن تبقى ضاحكة وساهرة وراقصة، وحوّلها إلى كتلة من الزجاج المحطّم والأبنية المنهارة. أشعر بالتشويش حين يحتاج الأمر إلى استخدام الأرقام، إنه التشويش ذاته الذي يحتلني حين أعود بالذاكرة إلى يوم 4 آب/ أغسطس عند السادسة وبضع دقائق.

لكن أي تشويش قد يراود المرء في أي بقعة من العالم، لا يساوي في شيء هذا التشويش المفتعل الذي تمارسه السلطة ورجالها لإخفاء حقيقة “تفجير” بيروت. وأسميه تفجيراً بضمير حي، فلو كان ما حدث مجرد انفجار بسبب مفرقعات أو خطأ تقني ما (كما يحاولون إقناعنا)، لكان أحدهم تجرأ على البوح. لكنّ السكوت الصارخ الذي يسيطر على البلاد منذ عشرة أشهر تقريباً يؤكد أن هناك مجرماً وأن هناك مفجّرين ومخططاً لقتلنا. 

أفكر بكثر هاجروا بعد الانفجار، الأمر لا يتعلّق بالمال وحده، لكنه سؤال شديد العمق، إن كان المرء قادراً على العيش في بيروت بعد 4 آب. فذلك مصحوب بالكثير من الحزن، الكثير من الصبر والحسرة.

قلت إنني سأكتب عن بيروت وسأذكّر بوجعها كلما حلّ الرابع من كل شهر، قلت إنني سأستخدم عدّاد الأرقام، لعلّني أساهم في إيلام المفجّر وتنبيهه إلى أنّنا لن ننسى حقنا في العدالة مهما مرت أشهر أو سنوات. أدور في بيروت بشكل يومي، ولا أجد سوى الحزن وبعض المقاومة التي تناطحه والتي نتمسّك بها كآخر قارب في عتمة طويلة. هنا أبنية شاهقة، قامت على حق الناس في الشاطئ المجاني، هنا مكان أتخيّله حديقة عامة يلعب فيها الأطفال، لكنه في الحقيقة مكبّ نفايات في الكرنتينا. وهناك شاطئ صغير، كنت أودّ أن يكون متنزهاً للعشاق ولبيع السمك والمشروبات الباردة، لكنه سوق السمك في الدورة، الذي على المرء أن يدخله مع أنف مغلق بإحكام، حتى لا يموت من الرائحة النتنة. وعلى مقربة من هذا كله، وسط مدينة صغيرة اسمها بيروت، لدينا مرفأ مدمّر، كان يفترض أن يعج بالحياة، لكنّ موتاً وحشياً مرّ من هنا، وأغمض عينيّ 200 شخص، إلى الأبد.

بعد عشرة أشهر، أفتش عن زوايا جديدة من هذا الحزن الطويل، لم تُكتَب بعد. أدخل إلى صور الضحايا من جديد، ما أجمل وجوههم! كم تبدو بريئة وناعمة! أتذكر فؤاد صديقي، الذي هاجر الآن. أفكّر في أننا تحدثنا عن بيروت مرة في حانته. أشعر بأنّ علينا أن نتحدّث عنها الآن، عن وجهها المتعب بعد 10 أشهر على انفجار لم تشفَ منه. لا أعرف في أي حال إن كان الشفاء من انفجار كهذا متاحاً في انثروبولوجيا المدن. أفكر بكثر هاجروا بعد الانفجار، الأمر لا يتعلّق بالمال وحده، لكنه سؤال شديد العمق، إن كان المرء قادراً على العيش في بيروت بعد 4 آب. فذلك مصحوب بالكثير من الحزن، الكثير من الصبر والحسرة. تخيّل أنك تعيش في مكان يؤلمك، وتتنقّل فيه، وتنظر إلى بحره، وتجلس في باراته، وتشرب من مائه الملوّث، وأحياناً تضحك فيه. تخيّل أن تضحك في المكان الذي يؤلمك. لكنك مرغم على الضحك، حتى إن كان من نفسك، فلا شيء يجعل الحياة خفيفة على الأكتاف المنهكة سوى الضحك.

المهم، عشرة أشهر والضحايا تحت التراب، عسى أن يكونوا بخير هناك وأن يكونوا ضاحكين فرحين، في مكان لا حسرة فيه. عشرة أشهر ولم يخبرنا أحد من فجّر بيروت؟ ومن قتل 200 رجل وامرأة وطفل؟ أيها المفجِّر، لعلّك تقرأ…

إقرأوا أيضاً: