fbpx

تونس : واقعة سحل الفتى تشطب وجه المشيشي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تقدم وزارة الداخلية على الاعتذار من التونسيين عن هذا المشهد المرعب والمخزي، لأنها اعتادت الدوس على كرامة المواطنين وانتهاك حقوقهم واحترفت ثقافة التستر على الذين باتوا على يقين في كل مرة بأن لا تتبعات عدلية ستطاولهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في سجن أبو غريب في العراق قبل سنوات، مارست قوات “المارينز الأميركية” السحل والتعذيب وانتهكت حرمة المعتقلين العراقيين داخل السجون. “المارينز” على رغم كونها قوات احتلال وغزو، إنما أبقت وحشيتها داخل السجون، ولم تنقلها إلى الشارع. أما في تونس 2021، التي يسيرها رئيس حكومة يتولى أيضاً تسيير وزارة الداخلية ويأتمر حصراً بأوامر حزب “حركة النهضة”، فقد بات السحل والتعذيب حدثاً عادياً تمارسه القبضة الأمنية علناً وسط الشارع وأمام الناس.

سيتذكر التونسيون تاريخ العاشر من حزيران/ يونيو 2021 لعقود طويلة، سيتذكرون وجه الطفل وتفاصيل سحله على الإسفلت وضربه وتمزيق ملابسه وتعريته، وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة. سيراودهم مشهد ركله بالأقدام على مناطق مختلفة من جسده، عندما حاول المرور من أحد الشوارع (منطقة السيجومي، حي شعبي في العاصمة) حيث تتوقف دورية أمنية، وكيف جال الرجال الكبار بأيديهم الكبيرة وأقدامهم الضخمة، بجسده العاري واقتادوه إلى مركز الشرطة، مواصلين تعنيفه طيلة الطريق. وهي حادثة تلت بيومين فقط موت شاب آخر تحت التعذيب في أحد مراكز الأمن في المنطقة ذاتها، ما أثار احتجاج الأهالي.

وثقت مواطنة ما حصل، وبسرعة انتشر الفيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي وسط استنكار وسخط وإجماع على أننا أمام “أبو غريب” تونسي هذه المرة. لم تستحِ الأجهزة الأمنية من فعلها الإجرامي، وقالت وزارة الداخلية في البداية إن الفتى كان في حالة سكر مطبق وأنه هو الذي خرج عارياً إلى الشارع، على رغم أن الفيديو الذي راج على نطاق واسع، كان يؤكد عكس ذلك تماماً. لم تصمد الرواية طويلاً وأسقطت تسجيلات الفيديو افتراءات الأجهزة الأمنية وأكدت زيفها. ومع ارتفاع منسوب الاحتقان في البلاد وموجة الغضب الكبيرة التي تلت الحادثة، أعلنت وزارة الداخلية في بيان رسمي، قيامها بـ”إيقاف الأعوان المسؤولين عن هذه التجاوزات، للتحقيق المباشر في الواقعة من طرف التفقدية العامة للأمن الوطني”. وأدانت هذه الممارسات، لكن من دون أن تقدم على الاعتذار عن جرم بحجم سحل طفل في الشارع وتجريده من ثيابه، في خطوة أكدت مجدداً تمادي هذه المنظومة في غيها وتعمدها عدم الاعتراف بانتهاكاتها الجسيمة. لم تقدم وزارة الداخلية على الاعتذار من التونسيين عن هذا المشهد المرعب والمخزي، لأنها اعتادت الدوس على كرامة المواطنين وانتهاك حقوقهم واحترفت ثقافة التستر على الذين باتوا على يقين في كل مرة بأن لا تتبعات عدلية ستطاولهم. 

بات السحل والتعذيب حدثاً عادياً تمارسه القبضة الأمنية علناً وسط الشارع وأمام الناس.

وفي محاولة لتهدئة الأجواء وتكراراً للسيناريوهات السابقة، ذهبت الوزارة إلى ادعاء أن ما حصل حالات معزولة وأن المؤسسة الأمنية بريئة من هذا الوجه القبيح، والحال أن هذه الممارسات ليست غريبة على الأمنيين التونسيين، وأن حادثة السحل هذه ليست عملاً فردياً، بل هي قصة جديدة تضاف إلى قائمة طويلة من الانتهاكات والتجاوزات الخطيرة، في التظاهرات ومراكز الشرطة وفي الشوارع…. وفي كل مرة يفلت الأمنيون من العقاب، على رغم تجاوزهم القانون ودوسهم كرامة المواطنين، مستفيدين من تواطؤ المؤسسات الرسمية المختصة، بما في ذلك القضائية وبخاصة النيابة العمومية، وتعتيمها على جرائمهم، الأمر الذي كرس تدريجاً ثقافة الإفلات من العقاب لدى الأمنيين وشجعهم على ارتكاب المزيد من الانتهاكات. زد على ذلك، تولي بعض الجهات وعلى رأسها النقابات الأمنية مثيرة الجدل، تمرير خطاب تبريري لكل الجرائم التي يرتكبها عناصر الأمن ولا تتردد في نسب تهم الإدمان والإجرام للضحايا إلى جانب نعتهم بالمرضى والمنفلتين، وغيرها من التهم والصفات، والتي لا أساس لها من الصحة في معظم الأحيان، على صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بهدف التغطية على انتهاكات منتسبيها. 

لقد بذلت جهود كبيرة بعد الثورة في تونس لدفع جهاز الأمن إلى إلى مراجعة صورته وسلوكه القديم لبناء علاقة جديدة مع المواطنين/ات، ولكن عبثاً، فالعقليات القديمة التي يستنبطها عناصر الأمن التونسيون، والقائمة على فكرة ترويع المواطنين وأن لا سلطة تعلو على سلطتهم، ظلت عالقة وتأبى أن تتغير. ولهذا فإن الادعاءات القائلة بأن البلاد تسير نحو بناء أمن جمهوري يلتزم بمقتضيات القانون ويحترم كرامة المواطن، تقابل دائماً بجرائم جديدة تعري شعارات الدولة المدنية وأوهامها، وتكشف مدى هشاشة منجز الحرية النسبي في ظل حكومات متلاحقة أخفقت أو تعمدت الإخفاق في تفعيل القوانين الضامنة لحقوق التونسيين على أرض الواقع، مقابل التغاضي والتستر عن كل التجاوزات والجرائم وحماية مرتكبيها.

ولعل منظومة الحكم الحالية بقيادة رئيس الحكومة هشام المشيشي المعتصم بحبل “حركة النهضة” ورئيسها راشد الغنوشي أساساً، بالتحالف مع “قلب تونس” و”ائتلاف الكرامة”، أكثر الحكومات ميلاً إلى اتباع هذا النهج لاعتبارات عدة. أولاً رغبة المشيشي وحليفيه في إشاعة الخوف في صفوف التونسيين كخطوة استباقية، بعدما بدأ يرى التحركات الاحتجاجية تنطلق هنا وهناك تنديداً بالزيادات المشطة. وبالتالي فإن هذه الأطراف اختارت أن تطلق العنان مبكراً لعناصر الأمن ليستعرضوا همجيتهم ويبثوا الرعب في النفوس، لا سيما أنها تعرف أن الزيادات والإجراءات المزمع القيام بها قريباً، ستؤدي إلى انفجار اجتماعي حتماً. ثانياً، تراهن هذه الأطراف على الأجهزة الأمنية الحالمة بالعودة إلى أدوارها القديمة قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011 وتريد الاستفادة من ذلك، لا سيما أنها تجيد التملص من المسؤولية عندما تنفلت الأمور وتأخذ منحى آخر غير الذي تريده. ولكن في خضم ذلك، يؤكد تونسيون كثر أنهم لن يخضعوا لهذا الترهيب الممنهج وأنهم سيعودون إلى الشوارع للاحتجاج، على  السياسات المجحفة والديكتاتورية، حتى يحدث التغيير المنشود، وقد بدأ بذلك فعلاً. 

إقرأوا أيضاً: