fbpx

بوب ديلان: “التدفقات الأكثر كثافة لحداثة القرن العشرين”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو بوب ديلان، الذي بلغ الثمانين، أقرب إلى الشاعر الذي غَرَف بنهم قدر المستطاع من الفترات الزمنية التي عاشها، محولاً بذلك نظرته إلى العالم، نحو كتاب أغانٍ ضخم ستبقى سماته قديمة وعصرية على حد سواء، ويحتل مكانته في التاريخ الأدبي والموسيقي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مذ انطلق في رحلته في أوائل الستينات لتغيير أدب الأغنية الأميركية إلى الأبد، وديلان يسرد القصص ويخلق الألغاز. في آب/ أغسطس 1962، كانت اللحظة الحاسمة عندما أصبح روبرت زيمرمان، البالغ من العمر 21 سنة، بوب ديلان. بعدها بسنة، كتب A Hard Rain’s A-Gonna Fall، معلناً، في ما يتعدى الذات، هشاشة كل شيء في العالم ومشروطيته. الأغنية فُهمت لفترة طويلة على أنها استحضار لحرب نووية، لكنها تبدو الآن نذيراً لعالم يتغير بفعل تغير المناخ: “لقد خطوت في منتصف سبع غابات حزينة / لقد كنت في الخارج أمام عشرات المحيطات الميتة/ لقد كنت على بعد 10000 ميل في فم مقبرة”. يتابع ديلان في تلك الأغنية عبر كلمات ذات صدى حديث أيضاً: “عشرة آلاف متحدث تم كسر ألسنتهم جميعاً”، تلتقط بنحو لمّاح نشاز وسائل التواصل الاجتماعي. وفي رؤيته “البنادق والسيوف في أيدي الأطفال الصغار”، هناك لمحة عن الأهوال التي شهدها هذا القرن بقدر ما شهدها القرن السابق. بعض هذه الكلمات هو انعكاس لجذور ديلان اليهودية وإحساس بنهاية العالم مستمد، جزئياً، من كل من الكتاب المقدس العبري (العهد القديم) والعهد الجديد (الإنجيل). لكن هذه الأغاني تتحدث أيضاً عن حقيقة يومية مباشرة مفادها أن الموت والفوضى واللامبالاة أقرب إلينا كثيراً مما يفترضه كثيرون. موضوع الموت كان أكثر إلحاحاً لجيل يخشى أن يفنى في حرب نووية.  

بوب ديلان

“الحركة المناهضة للحرب” و”حركة الحقوق المدنية” في أميركا في الستينات، سمعتا رسائل ديلان في الكثير من أغاني البدايات ووظفتاها – كما هو – لقضاياهما. لكنه بقي مصراً على رفض فكرة أنه كان صوت أميركا الفتية في الستينات أو ضميرها، أو أنه لعب أي دور في حركات تلك الحقبة. غير أن كتابات ديلان “لم تفقد مرجعها السياسي أبداً، فقد أصبحت أكثر مباشرة بمرور الوقت، ورؤيته أكثر شاعرية، وأكثر شخصية”، كما يلاحظ شون ويلينتز، أحد الباحثين في الدراسات حول ديلان. لا بل يمكن القول إن الجدل السياسي هو جزء أساسي من أعمال ديلان. ربما لم تكن المحكمة قد أدانت وليام زانتزيغر، الذي “قتل هاتي كارول المسكينة بعصا لفها حول إصبع في خاتمه الماسي”، لكن في أغنيته “الموت الوحيد لهاتي كارول”، فعل ديلان ذلك بالتأكيد. على مدار الأغنية، يرسم صورة سفاح أرستقراطي “صادف أنه يشعر بهذه الطريقة من دون تحذير”. لربما استطاع محامو زانتزيغر المرافعة بأن وفاة كارول (51 سنة)، بسبب نزيف في المخ كانت بسبب الإجهاد– لا العصا التي “أبحرت في الهواء ونزلت عبر الغرفة/ محكوم عليها ومصممة على تدمير كل ما هو لطيف” – إلا أن براعة ديلان تعني ان زانتزيغر سيعيش إلى الأبد كقاتل أفلت من العقاب “بستة أشهر مع وقف التنفيذ”. كما أن هناك سجالات لديلان كانت شاهدة على تحقيق العدالة، ولو بعد حين، مثل قضية الملاكم روبن كارتر، “الرجل الذي ألقت السلطات باللوم عليه/ لشيء لم يفعله أبداً”، والذي روى قصته عام 1976 في أغنية “إعصار”. ألغيت إدانة كارتر الخاطئة بالقتل عام 1985. تكمن براعة ديلان في سرد القصة من البداية (طلقات المسدس تدق في ليلة البار) إلى النهاية البائسة: “كانت المحاكمة عبارة عن سيرك خنزير، ولم تكن لديه فرصة قط”. وأيضاً في أغنية “بلوز الرجل العامل رقم 2” عام 2006 التي لا تزال كلماتها ذات راهنية لافتة للنظر: “يقولون إن الأجور المنخفضة حقيقة/ إذا أردنا التنافس في الخارج”، و”قوة الشراء التي تتمتع بها البروليتاريا انخفضت”.

واستمر ديلان مساجلاً حتى في مرحلته المسيحية في أواخر السبعينات والتي أصبح فيها أقرب الى الواعظ: “حسناً، قد يكون الشيطان أو الرب، لكن عليك أن تخدم شخصاً ما”. 

بدا ديلان وكأنه يعيد اختراع نفسه كل عقد من الزمن. لقد تحدى دائماً التسلسل الزمني والمفاهيم المستقيمة للتطور الفني (حتى مذكراته، Chronicles هي كل شيء إلا التسلسل الزمني).

“حسناً، قد يكون الشيطان أو الرب، لكن عليك أن تخدم شخصاً ما”. 

 معظم كتاب الأغنية الناجحين يحققون لأنفسهم في سن الثلاثين صوتاً مميزاً، ما يجعلهم يرفضون النقد ويصبحون غير قادرين على التغيير. ليس ديلان. في بداياته، كتب أغاني سخط ونقمة، لكنه سرعان ما أدرك كم سخيفة ستبدو هذه الأغاني مستقبلاً، فإذا به يشكك بالفكرة التقليدية المستقيمة بأن الشباب يسبق التقدم في السن، متبرئاً من وعظه المبكر في فترته المسيحية الإنجيلية: “لكنني كنت أكبر سناً في ذلك الوقت/ أنا أصغر من ذلك الآن”. هكذا سرعان ما تلاشى هذا الاهتداء الديني، إذ قال بعد عشرين عاماً على ذلك: “أنا لا ألتزم بالحاخامات، الإنجيليين، كل ذلك”. 

ذلك أن ديلان الفنان كان دائماً كالحرباء التي اختبرت، ليلة بعد ليلة في جولاته الغنائية، مدى تقبل الجمهور لاختبار قابلية أغانيه للتطويع من خلال المراجعات الجديدة التي غالباً ما تكون جذرية. 

غير أن مراجعة اللحن وتنقيحه شيء، وإعادة اختراع الذات شيء آخر. كل أداء وكل ألبوم لديلان كان بمثابة إعادة صياغة لنفسه، وهو أمر حققه عدد قليل من الفنانين، مثل بابلو بيكاسو ومايلز دايفيس.

هكذا هو بوب ديلان. لعل مساهمته العظيمة كشاعر وموسيقي تكمن في تناقضاته وتعارضاته. حتى في أكثرها اتساعاً وعمقاً، تقدم أشعاره عدداً كبيراً من الأصوات والصور والمراجع الثقافية التي قد يكتنفها الغموض أحياناً.  قوة أدائه الغنائي وجاذبية ألحانه، هما اللتان تتكفلان بإيصال رسالته إلى الجمهور. ومع ذلك، فإن ما يمكن أن تكون عليه هذه الرسالة يُترك إلى حد كبير ليقرره المستمع.

هذا الغموض وعدم الدقة هو ما يجعل ديلان جديراً بالقراءة والسماع دائماً وأبداً. فهو يقول كل شيء ولا شيء في وقت واحد، مقدماً لنا عوالم كاملة لاستكشافها. والآن بصفته مواطناً مسناً يبلغ من العمر 80 سنة، فهو يتوج مراحل تطور عدة في مسيرة مهنية حافلة أعطانا خلالها “التدفقات الأكثر كثافة لحداثة القرن العشرين”، كما وصفها غريل ماركوس. 

إقرأوا أيضاً:

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…