fbpx

ذاكرة مدينة حمص: أبو عادل يصلح ذات البين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كانت نساء المدينة يعتقدن أن المرأة الحامل إن ازدادت في الحمل جمالاً، كانت تحمل بنتاً، وإن تغيّرت ملامحها، فالجنين صبي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وائل السوّاح يروي ذاكرة مدينة حمص السورية في ستينات القرن الفائت، من خلال سيرة ذاتية. 

كان الصبي يلبس “شورته” الجديد وينتعل حذاءه الذي اشتراه العيد الفائت، ويقف قبالة باب البناية محاطاً بأفضل أصدقائه “ظهيرة” و”قهرة”. 

لم يكن ذانك اسميهما. عبد الظاهر الحسامي كان الصديق المقرّب إلى الصبي في الحارة لسنوات، ولا أحدَ يذكر كيف تحول اسمه من عبد الظاهر إلى ظهير، ثمّ ظهيرة تحبباً. حين سيغادر الصبي وقد غدا شاباً إلى الجامعة في دمشق ستباعد بينهما المسافة واختلاف الاهتمامات، ثم العمل السياسي. فبينما سيختار الصبي اليسار ويُعتقل على أساس اختياره، سيتجّه ظهيرة نحو التيارات الإسلامية ويعتقل على أساسها. وحين سيطلق سراح الصبي الذي بات رجلاً، سيأتي شقيق ظهيرة ليسلّم عليه، مهنئاً. وحين يسأله عن ظهيرة، سيشرد الأخ بعينيه بعيداً، قبل أن يعود بعد لحظات ليقول له:

“لا نعرف عنه شيئاً. راح من عشر سنين ولم يعد. كنت آمل أن تخبرني عنه أنت”.

قهرة هو عبد القهار الأتاسي، وهو ولد مسالم هادئ، لم يكن يحب اللعب القائم على العنف، مفضلاً الجلوس على درجات بيت آل الحسامي وتبادل القصص. وكان مفتوناً بشكل خاص بقصص الجان ولديه الكثير منها. أيضاً تحوّل اسمه إلى قهار ثمّ قهرة، حتى كاد الرفاق في الحارة ينسون اسمه الأصلي.

كان الثلاثة ينتظرون سيارة “السرفيس” التي ستقلّ الصبي وأمه إلى حماة، ويمضون الوقت في الثرثرة. وحين سأل قهرة الصبي عن سبب سفره إلى حماة، سيكذب عليه ببراعة. “سنزور أختي”، قال له. ولكن السبب كان أمراً آخر. للمرّة الأولى سيتعلّم الصبي كلمة جديدة “حردانة”. كان يعرف الحرَد طبعاً، وأحياناً كان يحرَد عن الطعام. ولكنّ حرَدَ الأخت كان مسألة أخرى. ستترك مهى بيت زوجها في حماة وتعود مع ابنها وجنين في بطنها إلى “بيت أبيها”، وقد سمع أمه يوم أمس تقول لأخته على الهاتف: “بيت أبوك مفتوح يا بنتي”. 

ليست أي زيارة

جاءت سيارة “السرفيس”، مرسيدس 180، كان الصغير يحب أن يشبّبها بدبّ صغير. قفز الدرجات سريعاً ليعلم والدته التي نزلت ببطء وجلال كعادتها، وانحشر الصغير بين السائق وبين الأم، فيما جلس في المقعد الخلفي ثلاثة ركاب أيضاً، وانطلقت السيارة بعد أن لوّح الصبي خلسة لرفيقيه اللذين خلّفهما وراءه.  

كان الصبي يحب زيارة أخته في حماة، وعلى رغم بيتها الصغير المرمي بإهمال على سطح بيت عمه، كان الصبي يجد راحة عميقة، وهو يستمع إلى أمه وأخته تتحدّثان في كل شيء. وكان يحب أن يلاعب ابنها البكر، سامر، فيحمله ويداعبه، وهو ينظر إلى بطن أخته المنتفخة بأخيه الذي سيأتي إلى هذه الدنيا بعد قليل، ثمّ يسترق السمع لحديث أمه وأخته، ويحدّ سمعَه خاصّة حين يخفت صوتهما فيعرف أنهما لا تريدانه أن يسمع. 

غير أن هذه الزيارة كانت مختلفة، فما إن نزلت الأم والصبي من السيارة، وصعدا إلى البيت، حتى نزل الجميع مرة ثانية. ساعد الصبي بإنزال حقيبة ملابس، فيما حملت الأم حفيدها، ونزلت مهى الدرج القاسي الهوينى خوفاً على حملها. وعادت السيارة التي حملت الصبي وأمه نفسها إلى حمص وهي تحمل هذه المرّة معهما الأخت والحفيد والجنين.

افتقد الصغير في أخته ابتسامتها الجميلة ومداعبتها خصلات شعره، فقد كانت مشغولة بالتفكير بزوجها الذي تركته حردانة، وبيتها الذي خلفته لحماتها. لم يعرف الصبي لم كان على أخته أن تترك البيت، وعلى رغم كلّ محاولته الإصغاء إلى حديث الكبار في البيت، لم يستطع إدراك الحقيقة. ومع ذلك فقد أمضى وقتاً جميلاً مع ابن أخته. وإذا كان يرغب طبعاً أن تعود الأخت إلى زوجها، إلا أنه تمنّى من كلّ قلبه لو يتأخر ذلك فتطول إقامتها وابنها بينهم. 

بعد يومين، سمع الصبي اسماً يتردّد على لسان الأم: أبو عادل. “دعينا نذهب إلى أبو عادل”. ورَهَفَ في قلبه ذلك الشعور الملتبس الذي ينتابه كلما دخل بيت أبو عادل. غير بعيد من بيته، سار الصبي نزولاً جهة الجنوب في شارع التلّة، فحاذى بائع الكنافة وبقالية النجار ودكان مبيّض النحاس، سليمان، ثم عبر الساحة الصغيرة التي ترسلك يساراً إلى طريق دمشق ويساراً صوب القلعة فمرّ بجريدة العروبة وثانوية الفارابي، ثم انعطف يساراً صوب الباب المسدود، سيجد بُعَيدَ بقايا الباب تماماً بيتاً عربياً عتيقاً، وهو باب خشبي عليه دقّاقة حديدية وزر جرس على قاعدة مدوّرة صغيرة. وكان الصبي حين يرافق أمه إلى ذلك البيت يسبقها بخطوة أو اثنتين ليتطاول ويدقّ الباب بالدقاقة مرتين أو ثلاثاً، ثم ينتظران برهة قبل أن تفتح الباب سيدة سمراء ممتلئة الجسم، قصيرة القائمة، مدوّرة الوجه، تضع على رأسها وشاحاً ملوّناً، وعليها مسحة من جمل هادئ. 

“أهلين وسهلين بأم فراس”، كانت تقول، وهي تفسح في الطريق للأم لكي تدخل ويدخل الصغير في إثرها، وغالبا ما كانت تداعب وجنة الصغير بين سبابتها و إبهامها، وتقول له في كل مرة: “اسم الله قديش كبران!” وكان أحياناً يعود إلى البيت فيقيس طوله على الإطار الخشبي لباب غرفة الجلوس، فيرى العلامة السابقة لا تزال في مكانها، لم ترتفع ولا ميليمترا واحداً. 

وكانت الأم تجلس على قاطع خشبي فوقه حشية قاسية، وخلفها مسند محشو بالقش، ويجلس الصغير ملاصقاً لها، وهو يفكّر في هذا الجو الغريب، وعلى الرغم من أنه كان يحب المرأة البشوش والمحبة، إلا أنه يعرف أنه سيدخل بعد قليل إلى عالم من الأسرار والغموض والترقب والخشية. 

في اليوم التالي، سارت الأم والأخت تدفع أمامها عربة صغيرة فيها ابنه الصغير، وبجانب الجميع كان الصبي يسير بوقار متصنّع، في موكب صغير إلى بيت أبو عادل. وكالعادة، كانت الأم بمشيتها الواثقة ووجهها السافر وأناقة ملبسها تلفت أنظار الجميع في الحارة، وكان الصغير يشعر بمزيج من الفخر والارتباك، وهو يسير إلى جوارها، ويرى العيون تتطلّع إليها، ليس ببذاءة ولا بسوقية، وإنما بإعجاب واحترام.  

سبق الصبي المرأتين ودقّ الباب بالمدقّة. فتح الباب، وكالعادة برز خلفه وجه أمّ عادل الباشّ والوسيم. 

“يا أهلين وسهلين بأم فراس، أهلين بأم سامر”، وأفسحت في الطريق فدخلت الأم والأخت والعربة، والصغير وراء الجميع. وقالت أم عادل لمهى: “أكيد جايبة بنت. وجهك منوّر”. كانت نساء المدينة يعتقدن أن المرأة الحامل إن ازدادت في الحمل جمالاً، فستنجب بنتاً، وإن تغيّرت ملامحها، فالجنين صبي. ولكن الأخت ستخرق قاعدة أم عادل، وستلد بعد أسابيع صبياً آخر. 

قدّمت المرأة القهوة للأم والأخت وهي تقول: “دقيقة ويَفْرغ أبو عادل. عنده امرأة مسكينة من حلب. المسكينة ما بتحبل”، ثمّ تحدّثت عن كلّ شيء ولاطفت الصبي كالعادة، وكانت تطلق بين اللحظة والأخرى ضحكة قصيرة لتزيل ما بدا لها توتّراً وقلقاً لدى المرأتين. “لا تقلقا! إن شاء الله كلّ الأمور محلولة”. وسمع الصبي صوت باب يفتح وامرأة تضع على رأسها منديلاً أسود، تخرج من الغرفة، ويشيعها صوت رجل هادئ وهو يدعو لها بالتوفيق. 

حانت الساعة…

“وين أختي أم فراس، يا أم عادل؟” جاء صوت الرجل من داخل الغرفة. 

دنت الساعة. قامت الأمّ والأخت تدفع عربتها وتدحرج الصغير وراء الجميع، فدخل الغرفة بتحسّب. كالعادة، كان أبو عادل جالساً على طرف أحد القاطعين المتعامدين عند الرأس، وبيده مسبحة صفراء كبيرة. كان ضريراً، نحيلاً، متوسط القامة، بشاربين خفيفين وشفتين تتحرّكان دوماً باهتزاز غريب. لم يكن ملتحياً، ولم يكن يعتمر لفّة أو طربوشاً، على عكس ما سيراه في الأفلام العربية أو المسلسلات لاحقاً، ولم يكن في البيت بخور يحترق، ولم يكن يطلق صيحات بائسة كتلك التي سيراها أو يقرأ عنها لاحقاً. بعد سنوات سيقطع الصبي علاقته مع الله نهائياً، ويقطع معها كلّ علاقة مع رجال الدين بكلّ أشكالهم وترتيباتهم وكراماتهم، ولن يرى بعد ذلك رجلاً يفكّ السحر أو يكتب حجاباً أو يرقي مريضاً. بالنسبة إليه كان أفضلَ من يرقي والدُه الذي كان حين تصيب الصغير حمّى أو يقعده مرض، يضع يده الكبيرة على رأسه ويقرأ بضع آيات من القرآن، سرعان ما يشعر الصغير بعدها بالسكينة والراحة. وقد يترك الأب الصغير بعدها ليتّخذ مجلسه مع كأس العرق المثلّج الأغبش، من دون أن يرى في الأمرين تناقضاً. 

جلست الأمّ على رأس القاطع الآخر، فكانت قريبة من أبو عادل، وجلست مهى بعدها وأمامها عربة ابنها الذي بدأ يعبّر عن ضيقه بالمكان، وفي آخر السلسلة جلس الصبي، متأملا أبو عادل مليا، وإن ببعض الحرج. كان يعرف أن الأخير لا يراه، وكان يعرف أيضاً أن إطالة تأمل الناس ليست عادة محبّبة. 

لم يكن أبو عادل مشعوذاً، فهو لم يدّعِ علم الغيب، ولم يقلْ للأم مرة واحدة مثلاً إنه كان يعرف سبب مجيئها إليه ولا حاول إجابتها قبل أن تطلب إليه ذلك، ويطيب للصبي بعد مرور عقود خمسة على ذلك اللقاء أن يتخيل أبو عادل رجلاً من رجال الله الصالحين. كان يتقاضى بالطبع أجرة عمله ولكن بتواضع، ولم يكن يقول إن في ما يأخذه حصّة للجن، ولم يطلب من زبائنه شعرة من جدي أو قطرة من دم ديك أحمر. لذلك سأل بصوته الأجشّ: “خيرا إن شاء الله يا أم فراس؟”، وحين حكت له أم فراس الحكاية، التي لم يعد الصبي يذكر تفاصيلها، ابتسم فجاءت ابتسامة بدت للصغير أشبه بتكشيرة، وبانت بقايا أسنانه، كبيرةً صفراً من كثرة التدخين.  وطلب من مهى أن تقترب منه، فتبادلت المرأتان مكانيهما، وجلست مهى قرب أبو عادل الذي مدّ يده وراح يتلمّس رأسها، فما إن عثرت يده على الرأس، حتى راحت تحوّم فوقه دون أن تمسّه، وراحت شفتاه تبربران بقراءة خافتة. ولفتت أصابع يد أبو عادل الصغيرَ أيضاً باصفرار سبابته والوسطى، بسبب التدخين أيضاً. وحين انتهى من القراءة، وعد أبو عادل المرأتين خيراً، وقال للأم أن ترسل الصبي في الغد ليأخذ حجاباً سيعدّه الشيخ لمهى. 

سلّمت المرأتان على أبو عادل، وخرجتا، يشيّعهما الرجل بصوته الأجش وهو يدعو لهما براحة البال، وكانت أم عادل وراء الباب، وأصرّت على المرأتين أن تبقيا لفنجان قهوة آخر، ولكن الأم اعتذرت لأنها لم تجهّز الغداء لأبو فراس والأولاد بعد. 

في اليوم التالي، مشى الصبي وحيداً صوب بيت أبو عادل، واستخدم الدقّاقة لطرق الباب، وفتحت له أم عادل بوسامة وجهها ولطف ابتسامتها، فناولته، لفافة، أخذها بين أصابعه بحذر، وشعر – أو هُيِّئ له – بحرارة تسري في يده وتنتقل كالخدر إلى جسمه. وعاد إلى البيت مسرعاً لا يلوي على شيء، محاذراً أن يرى أياً من أصحابه، فيسأله ماذا بيده. ومر في الحارة كالسهم، حريصاً كلّ الحرص على ألا تقع اللفافة من بين أصابعه. لم يسأل نفسه وقتها كيف للرجل الضرير أن يكتب حجاباً، ولم يسأل ماذا يضمّ الحجاب. ولكنه بعد سنوات – حين ستضمّه زنزانة ضيّقة رطبة في فرع التحقيق العسكري – ستتاح له الفرصة ليطرح الأسئلة كلّها، وليستعيد الذكريات جميعها، وحينها جاءته هذه الفكرة: كيف كان أبو عادل يكتب الحُجُب؟ ولماذا لم يلامس بيده رأس أخته يومها؟ وماذا لو فتح هو يومَها الحجاب فقرأه أو عرف ما فيه؟ أكان سيتأخر ابن عمه عن المسارعة إلى مصالحة أخته وإعادتها إلى بيتها؟ وهل لعبت الرقية أو الحجاب دوراً في إسراع ابن العمّ في الحضور إلى حمص، بما يشبه الاعتذار والوعد بألا يُحزِن الأختَ مطلقاً؟ لم يجدْ الصبي وقد كبر وانحشر في الزنزانة جواباً واحداً عن كلّ تلك الأسئلة. ولكنه – بنوع من الإلهام السماوي – تذكّر الآيات التي كان الشيخ يتمتم بها فوق رأس أخته: ألم نشرح لك صدرك؛ ووضعنا عنك وزرك؛ الذي أنقض ظهرك: ورفعنا لك ذكرك؛ فإن مع العسر يسراً؛ إن مع العسر يسراً. ووجد نفسه يعيد ترداد الآيتين الأخيرتين مرّة ومرّة ومرّة، حتى داخله خدَر لذيذ، وأغفى ليلته، وهو يرى نفسه ولَداً يركض في شوارع حمص الجميلة، بصخب ونشوة وفتنة، برفقته ظهيرة وقهرة وآخرين. 

إقرأوا أيضاً: