fbpx

لنتذكّر سارة حجازي وحنان الطويل :
أيها العالم كنت قاسياً جداً!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

دُفنت قصة حنان معها، في وقت سبق ظهور السوشيال ميديا وقوتها وسرعة انتشارها، بخلاف سارة حجازي، التي استطاعت تدوين معاناتها ومعاناة كثيرات غيرها من العابرات والمثليات…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“كانت عايزة حد يطبطب عليها، أعتقد أنها فعلاً انتحرت لأنها اكتشفت أن الناس مش قادرة تتقبلها، كنت بشوف ناس كتير في التصوير بتخاف منها، كانت بتتعرض للتنمر و بتعيط وتنهار على المستوى النفسي، وكانت دايماً تسأل ليه الناس بتعاملني كده”.

جددت الفنانة المصرية لقاء الخميسي في حوار تلفزيوني مطلع حزيران/ يونيو 2021، الحديث عن الفنانة المصرية العابرة جنسياً حنان الطويل، بعد انقطاع الكلام حولها  منذ سنوات طويلة بعد رحيلها عام 2004، وقد ساد الغموض كواليس أيامها الأخيرة بعدما عاشت مأساة كبيرة مع جيرانها الذين تنمروا عليها وأدخلوها مستشفى “العباسية للأمراض النفسية والعقلية”، وهناك انتحرت! أو كما ورد في رواية أخرى “ماتت نتيجة جلسة كهربائية زائدة في علاجها”.

حديث لقاء الخميسي عن الطويل  بدا وكأنها تحكي عن سارة حجازي أيضاً، الناشطة النسوية المصرية المدافعة عن حقوق المثليين/ المثليات، والعابرين/ العابرات، والتي تحل راهنً الذكرى الأولى لرحيلها منتحرة تاركة رسالتها للعالم، “كنت قاسياً إلى حد عظيم لكنني أسامح”.

عاشت حنان الطويل في اغتراب وخوف وجذبها الوصم مثل وحش لا يرحم لتموت هي الأخرى، لم تترك للعالم رسالة مكتوبة، لكن سارة حجازي فعلتها عنها، إذ قالت “أيها العالم كنت قاسياً إلى حد بعيد”.

 سارة وحنان والصعق بالكهرباء 

لا تأتي التقاطعات التي عاشتها سارة حجازي وحنان الطويل من باب المصادفة، فالجحيم الذي حاصرهما فيه المجتمع الرافض للمثليات والعابرات جعلهما تمشيان على الأشواك ذاتها. رفعت سارة حجازي علم الرينبو في حفل فرقة “مشروع ليلى” اللبنانية في القاهرة عام 2017، وإثر ذلك قُبض عليها مع آخرين، وقضت في السجن ثلاثة أشهر. روت سارة في شهادتها عن الانتهاكات التي واجهتها، منها الصعق بالكهرباء داخل السجن، ” تم تعذيبي بالكهرباء! وتم تهديدي بإيذاء أمي إن أخبرت أحداً، أمي التي ماتت بعد رحيلي. لم يكتف النظام بتعذيبي، بل حرّض رجال قسم السيدة زينب نساء التخشيبة على التحرش الجنسي واللفظي بي، لم يقف التعذيب هنا، بل كان هناك المزيد من التعذيب النفسي ضدي، في سجن القناطر والزنزانة الانفرادية لأيام وأيام، قبل الانتقال إلى عنبر مُنعت فيه من الحديث مع السيدتين المسجونتين معي، مُنعت من التريض في نور الشمس طيلة مدة حبسي، إلى أن فقدت القدرة على التواصل بالعين مع الآخرين”.

في بداية الألفية الثانية كانت الممثلة المصرية العابرة  حنان الطويل أنجزت أدواراً كوميدية في السينما المصرية، وتركت بصمة واضحة حتى الآن. لكن الطويل التي احترفت الأدوار الكوميدية أمام الكاميرا، كانت تعيش تراجيديا غير معلنة خلفها.

“كانوا بيتنمروا عليها في اللوكيشن، ومرة دخلت غرفة الملابس، راجل من كاست العمل خاف منها وجري وقعد يزعق كان فاكر إنها هتتحرش بيه لمجرد أنها عابرة، لم تفهم حنان ما يحدث وانهارت باكية”.

إقرأوا أيضاً:

ما كشفته الخميسي يعكس حجم الجحيم الذي عاشته الطويل، فالوسط الفني بكل انفتاحه المفترض لم يتقبلها وكانت كواليس “البروفات” مصحوبة بالبكاء بسبب التنمر . فكيف كانت حياة الطويل خارج التصوير مع مجتمع أقل انفتاحاً وأقل تفهّماً.

ما تم تداوله في الصحف المصرية بعد رحيل الطويل أنها تعرضت لتنمر بالغ من جيرانها، بسبب عبورها الجنسي، وهؤلاء الجيران أبلغوا عنها مستشفى “العباسية للأمراض النفسية والعقلية” واتهموها بالجنون. وهذا المستشفى ما زال يعالج مرضاه بجلسات الكهرباء، وقبل 15 عاماً كان الصعق بالكهرباء منتشراً بلا ضوابط بالغة لعلاج المرضى النفسيين. وسواء ماتت حنان الطويل بالصعق الكهربائي أو انتحاراً، فالأكيد أنها عاشت مخذولة من محيطها الاجتماعي والفني.

عاشت الطويل عقدين من عمرها باسم “طارق”. كانت تعتمر قبعة وتظهر في صور جادة بملامح محايدة لا تبادر بالابتسام، عكس حنان التي انطلقت بعد عملية العبور الجنسي في إضحاك الملايين، تذكر المصادر المتاحة أن عائلة حنان الطويل كانت تدعمها بشكل كبير، لكن العائلة الكبيرة المتمثلة في الطبقة الوسطى المصرية كانت عدائية معها بشكل أوصلها إلى المصير المؤلم.

ومثلها سارة حجازي التي لم تفارقها معاناتها مع أوساط تقليدية  لم تتركها وشأنها حتى بعد رحيلها إلى كندا. 

ازداد الاستهداف مع خطابات الصحوة الإسلامية وتفشي الهلع من غزو ثقافي غربي ورغبة في حماية القيم، والخوف من الذوبان في “الغربي المنفلت”. خطابات رسخها شيوخ “البيزنس” الديني على مدار سنوات وعززته الدولة لحماية سلطتها على الشعب، باعتبارها دولة متدينة تعادي العلمانية كخطاب يحرض على المعارضة في صورها كافة.

كانت سطوة هذا الخطاب الذي تغلغل في أوساط طبقة وسطى بالغة القسوة على سارة حجازي وهي فتاة لا تتجمل سوى بابتسامة ناعمة، وخطاب إنساني صادق، تتضامن مع الجميع وتؤمن بانتصار الخير في صورته الطفولية. كانت تنتهج أسلوباً بسيطاً لتشريح هذه الطبقة التي رأت أنها آفة المجتمع المصري بوضوح، فهذه الطبقة هي التي تغذي الإسلاموية المتشددة وبطش الحكام، تتقادم في صورة متاريس منصوبة طوال الوقت لاعتصار الناس وقولبتهم في نمط واحد، وعلى رغم ذلك انفلتت سارة وغيرها من سلطة هذه الطبقة التي باتت تعاديها وتوصمها بالكفر والشذوذ حتى بعد رحيلها.

تقول سارة في إحدى مقالاتها “إن الطبقة الوسطى المصرية تميل إلى الجناح اليميني المحافظ دينياً واجتماعياً دائماً، فتجدها داعمة قرارات الدولة في فرض الوصاية على المجتمع، وفرض الوصاية والرقابة على الفن وغيره، لأنها ببساطة تضع الأساس الاجتماعي والثقافي البنيوي للمجتمع ككل، ويمارسون الوصم المجتمعي إذا ما تمرد أحدهم على تلك الثقافة القمعية الأبوية القائمة على قهر المرأة والعمال والأقليات الدينية والجنسانية”.

إقرأوا أيضاً:

همَّشوا معاناة حنان حتى دونتها سارة 

معاناة الطويل تم تهميشها بالكامل، وكأن هناك تواطؤاً ضمنياً على التكتم على جريمة اجتماعية تسببت في مقتل ممثلة شابة وواعدة، وكأن الوسطين الصحافي والفني حينها اصطلحا على أمر، وهو أنه ما دامت حنان لم تكتب قصة معاناتها فلا داعي للحديث عنها، وإثارة البلبلة، وكأن الصمت نوع من الترحم والستر!

دُفنت قصة حنان معها، في وقت سبق ظهور السوشيال ميديا وقوتها وسرعة انتشارها، بخلاف سارة حجازي، التي استطاعت تدوين معاناتها ومعاناة كثيرات غيرها من العابرات والمثليات، والطويل واحدة منهنّ، وهي صاحبة سيرة حزينة ويائسة.

دونت حجازي مسار حياة مشحون بالأحداث السريعة، صفعة تلو الأخرى كانت تدفع الفتاة للتشبث بما حاربت من أجله، حتى جاءت هجرتها إلى كندا ورحلة التعافي النفسي الذي لم يكن موفقاً بشكل كبير، لارتباطها بموطنها، فهجرتها لم تقطعها عن حساسية الحنين إلى عائلتها ومجتمعها وذاكرتها. فما معنى أن تعيش منفياً وتفقد الأم والأخوة وتلاحقك رسائل الوصم الإلكترونية طوال الوقت في أثناء رحلة التعافي؟ تقول سارة، “وبعدما أطلق سراحي استقبلت الوصم المجتمعي ليس فقط من الأهل والجيران بل ومن المجتمع والذي يمثل أغلبيته الطبقة الوسطى، حيث رحب الجميع بقتلي معنوياً ووصمي واعتقالي – كامرأة مثلية الجنس”.

الوصم الاجتماعي ثقيل للغاية لا يقوى إنسان مهما بلغت درجة وعيه على تحمله، ومهما امتدت الأيادي للمساندة يسحب هذا الوصم صاحبه إلى هوة سحيقة تدفعه نحو السقوط النفسي الذي قد يكلفه حياته. عاشت حنان الطويل في اغتراب وخوف وجذبها الوصم مثل وحش لا يرحم لتموت هي الأخرى، لم تترك للعالم رسالة مكتوبة، لكن سارة حجازي فعلتها عنها، إذ قالت “أيها العالم كنت قاسياً إلى حد بعيد”. 

سوف نموت مرات عديدة لكي نعيش النهاية، وأثناء يومنا، هذه الموتات الصغيرة هي التي تصنع منا إنسانا.

إقرأوا أيضاً: