fbpx

بحثاً عن دواء لأبي المقاتل الذي لم يشف من عصاب الحرب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

خلال فترة علاج والدي، كنت صغيرة أخبئ مصروفي المتواضع للأيام الصعبة لنستطيع تأمين الدواء. كنت أرتعب من فكرة فقدان الدواء وكان لبنان في حالة اقتصادية مستقرّة نسبياً يومها. أفكّر الآن، كم مريضاً ستسوء حالته؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه مدونة لكاتبة شابة فضلت عدم ذكر اسمها

كان أبي في الرابعة عشرة عندما خطفته الحرب من مقاعد الدراسة، من حضن والدته، من الأمسيات الشمالية الدافئة وزجّت به في دوامة المعارك الشرسة التي أظلمت سماء لبنان لأكثر من 20 سنة. 

كبر بابا، وخال أنّه تخطّى الأمر. أحبّ، وتزوّج وبنى عائلة. لكنه في الحقيقة، بقي دائماً هناك، بين الحطام والركام، سائراً بين الأشلاء والدمار، وإن بدا جسدياً معنا. يرافقه العويل والبكاء وأصوات القذائف، وأنين رفقائه الذين أسلموا الروح بين يديه. يبدو العالم في عينيه ملجأ لا تنفك رائحته تفوح في كل زمان. 

ما زلت أتذكر كيف كان يجهش بالبكاء من دون سبب، وكيف كان يختلق المشكلات، فيكسر ويلطم ويضرب. ولا أزال، أنا المستقلة الحرّة اليوم، أرتعش فزعاً كلما تذكرت نوبات غضبه، فأنطوي على نفسي وتتوقف الحياة لبرهة في ذهني، قبل أن أعود وأذكّر نفسي بأن تلك المرحلة قد ولّت إلى غير رجعة. 

كنت قلقة على الدوام، لا أعلم متى سأفقد لحظات حنانه وحبّه المقتضبة. كنت أنظر إليه بريبة كلّما رأيته مبتسماً، إذ كنت على يقين بأن وجهه العنيف سيعود من جديد. 

انتهت الحرب، لكنّ والدي بقي يحارب شبحاً ما، إلى أن شخّص الأطباء الحالة على خلفية إحدى النوبات العصبية العنيفة، يوم كدت أموت وإخوتي على يديه: بابا مصاب باضطراب ثنائي القطب، وهو في مراحله المتقدّمة جداً.

اضطراب ثنائي القطب هو حالة صحية عقلية تتسبب في تقلبات مزاجية مفرطة تتضمن الارتفاعات والانخفاضات العاطفية التي تتمثّل بالهوس أو الهوس الخفيف من جهة، والاكتئاب من جهة أخرى. عندما يصاب الشخص المعني بالاكتئاب، ربما يشعر بالحزن أو اليأس. أما عندما يتحوّل مزاجه إلى الهوس أو الهوس الخفيف فقد يشعر بالابتهاج، أو الطاقة أو سرعة الغضب. ويمكن أن تؤثر التقلبات المزاجية المذكورة في النوم، والطاقة، والنشاط، والقدرة على اتخاذ القرارات، والسلوك والقدرة على التفكير بوضوح.

بدأ مشوار العلاج الصعب…. أذكر كيف كنت أمسك بيده خلال زيارته الأولى إلى الطبيب النفسي، كأنني عكازه. كنت أقول له خلال مشاويرنا من الشمال إلى بيروت قاصدين عيادة الطبيب: “ما تعتل هم!”، فيما الهمّ يأكلني. كنت خائفة من العودة إلى البيت خصوصاً أننا ذهبنا يومها بعد صراع طويل مع عائلة والدي الرافضة كلياً فكرة العلاج: “إبني ما بو شي”، “أخي مش مجنون”، كانوا يقولون باستهجان. لكنّ تلك الزيارات إلى الطبيب كانت أملنا الوحيد، حتى يستعيد أبي عافيته النفسية.

سنة واحدة قصيرة… مدّة السعادة التي عشتها مع أبي. فقد كان المجتمع بمفاهيمه البالية أقوى مني، استطاع أن يقنعه أنه “مش مجنون تياخذ دواء”. حدّثه الأهل والمعارف عن “الجرصة” و”العيب”، و”العار، وقالوا له “شو بدن يقولوا عنّا العالم”… تمكنوا منه، فاستغنى عن زيارة الطبيب وأقلع عن الدواء.

عاد أبي إلى سلوكه المضطرب والذي ازداد عنفاً وشراسة هذه المرة. فبات الرحيل الحل المنطقي وحتمية لا مفرّ منها. تفكّكت أسرتي ووجد المجتمع سبباً آخر “تيحكي علينا”. 

عادت بي الذاكرة  اليوم  إلى تلك المرحلة الصعبة، وأنا أقرأ منشوراً لأحد الأصدقاء يستجدي ويسأل أين يمكن أن يجد دواءه في ظل انقطاع المهدئات في الصيدليات. خلال فترة علاج والدي، كنت صغيرة أخبئ مصروفي المتواضع للأيام الصعبة لنستطيع تأمين الدواء. كنت أرتعب من فكرة فقدان الدواء وكان لبنان في حالة اقتصادية مستقرّة نسبياً يومها. أفكّر الآن، كم مريضاً ستسوء حالته؟ كم شخصاً يعيش هوس فقدان الأدوية، خصوصاً في مجتمع “العيب” الذي يعتبر الأدوية النفسية مسألة ثانوية و”عاراً”؟ 

مع الأزمات المتلاحقة، يستحيل الاكتئاب جماعياً في لبنان، مع فقدان مقلق للأدوية وغياب القدرة على دفع تكاليف متابعة العلاج. 

لم يكن أبي هو “الوحش”، بل الاضطراب كان الوحش… قلّة الوعي هي الوحش… نظرة المجتمع الاتهامية هي الوحش… واليوم، دولة الأمونيوم والإجرام التي ترشقنا بالمصيبة تلو الأخرى هي الوحش الأكبر…

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!