fbpx

“لدغة عقارب”: الأثر السام لفساد قطاع النفايات في تونس!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يفترض أن يكون موقع الطمر هو الوجهة النهائية للنفايات المقرر دفنها. بيد أن بعضها، مثل الأطعمة منتهية الصلاحية أو الفاسدة، يخرج مجدداً من مكبّات النفايات، ليباع في المتاجر المختلفة في مدينة عقارب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه المادة تنشر بالتعاون مع “المبادرة العربية للإصلاح” ARI

القمامة تمثل مشكلة خطيرة للغاية. بل مشكلة قاتلة. وهذا ما حدث في عقارب. فقد “لدغت” القمامة يوم الخميس 26 أيلول/ سبتمبر 2019، آمال بن إبراهيم، التي نقلت على وجه السرعة إلى المستشفى في صفاقس. 

لقيت الشابة مصرعها صباح اليوم نفسه، والسبب لدغة بعوضة سامة. كانت آمال تبلغ من العمر 21 ربيعاً، وتعيش في مدينة عقارب. وفي اليوم نفسه، نشر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مقالاً عن وفاتها، رابطاً إياه بالتلوث الشديد في مكبّ القنة، ثاني أكبر مكبّات النفايات في تونس والذي يقع في مدينة عقارب. أودى التلوث بحياة آمال. وعبرت المقالة عن تضامنها مع حركة “مانيش مكبّ”، وهي حملة بيئية، بدأت قبل وفاتها، نظمها نشطاء من عقارب للدفاع عن حقهم الدستوري في بيئة صحية. وبعد 5 أشهر على تلك الحادثة، في 26 شباط/ فبراير 2020، نشر المنتدى مقالاً آخر عن عقارب، أدان فيه المضايقات والتهديدات التي تعرّض لها ناشطون في حملة “مانيش مكبّ”.

الفن في مواجهة التلوّث

سامي بحري كان واحداً من النشطاء الذين ساهموا بدور محوري في تنظيمها: “لقد اخترنا أشكالاً مختلفة من الاحتجاجات. فنحن لم نُقدم على حرق الإطارات أو قطع الطرق. بل استخدمنا الفن وشبكات علاقتنا للتحدث إلى الصحافيين، والظهور على شاشات التلفزيون مثلما حدث، على سبيل المثال، في واحدة من حلقات البرنامج الاستقصائي “الحقائق الأربع”، والعمل مع المنظمات غير الحكومية التي تساند قضيتنا”.

احتج سامي على السُمية البيئية في مدينته، من خلال إنتاج أعمال فنية حول هذا الموضوع بالتعاون مع الأطفال والشباب والشابات في عقارب. حتى إنهم أضفوا عليها حس الدعابة. ففي أحد النشاطات، نظموا جلسة تصوير ساخرة لمسابقة ملكة جمال تونس في مكبّات النفايات يتباين فيها الجمال مع القبح، مثلما صوروها. وفي نشاط آخر، أقاموا متجراً في سوق البلدية وعرضوا فيه زجاجات للبيع تحتوي على الهواء والتربة والصخور الملوثة في المدينة.

يصرّ سامي على التحدث بصفته ابناً من أبناء مدينة عقارب وقد عانى هو شخصياً بسبب البيئة السامة التي يعيش فيها: “كان البقال في الحي الذي أقطن فيه يبيع قالب الحلوى بسعر 3 دنانير تونسية في ليلة رأس السنة الجديدة، والناس يشترونه. فالأطعمة منتهية الصلاحية التي تدخل مكبّ النفايات هذا بغرض التخلص منها نهائياً تعود مرة أخرى إلى متاجرنا. والناس يشترونها، وأنا أشتريها. نحن لسنا مواطنين، ولسنا أحياء”. 

يفترض أن يكون موقع الطمر هو الوجهة النهائية للنفايات المقرر دفنها. بيد أن بعضها، مثل الأطعمة منتهية الصلاحية أو الفاسدة، يخرج مجدداً من مكبّات النفايات، ليباع في المتاجر المختلفة في مدينة عقارب. ويفسر سامي هذه الظاهرة بأنها فساد مزدوج: داخل وخارج مكبّات النفايات. يتمثل الفساد الداخلي في عملية نقل النفايات السامة ذاتها إلى المكبّ، وهو أمر غير قانوني لأن هناك أحكاماً خاصة لمعالجة هذه النفايات والتخلص منها. في حين يتمثل الفساد الخارجي في نقل الأغذية الفاسدة من مكبّات النفايات وإعادة بيعها في المحلات التجارية المحلية. فضلاً عن أن عدد العاملين في مكبّ النفايات خلال أيّ يوم يتراوح ما بين 70 إلى 80 موظفاً دائماً. وبإمكان أي منهم أن يسهل حدوث ذلك الفساد المزدوج. قبل بضعة أسابيع من المقابلة التي أجريناها، اتصل أحد أعضاء حملة “مانيش مكبّ” بسامي. فقد اشتبه في أن شاحنة تحمل نفايات سامة، وغير مرخص لها بالدخول إلى مكبّ النفايات، كانت في طريقها لإفراغ حمولتها. وعند الفجر، تجمع سامي وعدد قليل من أعضاء الحملة في مكبّ النفايات لمنع دخول الشاحنة: إلا أن سائقي الشاحنات هددوهم بالسكاكين. وقد كانت هذه الواقعة أحد الأمثلة الكثيرة التي تلقى فيها أعضاء الحملة تهديدات متكررة بالقتل بسبب نشاطهم البيئي.

المكبّات كباب رزق!

الأمر الذي بدا مستعصياً على سامي، وزاده خوفاً على حياته، هو الحوافز العكسية التي اضطر الكثير من جيرانه إلى الدفاع عنها، على رغم وجود أنشطة مسببة للتلوث الشديد في ما بينهم. ففي بلدة يبلغ عدد سكانها 40 ألف نسمة، يرتبط مصدر رزق كل أسرة فيها بطريقة أو بأخرى بمكبّ النفايات من خلال العمال الذين يملأون عشرات المصانع وغيرها من المنشآت الصناعية في المدينة. وإضافة إلى المكبّ “الصحي” للنفايات، تدير المصانع الكثير من مكبّات النفايات غير الرسمية (مكبّات عشوائية) المنتشرة في مختلف أنحاء المدينة. يعتبر سكان المدينة أن الحركات البيئية التي تعارض هذه الأنشطة الصناعية المسببة للتلوث، تُشكل تهديداً لسبل عيشهم. فمن دون هذه المصانع، لا توجد رواتب. ومن ثم سوف يتضوّر الناس جوعاً. وقد فهم سامي خطورة هذه الآليات المنحرفة. “أشعر بالوحدة” هكذا يعرب سامي عن صعوبة محاربة الرأسمالية الابتزازية. لكنه لم يستسلم. تبنّى سامي نهجاً سياسياً ذا توجه مستقبلي. إدراكاً منه أن ما قام به كان من أجل أطفاله وجيلهم. وأنه كان لزاماً عليه أن يبدأه، حتى مع علمه أنه وعلى الرغم من بذل قصارى جهده، ربما لن يتمكن من استكمال هذه المهمة الصعبة حتى النهاية.

“لدغت” القمامة آمال بن إبراهيم، التي نقلت على وجه السرعة إلى المستشفى في صفاقس.

أدرك سامي أيضاً أن جسده وأجساد سكّان عقارب، ومن بينهم العمّال الذين يكسبون رزقهم من العمل في مصانعها، يمكن الخلاص منها؛ إذ يُعتبرون فائضاً لسردية الدولة التونسية الحديثة، ومن ثَمّ قد يُضحَّى بهم للحفاظ على حداثتها الصناعية واستدامتها. لم يكن الحفاظ على سلامة هذه الأجساد من أولويات الدولة. ففي لحظة ما، خلال حديثه مع وسائل الإعلام، قال سامي موجهاً حديثه إلى من هم في السلطة: ”لماذا نحن؟ لماذا عقارب؟ ماذا فعلنا لنستحق هذا؟“ وطالب الدولة إن كانت لا تستطيع إزالة النفايات أن تنقل الناس إلى خارج عقارب.

تبنّت البلدية في المدينة موقف الحملة، داعمةً ما وجدت فيه مطالب مشروعة للمواطنين. وفي تباهٍ بدور الوساطة الذي تلعبه البلدية، يقول  هاني يوسف، رئيس قسم الخدمات الإدارية والمالية، إن “البلدية استطاعت إدارة هذه الأزمة بنجاح”. ففي بلديات أخرى،كانت قوات الشرطة تتدخل لقمع المحتجين، مُطلَقةً العنان للعنف ضد المعارضين. أما في عقارب، يتابع هاني، “فقد دافعت البلدية عن أولادنا لسببين: أولاً لأن مطالبهم مشروعة. ثانياً، لم يكن نضالهم ضد البلدية، إنما ضد آفاق تنموية متهالكة وضد رجال الأعمال النافذين الذين يمتلكون المصانع ويديرونها في صفاقس وعقارب”. لماذا إذاً كان الناس ينظمون احتجاجاتهم ضد الجماعة المحلية أمام المعتمدية والبلدية؟ وفقاً لما يقوله هاني، فإن المشهد المؤسسي المعقد قد أدى إلى تفكيك المسؤولية تجاه تشغيل مصبّ النفايات وإغلاقه، وبذلك أُعيدَ تشكيل الصراع من جديد. وبدلاً من التصادم بين المصانع والمواطنين، فإن ما وقع هو الخلاف بين مؤسسات الدولة: الجماعة المحلية في مواجهة الدولة المركزية.

كغيرها من البلديات التي شهدت توسيع حدودها بعد تقسيم البلاد بكاملها إلى بلديات في 2014، كانت موارد عقارب شحيحة للغاية. أضيفت سبع معتمديات، يقطنها 25 ألف نسمة، إلى حدود البلدية. كانت لديهم مظالمهم المتعلقة بالتلوث الناتج عن المصانع؛ وأمكنهم التعبير عنها في لقاءات التخطيط التشاركي السنوية التي تعقدها البلدية لوضع أولويات الاستثمار. تتحدث عبير غزالة، وهي محامية في البلدية منخرطة في حملة “مانيش مكبّ”، وترأس لجنة التخطيط التشاركي، بإيجابية عن تلك التجربة. وتقول إنه إذا أراد أحد سكان عقارب اليوم أن يعيش في منطقة ريفية، فلديه فرصة الوصول إلى الطرق المُعبَّدة. وتعتبر هذه قصة نجاح في مشاركة المواطنين الذين حدّدوا أولويات الاستثمار في البلدية، وحصلوا على ما طالبوا به. لقد زادت ميزانية عقارب للاستثمارات المحلية (الخدمات المحلية، من قبيل إنارة الشوارع وتمهيد الطرق وتجميل المساحات الخضراء) من 750 ألف دينار تونسي في 2019 إلى مليون و950 ألف دينار في 2020.

إضافة إلى ذلك، تملك البلدية ميزانية بقيمة 6 ملايين دينار تونسي من أجل الاستثمارات الهيكلية، وهي ميزانية ضخمة بالنسبة إلى بلدية بحجم عقارب. لا شك في أن عقارب، من منظور مقارن، تعد بلدية ثرية، فهي موطنٌ لكثير من المنشآت الصناعية. وكما ذكر هاني، إذا كانت مؤسستهم في عقارب “لها ثمن وتكلفة” فلماذا لا نُسيِّل هذا “الثمن” إلى أموال بدلاً من استخدامه تعبيراً مجازياً فحسب؟ فإذا استخدمت البلدية أحكام القانون الأساسي للجماعات المحلية لفرض ضريبة على الصناعات الملوِّثة، فقد تستطيع مضاعفة هذه الميزانية مرّات عدة، ويمكنها النظر في استخدامها لإغلاق مكبّ النفايات. علاوة على هذا، قد تشكل تقنيات الحسابات شكلاً من أشكال المعارضة والمحاسبة.

تعاملت بلدية عقارب مع مشكلة مكبّ القنة من طريق الإجراءات التكنوقراطية المعتادة. أثار موظفو البلدية مسألة تضارب الولايات المؤسسية وافتقار الدعم من الكيانات المركزية، بما فيها الولاية والوزارات التنفيذية المعنية. 

وبالنسبة إلى سؤال سامي، الذي قال فيه “لماذا نحن؟”، ولماذا يكون مكبّ نفايات لعموم ولاية صفاقس موجوداً في عقارب، قدم هاني إجابة فنية لا علاقة لها بإمكان التخلص من فئات معينة على حساب أخرى. كانت إجابته الفنية ذات صلة بعدم نفاذ التربة الطينية. وبحسب ما نقله إلينا بكلماته: “مش بالعاني في عقارب” (ليس الأمر متعمّداً)، لكنها بالأحرى خيار مناسب بالنظر إلى طبيعة تربة المدينة. يكمن أحد تفسيرات هذه الفجوة، القائمة بين تقييم المشكلة والاستجابة لها، في الاختلاف في تعريف ماهية “البيئة” ومضمونها. يرى كثر من مسؤولي البلدية الذين على شاكلة هاني، أن مشكلة مكبّ النفايات ظلت غير مُجسَّدَة لأن البيئة موجودة “في الخارج”، ولا تؤثر مباشرة في سكان المدينة. بينما يرى سامي ونشطاء حملات الدفاع عن البيئة أن البيئة هي شيء يبتلعونه. إنها تُمرِضهم، وتهدد سلامة أجسادهم وأجساد أحبائهم. ولذا تصير المعركة من أجل بيئة صحية ضرورة ملحّة.

إقرأوا أيضاً: