fbpx

بعد عقدين على اتهامهم بالفجور والإرهاب:
مثليو مصر من “الكوين بوت” إلى سارة حجازي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من حادث “الكوين بوت” بدأ التحريض على المثليين، وتخوينهم، وكشف أسرارهم الخاصة، وتزييف الحقائق حولهم، وتكسير عظامهم، بعدما كانوا يعيشون في الظلِّ بأمان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تحلُّ الذكرى الأولى لـرحيل سارة حجازي، في 14 حزيران/ يونيو 2021، لتعيد سيرتها حنيناً جارفاً، ومقتاً للنظام العام الذي أودى بها إلى يأسٍ واكتئاب كبيرين، وعاقبها على جريمة افتراضية لم يعد لها وجود، فلم يحبسها لأشهر فقط، إنما أجبرها على الرحيل والوحدة والغُربة وهجر الأهل، ونظرات الناس الغاضبة… وأخيراً، الانتحار.

كان المشهد الأخير قاسياً، لكنه كان متوقعاً مهما تغيّرت صيغه واختلف أبطاله، فالتعبئة العامة ضد المثليين جنسياً في مصر مستمرة منذ واقعة “الكوين بوت”، التي صاغت الخطاب الأول ضد المثلية في صحف القاهرة ومجلّاتها، ليستمرَّ هذا الخطاب ويتضخَّم لتتآكل تحت ضغوطه كل دعوات الحرية الشخصية. 

وما تقوله الصحف تلميحاً ينتشر ويتوغّل في عقول الناس ليصبح خطوطاً عريضة على ألسنتهم، وتتحول النميمة إلى قصة كبيرة، والغفلة إلى خطيئة، والاتهام إلى حكم بالإعدام، فما بالنا بالقضية التي تعاملت معها أجهزة الإعلام المصرية، منذ اللحظة الأولى، كما لو كانت طرفاً في مشاجرة في حارة خارجة عن السيطرة؟!

من حادث “الكوين بوت” بدأ التحريض على المثليين، وتخوينهم، وكشف أسرارهم الخاصة، وتزييف الحقائق حولهم، وتكسير عظامهم، بعدما كانوا يعيشون في الظلِّ بأمان. فلم يُترك الأمر للدولة تدير أمورهم، إنما شعر كلُّ مصري محدود المعرفة و”مؤمن ببلده ودينه” بأنه مكلَّف بالتخلص منهم تقرباً إلى الله والوطن.

ما بين واقعتين، تشكَّلت ملامح التعامل المصري “الرسمي وغير الرسمي” مع قضايا المثليين جنسياً. الأولى، هي المعروفة إعلامياً باسم حادثة “الكوين بوت“، التي يمرّ هذا العام 20 سنة على وقوعها، وتحافظ على كونها من أكثر القضايا ذكراً بين المثليين حول العالم، لدى إثارة الحديث عن اضطهادهم، بعدما داهم ضباط من نيابة آداب القاهرة ومباحث أمن الدولة ملهى ليلياً داخل باخرة ترسو على شاطئ النيل في منطقة الزمالك، وألقوا القبض على 52 رجلاً، حوكموا أمام محكمة أمن الدولة العليا (المتخصصة في قضايا الإرهاب)، لتتصدّر الواقعة “مانشيتات” الصحف في الأشهر التالية.

والثانية، هي حادث حفل “مشروع ليلى” الذي شهد رفع أعلام المثلية الجنسية “الرينبو” بألوانها المميزة، وسط جمهور عام، وألقت قوات الأمن المصري القبض على 7 أشخاص اتهمتهم بـ”الترويج للشذوذ الجنسي، والتحريض على الفسق والفجور”. 

وعلى إثر الحفل والقضية، قضى أحمد علاء وسارة حجازي أشهراً في السجن، وشنَّ الأمن حملة اعتقالات طاولت عشرات المتهمين بممارسة المثلية الجنسية، وتصاعدت النبرة الحادة تجاه المثليين، حتى بين العوام في الشوارع والمقاهي، ليصبح العيش في مصر، بالنسبة إليهم، وتحديداً في حالة الاثنين اللذين قُبض عليهما، مستحيلاً. 

طلب الاثنان اللجوء، وسريعاً خرجا من القاهرة إلى كندا. ظنّ كثيرون أن أبواب الحظ انفتحت، والحياة ستضحك لهما أخيراً، حتى انتحرت سارة حجازي، وكتبت رسالة وداعها، بعبارتها الشهيرة: “إلى العالم.. كنت قاسياً إلى حد عظيم! ولكنني أسامح”.

كواليس الظلم كما رواها شاهد

ترسو الباخرة على نيل الزمالك كما يحدث كل ليلة، لكن هذا الفجر كان مختلفاً. اليوم التالي هو الجمعة، وضباط مباحث الآداب ينشطون مساء الخميس باحثين عن غنيمة نهاية الأسبوع، وجاء الدور على الباخرة التي تتكوّن من ثلاث طبقات، بينما يستقرّ الديسكو في الطبقة الأرضية. 

في تلك الليلة من أيار/ مايو 2001، كان صوت الموسيقى حماسياً، وأعداد الحاضرين قليلة على غير العادة، هناك من يرقصون، ومن يجلسون أمام البار للتدخين وتناول المشروبات الباردة.

اعتادت حلقة الرقص أن تستضيفَ رقصات حميمية بين الرجال، بينما يعرف العاملون بـ”الديسكو” أنه أصبح مقصداً رئيسياً للمثليين، لكن أحداً لا يجرؤ على قول ذلك حتى لا ينزعج الزبائن من البوح بسرِّهم.

يروي شاهد، أنه سأل صديقه: “تفتكر الناس اللي شغالة هنا مش عارفه اننا مثليين؟… أعتقد أنه باين أوي علي المكان والناس اللي فيه”.

توجّه صديقه إلى دورة المياه، وترك له السجائر والهاتف المحمول، بينما ظلّ هو في مكانه، يكمل مشروبه ويتفحّص وجوه الموجودين على حلبة الرقص… وفجأة، انخفض صوت الموسيقى تدريجاً، وتعالت الأضواء في المكان، على رغم أن السهرة لا تزال في بدايتها. 

استوقف النادل، وسأله عما يحصل، فردّ: “ولا حاجة، البوليس جه وبيعتقل شوية ناس، احنا متعودين على كده”.

شعر بأنه يذوب في جلده، وبدأ يقلق على صديقه “فادي” الذي لم يعد من دورة المياه، وجال ببصره في المكان فلم يلحظ شيئاً غريباً على تشكيلة الموجودين، لم يكن هناك أي ضباط بالزيّ الرسمي، أو غرباء عن المكان، بينما يتحرّك الندل بطريقة عادية… كأن شيئاً لم يكن.

التعبئة العامة ضد المثليين جنسياً في مصر مستمرة منذ واقعة “الكوين بوت”، التي صاغت الخطاب الأول ضد المثلية في صحف القاهرة ومجلّاتها.

ويحكي في مقال نشر في مجلة “احنا”، أول مجلة مصرية لمجتمع الميم، قبل توقفها فور صدور العدد السادس عشر بحلول أيار 2012، أنه اتصل بأمه ليودّعها: “كانت تمكث عند أمها في هذا اليوم، وكنت أريد أن أسمع صوتها وحسب، ولم أقل لها ما الذي يحدث هنا، قلت لها إنني أحبّها، وتمنيت لها ليلة سعيدة”.

غادر شاهد العيان المكان نهائياً، متحاشياً النظر إلى عناصر الشرطة والرجال الغرباء الذين يحيطون بالباخرة، وواصل طريقه من دون أن ينظرَ خلفه، لكن هول الموقف بقي مصاحباً له لأيام، ظل خلالها معتقداً أن الشرطة تلاحقه، أو تراقبه، وستأتي للقبض عليه. ذهب إلى السرير، وكان نائماً في وضعية الجنين، أغلق عينيه وبدأ الصلاة وتلاوة آيات من القرآن حتى غرق في النوم.

كان الوقت يقارب الصباح الباكر، ينام الشاب الذي أفلت من فخ “الكوين بوت” بينما يصارع صديقه فادي برفقة 51 معتقلاً أهوالاً أخرى في قسم شرطة الزمالك، وفرع أمن الدولة بوسط القاهرة. أكملوا سهرتهم في حفل من نوع آخر، كان التعذيب في أزهى عصوره، وتعرض بعضهم للاغتصاب، بأشياء خارجية كالعصي، على يد أفراد من الشرطة، ثم جاء دور الصعق بالكهرباء، ومنهم من تمّ تعليقه مقلوباً وضربه على قدميه، مع الألفاظ البذيئة والشتائم وسخرية أفراد الشرطة بكلمات من نوعية “مبسوط وأنت كده؟”. 

وكان الهدف من وراء تلك القسوة إجبارهم على التوقيع على اعترافات بأنهم “شواذ” جنسياً و”عبدة شيطان”. وقعوا كي تنتهي حفلات التعذيب وينتقلوا إلى ساحة أخرى تسمح لهم بالحديث والرد على الاتهامات. أمضوا ليالي في غرف مظلمة قبل نقلهم إلى السجن، وتمّت المحاكمة وفق اتهامات، أبرزها: الفسق والفجور وعبادة الشيطان، والتقاط صور عارية، والإتيان بما حرم القرآن، على رغم أن جميع المتهمين خضعوا لفحص شرجيّ، لم يحصل فيه سوى شخص واحد على إدانة مزودة بتقرير طبي. الأمر الذي يعني أن الحادث كان مدبراً ومفتعلاً، لسبب مجهول،والهدف منه ليس الوصول إلى الحقيقة، ربما كان تصفية حسابات مع شخص غامض ستظهر حكايته لاحقاً.

 كيف  استمتعت الصحف المصرية بسكب البنزين على النار؟

في قاعة المحكمة، غطى المتهمون وجوههم بعدما تلقوا توصيات من أسرهم بالتخفي، كي لا يتعرّف إلى “جريمتهم” الأقارب والجيران فمزقوا ملابسهم الداخلية البيض ليصنعوا منها أقنعة

لم يعرفوا أن الصحف تبرّعت في الأيام التالية بنشر صورهم وأسمائهم وأعمارهم ووظائفهم وأماكن عملهم وعناوين مساكنهم للتشهير بهم، والتنويه بأنه تم القبض عليهم “في أثناء قيامهم بممارسة أعمال مخلة وهم عراة وأن الحفل كان زواجاً بين شابين“.

قراءة عابرة في عناوين الصحف المصرية، في ذلك الوقت، تكشف أنها قادت حرباً ضد مواطنين مصريين لم تصدر بحقهم أي أحكام وأقنعت الناس بأنهم “عبدة شيطان” و”تنظيم ديني كافر” و”عملاء لإسرائيل” ويصورون أفلاماً جنسية في مناطق شعبية… وهي تعرف أن تلك الاتهامات كفيلة بإنهاء حياتهم، حتى لو برَّأتهم منها هيئة المحكمة.

وصفتهم إحدى الصحف بـ”عبدة الشيطان الشواذ” وأرفقت بالموضوع الصحافي نفسه صورة المتهم الأول بالقضية، مع  “تشديد الرقابة عليهم في السجن خوفاً من الاختلاط”. 

واستنكرت صحيفة أخرى اتهام مصر بـ”فوبيا الشواذ” تعليقاً على التقارير الحقوقية، على رغم تفاصيل واقعة “الكوين بوت”، التي تشير إلى تربص ورعب وتلفيق اتهامات. 

وفبركت صحيفة “الميدان” تقريراً بعنوان “العثور على صور جنسية شاذة للجماعة الإنترنت لجذب أعضاء جدد”، وقالت إنهم ينتمون إلى جماعة تسمى “وكالة الله في الأرض”، وإن أعضاxها “يبحثون عن جنة الخلد ورضا الرب ويؤمنون بشريعة تجمع بين الأديان الثلاثة”، ويديرون موقعاً على الإنترنت باسم “الشواذ العرب والمسلمين”.

ووصفت أخرى طلب الدفاع بإعادة الكشف الطبي على “الشواذ” أمام لجنة قانونية بـ”حاجة غريبة”، على رغم أنّ التشكيك في الكشوف التي تتم بمعزل عن اللجان القانونية من جانب فرق الدفاع والمحامين أمر طبيعي في المحاكم المصرية.

وخرجت مجلة “روز اليوسف” المصرية العريقة بعنوان “إنهم يدافعون عن الشواذ المصريين تحت شعار حقوق الإنسان” أعلى صورة لفتاة تقبل فتاة أخرى قبلة حميمية، في هجوم صريح على الجهات المدافعة عن حقوق الإنسان، وسيادة القانون، ودشَّنت مستوى آخر من النفاق السياسي، فدعت إلى إخضاع بيانات المنظمة الحقوقية لـ”أجهزة كشف الكذب والهوى” لأن، حسب قولها، “الذي نعتبره شذوذاً يرونه حرية شخصية، والذي نراه تخابر يعتبرونه حرية سياسية”.

وتمادت صحيفة أخرى في التشهير بهم، فقالت إنهم “عبدة شيطان وعملاء لإسرائيل وأطفال مشوشون وشواذ جنسياً”، وإن “شواذ العالم يعترضون على محاكمة شواذ مصر” إلى جانب أخبار مفبركة عن “تضامن إسرائيلي مع تنظيم (الأبطال الشواذ)”.

لم تحمل المعالجات الصحفية للقضية في مصر تنميطاً للقضية وللمثليين جنسياً، أو تشهيراً بهم وبأسرهم فقط. الأكثر من ذلك أنها سلَّمتهم للشعب الغاضب من جريمة تحدث على أرضه حين كان يصلي الفجر حاضراً في المسجد، فرسَّخت أوصافاً كـ”الشواذ” الكلمة الأكثر انتشاراً بعناوين الصحف في ذلك الوقت، وجعلتهم “تنظيماً”، لا مجرّد شباب في سهرة عابرة، إنما تنظيم حركي يدعو إلى المثلية الجنسية باعتبارها مذهباً وعبادة. وهنا أتت على الدين، الذي لا يتهاون فيه المصريون، فجعلت المقبوض عليهم دعاة دين جديد لعبادة الشيطان، ويشركون بالله، ويحجون إلى البحر الميت “أرض أسلافهم قوم لوط“، وبحسب تفسيرات إسلامية من يشرك يجب قتله. 

كانت الصحف تدعو إلى قتلهم علناً، أو – على الأقل – تدمير حياتهم ووصمهم بالعار مدى الحياة من دون أن تصدر المحاكم قراراً نهائياً بحقهم، فأقرّت أنهم عملاء للعدو الأول لمصر، الذي لا يزال ذكره في الأوساط الشعبية، يخلق غضباً وتوتراً حتى الآن، وادّعت أنهم “ذهبوا إلى إسرائيل وعادوا يحملون أفكار الكفر والضلال”، وأن تل أبيب تهاجم مصر للإفراج عنهم، كما يحدث دوماً مع الجواسيس، ونشرت صوراً للمتهم الأول بجوار علم إسرائيل باعتباره زعيم الجماعة، وأكدت أنه يعشق السفر إلى تل أبيب ويحرض على زيارة معابد اليهود، ويلتقي برجاله في 3 شقق في مناطق شعبية كالبساتين والدرب الأحمر وإمبابة، وكأنها تقول لهم إن “الخطيئة الكبرى” كانت تحدث بالقرب منكم، وربما يصبح أولادكم طرفاً فيها يوماً ما”. 

لغز المتهم الأول… الرجل الغامض في قضية “الكوين بوت”

على هامش المحاكمة، ذكر تقرير مراقبة حقوق الإنسان أن التنكيل بأحد روّاد “الكوين بوت” يعود إلى أسباب سياسية كان مقصوداً من الهجمة الشرسة، وكان هو المتهم الأول بالقضية، ويدعى “ش.ف” ويبلغ من العمر 32 سنة، وينتمي لعائلة سياسية. وذكر تقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش” أنه “رجل يهوى التصوير الفوتوغرافي، وله أعمال عرضت في معارض عدة، متدين وحجّ إلى بيت الله، والضباط داهموا شقته قبل القبض عليه في الباخرة، وأخذوا كل ملفاته، وصوره، وكتبه”.

وشهدت المحاكمة انتشاراً أمنياً غير مسبوق في أي قضايا أخرى، وسط أجواء متوترة، فكانت الحراسة مشددة، وفُرض طوق أمني حول ساحة المحكمة، وتضاعف الاهتمام الإعلامي، ووصفت ما يحصل بأنه “قضية فجور حقيقية بأوراق ونيابة وطب شرعي”، بينما يُسأل المتهمون في أشياء أخرى، ووفق تقرير مراقبة حقوق الإنسان “طرحت علينا أسئلة لا علاقة لها بالسبب الرئيسي، سألوا البعض إن كان عضواً في جماعة  (وكالة الله في الأرض)؟ وماذا يعرف عن الغلام الكردي؟ وهل سبق أن حضر اجتماعات دينية مع أحد المتهمين، وهل حضر حفلات زواج بين ذكور من بين طقوس الجماعة؟”.

لا تؤدي الأسئلة إلى اتهامات بالمثلية الجنسية، أو الفجور فقط… فكان يخطَّط لهم اتهام أكبر، وهو ازدراء الأديان، وتكوين منظمة دينية سرية.

قراءة عابرة في عناوين الصحف المصرية، في ذلك الوقت، تكشف أنها قادت حرباً ضد مواطنين مصريين لم تصدر بحقهم أي أحكام وأقنعت الناس بأنهم “عبدة شيطان” و”تنظيم ديني كافر” و”عملاء لإسرائيل” ويصورون أفلاماً جنسية في مناطق شعبية.

وسجّلت منظمات حقوقية اهتمت بقضية “الكوين بوت” شهادات المتهمين حول ما حصل، فقال أحدهم إن طبيباً سأله قبل الكشف الطبي: “كنتم بتمارسوا جوا المركب؟“… ردّ: “لاء”، فقال له: “ماشي، اقلع”. خلع الرجل ملابسه ثم “كشف عليّ، وأهانني، وقال لي: امضي هنا، وبعد الحكم، بقيت سنتين أفتكر الموقف كل ما أروح في النوم، وأعاني من كوابيس”.

في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2002، صدر الحكم، وسط حراسة مشددة ومُنِع أقارب المتهمين ومحاموهم من دخول قاعة المحكمة، ومُنع المتهمون أنفسهم من سماع الحكم، ويروي أحدهم أنه لم يسمع صوت القاضي ولم يعرف الحكم الصادر بحقه حتى عودته إلى سجن طرة: “مأمور السجن قرأ لنا أحكامنا”.

يومها، عرف المتهمون أن 29 منهم حصلوا على البراءة، وحصل الـ23 الآخرون على أحكام، أمَّا “ش.ف”، الذي يعتقد أن القضية لُفِّقت بالكامل لأجل كسرِ عينه، أدين بتهمتي “الفجور وازدراء الأديان السماوية”، وحكم عليه بالسجن 5 سنوات، وتراوحت الأحكام السجنية على بقية المتهمين ما بين سنة وثلاث سنوات، بتهمة اعتياد ممارسة الفجور، مع المراقبة بقسم الشرطة لمدة مماثلة لمدة الحبس.

“مافيا” اصطياد المثليين.. من الاتهام بـ”الفجور” إلى الانتماء لتنظيم إرهابي

لم يكن المتهمون، الذين أصبحوا مدانين بأحكام قضائية، وحدهم الذين تضرروا مما حصل في “الكوين بوت”. 

كانت قوات الأمن تتتبع من تشتبه في مثليتهم بالشوارع والمواقع الإلكترونية المخصصة للمحادثات، أو من كانوا على علاقة بمتهمي “الكوين بوت” حتى أن كثراً من المقربين منهم تقدموا بطلبات لجوء لدى سفارات عدة. 

كان معروفاً أن السلطات بدأت تلاحق المثليين بشكل ممنهج، وحصلوا على اللجوء بالفعل، كما فعل متهمو “الكوين بوت” بعد إطلاق سراحهم، معظمهم أمضى فترة المراقبة هادئاً وسوّى أوراق اللجوء على خلفية الاضطهاد الذي تعرّض له، ويعيشون حتى الآن في الولايات المتحدة وفرنسا وكندا، وبعضهم قرر الزواج من نساء كيْ ينفي تهمة المثلية الجنسية عنه، وتبرَّأوا من أصدقائهم القدامى، بحسب شهادة نشرتها “بي بي سي”.

خلفت القضية رغبة في الانتقام من المثليين والإيقاع بهم حتى لدى رجل الشارع العادي. بدا ذلك جلياً حين عرض فيلم “عمارة يعقوبيان” في دور السينما بعد قضية “الكوين بوت” بخمس سنوات فقط (عام 2006). يظهر الفيلم صحفياً مثلياً يحظى بوظيفة قيادية في إحدى الصحف المصرية الناطقة بالفرنسية، ويحاول الفصل بين حياته الخاصة وعمله، لكن الأمر ينتهي بمقتله، وفي ذلك المشهد، كانت تضجّ بعض دور السينما بالتصفيق الشديد فرحاً بنهاية الرجل الذي يبدو أنه يزعج كل السلطات، لا لشيء سوى اختلافه الجنسيّ.

وتوالت حيل الإيقاع بمثليين وإهانتهم في مصر

يبدأ الأمر بالأوصاف المتداولة في الشارع، على شاكلة “بطيخة” و”عجلة” بما تحمله من إيحاءات جنسية وتقليل من شأن الشخص في علاقته الجنسية، ويمر بالإيقاع بروّاد حمام “باب البحر” الشعبي في القاهرة بالتنسيق مع الأمن للاشتباه بكونهم مثليين تحت مسمى تحقيق استقصائي تجريه منى عراقي، ويصل إلى تعقبهم على مواقع الإنترنت والمجموعات المغلقة. 

ينتحل أحد أفراد الشرطة شخصية مثلي، ويخترق ذلك المجتمع المغلق ليوقع بأفراده، ولم يكن الأمر عبر مواقع المحادثات فقط، يملك المثليون مواقع تواصل اجتماعي و”صداقة” خاصة وقديمة، غزاها الشرطيون مبكراً، وأصبحوا يبذلون مجهوداً في التخفي والتنكر لاصطياد المثليين منها، وتطوّر الأمر للدخول بـ”مجموعات فايسبوك” للإيقاع بهم من طريق إقامة علاقات ومواعدات، تلك الطريقة التي يستخدمها – عادة – البلطجية لسرقة المثليين، يوهمونهم بالحب، ويدعونهم للقاء في إحدى الشقق، ثم يستولون على هواتفهم وأموالهم، ويهددونهم بالفضيحة حال إبلاغ الشرطة. 

وبحسب “م.س”، المثلي الذي يعيش بين القاهرة وإحدى المدن المطلة على البحر الأحمر، “أصبحت تلك الطرق تقليدية، فأفراد الشرطة يطاردونهم الآن عبر تطبيقات المواعدة العامة كتندر، وكذلك تطبيقات البثّ المباشر كتانغو، كما يطاردون الفتيات على التيك توك، لكن “أسلوبهم مكشوف، ونعرفهم بكل سهولة”. 

الخبرة الطويلة للمثليين في مقاومة السلطات والرقباء والمتربصين، منحتهم وعياً بأساليب الشرطة والنصابين والمعجبين والمحبين الحقيقيين… ولم يعد القبض عليهم سهلاً، فلديهم “كلمات سر ومجموعات مغلقة وعلاقات مشتركة تزكي شخصاً وتبعد آخر، وأساليب محترفة في التأكد، وعالم خفي يدير أموره بعيداً من الناس”، وفق “م.س”.

ولم يعد “الفجور” اتهاماً جاهزاً يتم إسقاطه على المثليين، الذين يعتقدون أن الدولة تغاضت عن ذلك الاتهام كي لا تزعج المنظمات الحقوقية والدول الداعمة للمثليين، وأصبحت تنسب لهم اتهامات أخرى كالانضمام لجماعة إرهابية، ليصبح الأمر أكثر رعباً، فـ”الفجور” يجلب حكماً بالسجن لعام أو عامين، على عكس الإرهاب الذي قد لا يرى صاحبه النور مرة أخرى.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.