fbpx

“ديمقراطية أبي”: في رثاء الأب ونقد الوطن والاستبداد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“سألت أمّي: ما معنى الوطن؟ أجابت بحسرة: طوال خمسة وثلاثين عاماً ووالدك يتحدّث عنه. بصراحة، لم ألتقِه أبداً. وإذا التقيته، سأقتله بيدي. لأني أشكّ بأنه من يقف وراء استشهاد والدك”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“استشهد والدي برصاص مسلّحين مجهولين. في المستشفى، وقبل أن أغلق عيون أبي، رأيت فيهما صورة القاتل وبندقيته. وسمعت صوت والدي يهمس في أذني: لا تصالح”. بهذه الأقصوصة، يفتتح الكاتب فايز مشعل التمو كتابه المعنون بـ”ديمقراطيّة أبي”، الصادر في 73 صفحة من القطع المتوسّط، عن دار “أوراق” في القاهرة عام 2016. النصّ على كثافته، واقتصاده في الكلام، لا يفصح عن جريمة اغتيال وحسب، بل عن أن ابن “الشهيد”، عرفَ قاتل أبيه، ورآه متلبّساً بأداة ارتكاب الجريمة. ذلك أن آخر صورةٍ رأتها عينا الضحيّة كان وجه القاتل، فحفظتها ووثّقتها، وقدّمتها للعالم. معطوفاً على ما سلف، آخر ما قالته الضحيّة وأوصت به، هو “لا تصالح”. أبعد من ذلك، الأقصوصة تؤكّد على أنه مهما كان القاتل محتاطاً حريصاً على أن تكون جريمته كاملة، دون أثر أو دليل، إلاّ أنه فشل في محو صورته المطبوعة في عيني ضحيّته. إذن والحال هذه، صحيح أن جريمة اغتيال الناشط والقيادي الكردي مشعل التمّو، سُجلت ضدّ مجهول، إلاّ أن نجله الكاتب يعرف القتلة، وسمع وصيّة والده الأخيرة؛ “لا تصالح”. ولأن الكاتب مثلما افتتح كتابه بهذه القصّة، اختتمه بها، بوضعها على الغلاف الخلفي للكتاب. وعليه، السؤال هنا: في هذه الحركة الدائريّة؛ من حيث بدأ الكتاب وانتهى، هل هذه القصّة القصيرة جدّاً، تحمل خطاباً داعياً للثأر والانتقام؟ و”لا تصالح” مَن؟ هل القاتل الذي هو مجرّد أداة مأجورة؟ أم الجهة والنظام إذ يقفان وراء جريمة الاغتيال تلك؟!

غلاف كتاب “ديمقراطية أبي”

أهدى الكاتب مؤلّفه إلى والده مشعل التمّو الذي اغتيل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2011. ونشر الكاتب 91 مقطعاً أو نصّاً في كتابه، منها ما هو مرقّم ومعنون، ومنها ما هو معنون فقط. ووزّع تلك المقاطع أو النصوص القصيرة على ثلاثة فصول أو محاور، هي: “في حضرة والدي” (10 نصوص)، و”في حضرة الوطن: لوحات من سوريا” (70 نصاً)، و”معاناة اختفى منها السرد” (11 نصاً). 

تجنيس النصّ

حسناً فعل الكاتب بعدم تحديد “جنسيّة” نصوصه الواردة في الكتاب، بحيث أتى الغلاف خالياً من أيّ توصيف أو تعريف (قصص، نصوص، رواية، شعر…). كذلك لم ترد في بيانات الكتاب أيُّ توصيف وتصنيف من شأنهما تحديد هويّة النصوص أو تجنيسها. وتأكيداً على ذلك، استخدم الكاتب مقولة للشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف كعتبة أولى لكتابه: “أنا لا أُصرّ على إعطاء هويّة لما أكتب. عمّدوا بالاسم الذي تختارونه ما سوف يخطّه قلمي. لستُ أكتب لكي أوافق واحداً من القوانين التي وضعتموها. ولكني كتبتُ ما كتبت، لألبّي نداء قلبي. والقلب لا يعرف قانوناً. أو بالأصحّ؛ أن للقلب قوانينه التي لا تناسب الناس جميعاً”. وعليه، ربّما انسجاماً مع رغبة صاحب الكتاب المضمرة في توظيف مقولة حمزاتوف، قام الكاتب والشاعر والروائي إبراهيم اليوسف، الذي قدّم الكتاب، بتجنيس النصوص على أنها قصص قصيرة جداً (ص9). وهذا الحكم – التجنيس، على صوابه، ينطبق على معظم النصوص، وليس كلّها. فهناك نصوص عبارة عن سطر، أو نصف سطر، لا تستوفي خصال القصة القصيرة جداً (ق.ق.ج) وخصائصها وشروطها. على سبيل الذكر لا الحصر: “تكبير: أكثر من 200 ألف شهيد، ومليون لاجئ، وآلاف المعتقلين والمفقودين” (ص64). و”عمالة: قبل الثورة لإسرائيل، وبعدها لقطر وتركيا” (ص64). و”انفصال: تهمة الكردي، وقلق العربي” (ص64)، و”تهمة أردوغانية: لذلك الكردي الذي لا يصفّق لأحد” (ص65)، و”يا حيف: أكبر كذبة درسناها في مدارس آل الأسد هي… الوطن العربي!” (ص67)، و”لوحة 1“: “في كل دول العالم، الشعب يختار حاكمه. في سوريا الحاكم يختار شعبه” (ص22)، و”لوحة 6“: يخرج الثوار في جمعة تحت اسم: مُهلكم تقتلنا، ويقصدون المجتمع الدولي. وينسون أن الله أيضاً يمهل ولا يهمل” (ص 24).. وقس على ذلك نصوصاً أخرى واردة في الكتاب. ما يعني أن العديد من النصوص هي أقرب إلى التغريدات أو “البوستات” القصيرة التي يكتبها وينشرها أصحابها على مواقع التواصل الاجتماعي، للتعبير عن رأيهم وموقفهم حيال أحداث أو ظواهر معيّنة. فليس وحده الاقتصاد في اللغة ما يجعل من النصّ قصّة قصيرة جدّاً.

“أنا لا أُصرّ على إعطاء هويّة لما أكتب. عمّدوا بالاسم الذي تختارونه ما سوف يخطّه قلمي. لستُ أكتب لكي أوافق واحداً من القوانين التي وضعتموها. ولكني كتبتُ ما كتبت، لألبّي نداء قلبي. والقلب لا يعرف قانوناً. أو بالأصحّ؛ أن للقلب قوانينه التي لا تناسب الناس جميعاً”.

في مقابل ذلك، هناك نصوص من الاكتمال والنضوج والرشاقة وطاقة التأثير والإيحاء ما يجعلها قصصاً قصيرة جداً، كاملة الأوصاف والأركان. على سبيل الذكر لا الحصر، أقصوصة “وراثة”: “بعد استشهاد والدي، ورثت عنه كلّ شيء تقريباً؛ مكتبته، حقيبة يده، حاسوبه الشخصي، قلمه، أوراقه البيضاء، فنجان قهوته. وأيضاً نفس رسائل التهديد التي كانت تصله” (ص15). في هذا النص الذي لا يتجاوز عدد كلماته الـ25 كلمة، هناك شخصان، الأب وابنه. وحدثان؛ الاستشهاد والتوريث. والأشياء التي انتقلت من الضحيّة إلى ابنها. والسؤال الخفي الذي تطرحه الأقصوصة: التهديدات التي نفّذها أصحابها في استهداف الأب، هل سينفّذونها في استهداف الابن أيضاً، استكمالاً لعملية الوراثة؟ وإذا كانت الضحيّة أورثت ابنها القضيّة والأشياء الخاصّة والتفاصيل الشخصيّة، فماذا سيورث القاتل ابنه؟ هل سيورثه خصاله، أحقاده، وكراهيته وأدوات جرائمه؟ ما يعني أننا أمام الصورة الظاهرة للضحيّة وابنها في هذه القصّة، هناك صورة خفيّة غير ظاهرة، للجلاّد وابنه أيضاً.

العنوان والغلاف

في أيّ قراءة لكتاب أدبي، لا يمكن تناول النص أو النصوص في معزل عن العنوان، التقديم، الغلاف، الإهداء، الفاتحة أو العتبة الأولى الممهدة الأولى للعمل والمصّدر له. بمعنى آخر، كلّ تفصيل من تفاصيل الكتاب له دلالة، تصبّ في حزمة دلالات العمل الإبداعي عموماً. فالعنوان “ديمقراطي أبي” سهل وقصير، الكلمة الأولى منسوبة للثانية. لكن إذا أخذنا العنوان في معزل عن الغلاف، نرى أنه على بساطته، لا يعطي معناً قطعي الدلالة. فهذه الديموقراطيّة المشار إلى نسبها، أهي حقيقيّة كاملة، أم منقوصة؟ أم هي بالضدّ من المعنى المتعارف عليه للديموقراطية؟ وبعطف العنوان على تفاصيل الغلاف: بيوت مهدّمة، أنقاض، ردم، وظلان معتّمان لشخصين جالسين ومن أمامهما الخراب، غالب الظنّ أنهما أب وابنه، يتأمّلان الخراب، في الوجه الأوّل للغلاف، وفي أعلى الوجه الخلفي للغلاف، مسقط ضوئي، يشقّ العتمة، وينير أسفل المكان، ويظهر المزيد من البيوت المهدّمة. على الغلاف الخلفي موضوعة القصّة الأوّلى من الكتاب، كما ذكرنا، ويمكن اعتبارها وصية الأب الأخيرة “لا تصالح”، كلّ ما سلف، يشي أن ديموقراطيّة الأب، ختامها أمرٌ بعدم التصالح مع القاتل. لا تصالح مع صانعي الخراب. لا تصالح مع أعداء الديموقراطية والحرية. وعليه، ومن هنا، يمكن فهم دلالة العنوان المكتوب باللون الأحمر، المجلل بالأبيض، ومن خلفه لوحة الخراب بألوانها الرماديّة والداكنة. بمعنى آخر، ديمقراطيّة الأب تلك، تشرحها الأقصوصة على الموجودة على الوجه الخلفي للغلاف، وما يصدّره الغلاف من تكوينات وألوان وظلال وخراب.  

في نقد الوطن والحرية

يتّهم الكاتب الوطنَ بأنه مشتبه بتورّطه أو ضلوعه في اغتيال والده. وذلك في قصّة “الوطن في عيون أمّي” إذ يقول: “سألت أمّي: ما معنى الوطن؟ أجابت بحسرة: طوال خمسة وثلاثين عاماً ووالدك يتحدّث عنه. بصراحة، لم ألتقِه أبداً. وإذا التقيته، سأقتله بيدي. لأني أشكّ بأنه من يقف وراء استشهاد والدك” (ص16). صحيح أن عنوان الأقصوصة “الوطن في عيون أمّي” إلاّ أن الصحيح أيضاً أن عينيّ الابن أيضاً يجهل الوطن، وينقل كلاماً عن أمّه، وأنها تجهل معنى الوطن. وما تعرفه أن زوجها تحدّث عنه طيلة 35 سنة، وتشكّ بوقوفه وراء جريمة اغتياله. وأنها مستعدّة لقتل الوطن على الظنّ والشبهة، في حال عثرت عليه. فما نفع الوطن الذي لا يأتي ويتحقق إلاّ بعد أخذه الأحباب والأعزّاء قرابين له؟! وطنٌ يجعلُ دماء الأحبّة مهرَ حريّته، هو قاتلٌ ينبغي الاقتصاص منه. هذا ما تومئ إليه القصّة. كذلك في القصّة رقم 9، وعنوانها “ضاع الوطن”، يربط الكاتب فقدان الوطن بفقدان الأحبّة. زد على هذا وذاك، الفصل أو المحور الثاني “في حضرة الوطن: لوحات من سوريا” والنصوص السبعين الواردة فيه، كلها في نقد الوطن والنظام، ومحاولة نقل جانب من تفاصيل الحياة في “سوريا الأسد”، تمثيلاً وليس حصراً، أقصوصة (راعي): “بعد أن ورث من أبيه كلاب الحراسة والحمار، شرع في اختيار القطيع” (ص26). قصة من سطر واحد، تختزل سيرة بلد ونظام من موت الأسد الأب ولغاية اللحظة، مع فارق طفيف؛ أن الراعي الوريث، أورثه والده الطاغية القطيع أيضاً. 

ما نفع الوطن الذي لا يأتي ويتحقق إلاّ بعد أخذه الأحباب والأعزّاء قرابين له؟

في هذه الكتاب، طغيان الهمّ الوطني السوري، لم يلغِ الهم القومي الكردي، فتداخل الوطنان؛ سوريا وكردستان، بتمازج همومهما في نص “يتامى” الذي حاول فيه الكاتب توصيف حال كرد سوريا: “اثنان وأربعون عاماً ونحن نهتف: أمّة عربيّة واحدة. مئة عام ونحن نهتف لكردستان. وما نحن إلاّ يتامى العرب، ويتامى أكراد تركيا والعراق” (ص46). 

هفوات تقنية

ولأن “ديمقراطيّة أبي” الخطوة الأولى لفايز التمّو في عالم الكتابة الأدبيّة، لا مناص من أن تشوب نصوص الكتاب بعض الهفوات التنقيّة التي تشوب أغلب الأعمال الأولى لأغلب الكتّاب والكاتبات. وكان يفترض بإبراهيم اليوسف، باعتباره قدّم للكتاب وكاتبه، (وبحكم مراس وخبرة وتجربة اليوسف في عالم الكتابة التي تمتد لما يزيد عن أربعة عقود)، أن يلفت انتباه المؤلّف إلى تلك الهنات والهفوات التي لا تخطئها عين متمرّسة وخبيرة. على سبيل الذكر لا الحصر، ما جاء في القصة رقم 1: “في المستشفى وقبل أن أغلق عيون أبي…”، والصواب: عينيّ أبي. وتكررت الهفوة في أماكن أخرى من الكتاب، منها؛ عنوان القصة رقم 6 “الوطن في عيون أمّي” والصواب: في عينيّ أمّي.

على رغم الاقتصاد والتكثيف اللغوي الموجود في النصوص، إلاّ أن بعضها، لزمه المزيد من التشذيب. على سبيل الذكر، جاء في قصة “قاص من ذلك الزمان” العبارات التالية: “كان يكتب الكثير من القصص، ولكنه لم ينشر أيّاً منها، لأنه كان يخشى من الحكومة والرقابة الأمنية” (ص54). ويمكن اختزال العبارات لتصبح: “كتبَ الكثير من القصص. لكنه لم ينشرها، خشيةَ الرقابة الأمنية”. الصيغة الأولى المنشورة 17 كلمة، والصيغة المفترضة 10 كلمات. وعليه، مع حذف 7 كلمات، هل اختلَّ المعنى؟! لا اعتقد.

بالعودة إلى السؤال المذكور آنفاً، القصة القصيرة الأولى التي بدأ الكاتب كتابه بها ثم اختتمه بها أيضاً، أهي دعوة للثأر والانتقام؟ لا أعتقد ذلك. فالكتاب محاولة أدبيّة من مؤلّفه لرثاء الأب، ونقد الوطن والثورة والحرب والاستبداد. ومحاولة لدفن الأب في كتاب، وتخليده أيضاً. هي دفعة على حساب المديونيّة التي يشعر بها الابن تجاه والده “الشهيد”. فصحيح أن الأب أورث الابن كل شيء تقريباً، حتّى رسائل التهديد التي تلقّاها، إلاّ أن الابن ليس مضطرّاً لاستخدام خيارات الأب وأدواته، أثناء تبنّي قضيّته؛ قضيّة الديموقراطية والحريّة، التي فقد حياته في سبيلها. خيار الابن هو الكتابة والأدب، بينما خيار الأب كان السياسة وأفعالها، إلى جانب مزاولة فعل الكتابة بين الحين والآخر.

خلاصة القول: ديموقراطيّة الآباء، مهما كانت جميلة ورصينة ولها ضرائبها وأكلافها الباهظة، ليست بالضرورة هي نفسها، ديموقراطيّة الأبناء. يعني؛ “ديمقراطيّة أبي” ليست بالضرورة ديموقراطيّة الابن أيضاً. واستخدام فايز التمّو، كلمة “تقريباً” في قصّة وراثة “بعد استشهاد والدي، ورثت عنه كلّ شيء تقريباً؛…”، تلك الكلمة فتحت القوس لاحتمال عدم توريث الأب ديموقراطيته لابنه. لكن الكلمة نفسها، لم تغلق القوس على صواب ذلك الاحتمال، بل تركته مفتوحاً. 

إقرأوا أيضاً: