fbpx

من ذاكرة التسعينيات : عند انهيار الهدنة بين “العمال الكردستاني” وتركيا و”وصول الدم إلى الركب”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“تاريخ 24 أيار 1993 من أهم نقاط الانكسار في تاريخ تركيا والقضية الكردية. فقد وصل الدم إلى الركب منذ ذلك التاريخ وحتى 15 شباط 1999”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مطلع عام 1993، شهدت المناطق الكردية في تركيا تصعيداً في القتال بين “كيريلا” (حزب العمال الكردستاني)، وقوات الدرك (الجندرمة) التركية وكانت تساندها “حراس القرى” (قروجلار بالتركية) وهي ميليشيات تضم آلاف المسلحين من ابناء القرى الكردية وقلة من غير الكرد شكلتها القيادة العسكرية عام 1985، واستخدمتها في القتال ضد مقاتلي “العمال الكردستاني”، على أن تكون تابعة لـ”قوات الدرك” تمويلاً وتدريباً. لاحقاً وعد الرئيس رجب طيب أردوغان بحلّها، لكنها استمرت تحت تسمية “أمنيّتجي” أي الأمنيّون. والى جانب المواجهات المسلحة في الأرياف والمناطق الجبلية، كان المقاتلون الكرد يقومون بعمليات جريئة في أطراف المدن الكردية الرئيسية وحتى داخلها أحياناً، وكنت شخصياً شاهداً على بعضها خلال زياراتي إلى تلك المناطق، كأن تقوم مجموعات مسلحة صغيرة بإطلاق النار على مقرات عسكرية وأمنية أو تقيم لفترات قصيرة نقاطاً للسيطرة والتفتيش خارج مدن رئيسية، بما فيها ديار بكر، التي كنت فيها عندما انتشر خبر دخول مسلحين إلى أحد المقاهي الشعبية وسط المدينة ورددوا شعارات مؤيدة لـ “العمال الكردستاني”، ثم انسحبوا قبل وصول القوات الأمنية. 

طالباني وأوجلان

وساطة طالباني مع أوجلان

وسط هذه التطورات، تحديداً منذ شباط/ فبراير 1993، بدأ طالباني بدور الوساطة بين “العمال الكردستاني” وتركيا توصّلت الى إعلان زعيمه عبدالله أوجلان وقف النار من جانب واحد. هل قام جلال طالباني بدور الوسيط في إقناع أوجلان بإعلان وقف النار في مسعى إلى اعتماد وسائل سلمية لإيجاد حل للمسألة الكردية في تركيا بطلب من الرئيس التركي السابق تورغوت أوزال، أم بمبادرة شخصية من شأنها أن تعزز نفوذ الرئيس التركي داخلياً تعبيراً عن الامتنان لدوره في دعم الحركة الكردية في العراق؟ الجواب في واقع الأمر، كما أعرفه، أن  أوزال لم يطلب من طالباني القيام بوساطة بل استقبل الخبر بحذر لأنه لم يكن واثقاً من أن أوجلان كان جدياً في وعده وبالتالي لم يكن مستعداً لأي التزام قد يستغله لاحقاً معارضوه في الداخل، للإمعان في إضعافه وتهميشه. بداية أستشهد بما ذكره في هذا الخصوص جنكيز تشاندار في كتابه “قطار الرافدين السريع” (الترجمة العربية التي تبدو ركيكة أحياناُ). يقول تشاندار الذي كان آنذاك مستشاراً لأوزال في معرض الحديث عن لقائه للمرة الأولى في 1991 في بيروت مع ممثلين لـ”العمال الكردستاني”: “لقائي الوحيد بعبدالله أوجلان تم بعد سنتين، بعد أحد المنعطفات المهمة في تاريخ حزب العمال الكردستاني، وعلاقة تركيا بالقضية الكردية. أثناء مغادرتي دمشق في أواخر شباط عام 1993، وصلتني “معلومة لها وقع القنبلة” من صديقي كامران قره داغي الذي كان يكتب في “الحياة” (…) ولعب دوراً رئيساً معي في تأسيس العلاقة بين جلال طالباني ورئيس الجمهورية تورغوت أوزال: وصلتني معلومة عن طريق جلال طالباني بأن عبدالله أوجلان سيعلن في مؤتمر صحفي قريب هدنة، وسيدعو أوجلان إلى مؤتمره الصحافي ثلاثة أشخاص هم جنكيز تشاندار ومحمد علي بيراند وكامران قره داغي”.  وأضاف أن طالباني “طلب نقل هذه المعلومة الى تورغوت أوزال لكنه “لا يكفله”. مع هذا أبلغني أن عبدالله أوجلان لم يدخل تحت مسؤولية كهذه حتى ذلك اليوم، إنما هناك احتمال كبير بحصول هدنة وإذا تحقق الأمر فستكون من طرف واحد، وهي الهدنة الأولى منذ انطلاق النضال المسلح لـ”حزب العمال الكردستاني” عام 1984، وستفتح صفحة جديدة على طريق حل القضية الكردية”. وتابع تشاندار: “نقلت هذه المعلومة الى تورغوت اوزال بشكل عابر في أثناء مغادرتي القصر الرئاسي، بعدما أجريت لقاء معه. لاحظت أنه استغرب قليلاً من دون أن يبدي أي انفعال، حتى انه لم يسأل عن التفاصيل، واكتفى بالرد على إعلان أوجلان الهدنة بالقول: “ليعلنها، وسنرى”. إلى ذلك عندما زار طالباني أنقرة بعد إعلان أوجلان وقف النار وكنت هناك أيضاً فإنني علمت أن كبار المسؤولين الأتراك، مدنيين وعسكريين، الذين التقاهم، أعربوا له عن شكوكهم في نيات أوجلان لذا لم يتعهدوا بأي التزامات واكتفوا بالقول إنه، أي طالباني، حر في أن يواصل جهوده لكن ليس باسم الحكومة التركية التي لم تطلب منه التوسط بينها وبين أوجلان. 

مع أوجلان في بر الياس

ما سلف يوضح موقف تشاندار عندما التقى أوجلان على انفراد خلال مؤتمره الصحافي في بر الياس في لبنان وأعلن خلاله وقف النار من طرف واحد. كان طالباني قد رتب ذلك اللقاء المنفرد بين أوجلان وتشاندار وشاركه فيه صحافي تركي آخر هو عصمت إمست، الذي كان وقتها محرراً في صحيفة “توركيش دايلي نيوز” التي كان يصدرها في أنقرة بالانكليزية الصحافي المخضرم إلنور تشيفيك. الى ذلك كنت اتفقت مع عصمت على أن يزوّد “الحياة” بتقارير صحافية كمراسل لها في أنقرة. كان إلنور وقتها مستشاراً لرئيس الوزراء سليمان ديميريل لذا كلف إمست بأن يمثله في اللقاء مع أوجلان، ويقدم له بعدها تقريراً ليرفعه إلى ديميريل. طالباني قادهما إلى غرفة في البناية التي عقد فيها اوجلان مؤتمره الصحافي في بر الياس ثم غادر الغرفة بعدما قدمهما لأوجلان.

وبحسب تشاندار فإن اوجلان قال لهما أنه مستعد للقائهما على انفراد، إذا أرادا ذلك. وتشاندار رد كما كتب في “قطار الرافدين السريع”، بأنه لا مانع من اللقاء معاً. يقول: “فجأة خطر ببالي أنه من الأفضل وجود شاهد على اللقاء، فقلت: لا مشكلة في لقائنا معاً. بالنتيجة، سأنقل اللقاء حرفيا إلى تورغوت أوزال، والسيد عصمت سينقله الى السيد سليمان. ليس لدينا ما نخفيه. يمكننا أن نلتقي معاً. ولكنكم لا تلتقون مع تورغوت أوزال وسليمان ديميريل. أنا أؤكد لكم أنني سأنقل الحوار بصدق ولكنكم لا تلتقون الدولة التركية، بل تلتقون شخصين فقط”. طبعاً أوجلان لم يكن معتاداً على إجراء حوارات لأنه كان عند لقائه مع أعضاء حزبه وأنصاره يفضل المونولوغ، أي هو يتحدث والآخرون يستمعون. لذا، يتابع جنكيز، “بعدما استمر اللقاء نحو 40 دقيقة، لا أستطيع القول إن الدقائق الأربعين مرت في جو من الحديث الودي. يبدو أن أوجلان لم يعتد على الاستماع لمن أمامه، حتى إنني سمعت من أكثر المعجبين به في ما بعد أن هذا أكبر عيوبه وحتى هناك من سيسميه بلغة أكثر صراحة: جنون العظمة”. 

إقرأوا أيضاً:

إلى ما سلف أضيف تفاصيل توضح جوانب أخرى لقصة وقف النار. عندما أخبرني مام جلال نيته المحاولة إقناع أوجلان بالأمر، أبديت له رأيي بأن من الأفضل أن يفاتح المسؤولين الأتراك، قبل أن يقوم بأي خطوة عملية، تحسباً لأي احتمال سلبي من شأنه أن يعكر العلاقات الودية بين القيادة الكردية وانقرة من جهة، والعلاقة بين حزبه و”الحزب الديموقراطي الكردستاني” من جهة أخرى، لكنه اعطاني الانطباع بأن بارزاني كان على علم بجهوده في هذا الخصوص. وللأمانة يجب أن أوضح أنني في حديث أجريته في تلك الفترة مع مسعود بارزاني في أنقرة ونشر في “الحياة” (23/6/1993) أكد لي خارج سياق الحديث الصحافي أنه لم يكن على علم مسبق بجهود طالباني. إلى ذلك علمت من سرجل قزاز (ممثل طالباني في أنقرة)ن أنه أبلغ رسائل من طالباني الى عدد من المسؤولين الأتراك الرسائل من دون أن يتلقى أي رد سلباً أو إيجاباً. لاحقاً أيضاً، أخبرني قزاز انه عندما اجرى اتصالاً عبر الهاتف مع كايا توبيري المستشار الصحافي لرئيس الجمهورية لمعرفة رأي أوزال في قرار مام جلال الظهور مع أوجلان في مؤتمره الصحافي الأول الذي سيعلن فيه وقف النار ثم مؤتمره الصحافي الثاني لاعلان تمديد وقف النار شهرين آخرين، فإن توبيري أجابه بأن أوزال يعتبر طالباني حرا في اتخاذ قراراته. وكنت وصلت الى دمشق قبل المؤتمر الصحافي لاوجلان بأيام قليلة وطلبت من مام جلال الذي كان هناك وقتها أن يرتب لي لقاء مع أوجلان قبل مؤتمره الصحافي. 

المؤتمر الصحافي في بر الياس عقده أوجلان في 15 آذار وأعلن فيه أن وقف النار لمدة 21 يوماً، سيبدأ اعتباراً من 21 آذار/ مارس المصادف عيد نوروز كي تمر المناسبة بهدوء من دون مواجهات كما كان يحدث عادة في يوم نوروز كل عام ويسقط خلالها ضحايا. قبل عام من ذلك صدف انني كنت في دياربكر خلال عيد نوروز، عندما شهدت شوارع وميادين المدينة عمليات كر وفر بين المتظاهرين الكرد والقوات الأمنية أسفرت عن سقوط ضحايا واعتقالات. لاحقاً عندما زار طالباني أنقرة وبعد لقائه الرئيس أوزال روى لي أن الأخير سأله: لماذا “المجنون” أعلن وقفاً للنار لمدة 21 يوما وليس 20 أو 26 مثلاً؟ (كان أوزال يسميه “ديلّي” باللغة التركية وتعني “المجنون” إشارة الى خطاباته وتصريحاته الغريبة) فرد مام جلال مازحاً: السيد الرئيس ألم تقل إنه “ديلّي”؟

كنت أشرت في حلقة سابقة، إلى أن أوجلان أعلن في مؤتمر صحافي عقده في بر الياس في حضور طالباني قبل انتهاء مدة وقف النار تمديده لشهرين آخرين، لكنه انهار في 24 أيار/ مايو، عندما نصبت مجموعة من مقاتلي “العمال الكردستاني” كميناً لحافلة كانت ينقل 33 جندياً تركياً غير مسلحين، في أثناء عودتهم من إجازاتهم للالتحاق بوحدتهم، وأخرجوهم من الحافلة، وأطلقوا عليهم نيران مدافعهم الرشاشة وقتلوهم جميعاً. تزامن ذلك مع انتخاب البرلمان التركي ديميريل رئيساً للجمهورية خلفاً لأوزال، فيما كان حزبه “الطريق المستقيم”، يستعد لانتخاب سلف له لزعامة الحزب ويتسلم منصب رئيس الوزراء. مؤتمر الحزب اختار تانسو تشيلر التي رشحها ديميريل وأصبحت أول امرأة ترأس الحكومة التركية. كنت في مكتب سرجل قزاز في أنقرة واتصلت منه بمام جلال الذي كان في دمشق، مستخدماً جهاز هاتف أمين فأخبرني بأن أوجلان تحدث معه، “وفي اعتراف نادر قال إنه لم يعد يسيطر على المتشددين في حزبه”، وأن أحد كبار قادته الميدانيين شمدين صاكيك هو الذي نفذ عملية قتل الجنود الأتراك. أضيف أن أوجلان ربما لم يكن منذ البداية واثقاً من أن المتشددين في حزبه سيلتزمون قراره وقف النار. يقول تشاندار في مذكراته أنه عندما سأل أوجلان خلال اللقاء معه في بر الياس: “هل يمكنكم فرض كلمتكم على قواتكم الموزعة في الجبال والمصممة على القتال؟ هل يمكنكم أن تنفذوا ما يقع على عاتقكم من الهدنة؟” فإنه قال بصراحة لم أتوقعها: “لن يكون هذا سهلاً حتى إنه سيكون صعباً جداً. أعتقد أنني سأتمكن من تأمين الهدنة. يكفي أن تتوقف العمليات وألا يطرق باب الهجرة، ونحن نعمل على تحقيق الهدنة”. يقصد أوجلان بـ “الهجرة” عمليات ترحيل سكان القرى الكردية التي تنفذها القوات الأمنية.

الحق أن الآمال ظلت قوية في تعزيز السلام حتى بعد وفاة أوزال في 17/4/1993 إذ استمر وقف النار على رغم أن الاهتمام كان منصباً بعد وفاته على من سيخلفه في رئاسة الجمهورية ومن سيخلف ديميريل في رئاسة الوزراء في حال وقع الاختيار عليه لخلافة أوزال لأنه كان المرشح الأقوى لشغل المنصب. في مطلع نيسان/ أبريل من ذلك العام كنت في أنقرة عندما التقيت في 7/4/1993 وكيل وزارة الخارجية أوزدم سانبيرك الذي كان مسؤولاً فيها عن العلاقات مع القيادة الكردية في العراق. سانبيرك اعتبر أن الأجواء كانت “مشجعة وإيجابية” وأن قرار أوجلان تمديد وقف النار “عامل مساعد”. وأضاف أن “المهم إدامة هذا المناخ كي تسنح الفرصة للاتراك على الأصعدة كافة، للتفكير بهدوء”. واقترح العمل في اتجاه “التعاون بين المثقفين الأتراك والكرد في أوروبا، حيث تعاني تركيا من صورتها السلبية وتكون دائما في موقف دفاعي تجاه اتهامات بانتهاكاتها حقوق الانسان”. لكنه لاحظ أن لتركيا “حسنات أيضاً تستحق ان يثمنها الكرد” فكان ردي له أن ذلك “يتطلب من تركيا أن تقدم للكرد أدلة ملموسة على أنها تعمل بصدق في اتجاه تحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان”. 

إقرأوا أيضاً:

لماذا ألغى طالباني زيارته أنقرة؟

انهيار وقف النار الذي سبق وفاة الرئيس أوزال وقبله مصرع قائد الدرك الجنرال أشرف بيتليس، أديا إلى تخلخل في توازن القوى في تركيا إذ انشغلت القوى السياسية والمؤسسات النافذة باختيار خلف لأوزال، مع ما كان سيترتب على ذلك من فرز لزعامات جديدة، الأمر الذي جعلها تنصرف عن الوضع الكردي فعادت  الأمور في المناطق الكردية الى حالها، تحديداً إلى استئناف القتال بين القوات التركية ومقاتلي “العمال الكردستاني”. في المقابل عاد أوجلان إلى التشدد فأدلى بتصريحات عنيفة ضد الحكومة التركية وأعلن أنه لن يكتفي باستئناف القتال، بل سيأمر عناصره باستهداف أهداف سياحية في غرب تركيا.

في غضون ذلك، استغل المتشددون في الأوساط السياسية والعسكرية عملية قتل الجنود غير المسلحين وانهيار وقف النار واستئناف القتال، ليوجهوا انتقادات ضد طالباني لكن الموقف الرسمي منه ظل متوازنا ولم يتأثر سلباً، حرصاً على استمرار العلاقات بين أنقرة والقيادة الكردية. وتأكيداً لعدم تغير موقفها، وجهت الحكومة التركية دعوة رسمية الى بارزاني وطالباني لزيارة أنقرة في حزيران/ يونيو. وكان برنامج الزيارة يتضمن لقاءات مع رئيس الجمهورية الجديد ديميريل ووزير الخارجية حكمت تشيتين ورئاسة أركان القوات المسلحة، لكن من دون لقاء مع تشيلر التي لم تكن قد تسلمت بعد منصب رئاسة الوزراء. في ذلك الوقت كنت في انقرة لا كمندوب عن “الحياة” بل في اطار اجراء دراسة لأحد مراكز الفكر الأميركية متمتعاً باجازة وقتية بلا راتب، مدتها ستة أسابيع تنقلت خلالها بين تركيا وكردستان. في الأثناء كان قزاز ممثل طالباني في أنقرة في اجازة خارج تركيا ولم يعد الى مقر عمله الا قبل يومين أو ثلاثة أيام من بدء الزيارة المقررة لبارزاني وطالباني، الأول آتياً من فيينا والثاني من دمشق. في الاثناء كنت على اتصال دائم بسفين دزه يي ممثل “الديموقراطي الكردستاني” في أنقرة، وعلمت أن لقاء بارزاني وديميريل ووزير الخارجية حكمت تشتين، لن يكون في أنقرة بل في اسطنبول، لأن الرئيس التركي سيكون هناك في تلك الفترة. وعندما وصل بارزاني الى اسطنبول زار أولاً قبر أوزال ثم منزله لتقديم التعازي لأرملته سمرة أوزال. وكان مقرراً بعد وصول طالباني أن يجتمعا معاً مع القيادة العسكرية التركية، للبحث في مسائل تتعلق بالأمن الحدودي. حتى ذلك الوقت كان طالباني عازماً على زيارة تركيا. فعندما أخبرته في اتصال أجريته معه ببرنامج بارزاني، طلب أن أبلغ عائلة أوزال بأنه أيضاً يرغب في زيارة قبره وأرملته. لكنه غير رأيه بعد يوم واحد وقرر إلغاء زيارته أنقرة.  

كانت الخارجية التركية ترتب المواعيد مع دزه يي وذلك لأنها بروتوكولياً لم تشأ أن تتصل بالموظف الإداري الذي كان يدير شؤون مكتب “الوطني الكردستاني” في غياب الممثل السياسي قزاز. هل كان ذلك الإجراء من الخارجية التركية، الذي فُسّر بأنه تجاهل متعمد، هو الذي حمل طالباني على إلغاء زيارته؟ اتصلت بمام جلال لأخبره أن وزير الخارجية حكمت تشتين أكد لي شخصياً أن أنقرة ترحب بزيارته “الآن أو في أي وقت يختاره وسيكون برنامج  زيارته مماثلاً لبرنامج بارزاني بما في ذلك استقباله رسمياً من قبل ديميريل”. وعندما حاولت إقناعه بعدم إلغاء الزيارة، قال إنه لن يستطيع السفر لعدم وجود رحلة جوية من دمشق في الوقت المناسب، ثم أضاف سبباً آخر هو أن عليه البقاء في دمشق لإجراء “محادثات مهمة مع القوميين والإسلاميين في المعارضة العراقية”. من دمشق عاد طالباني الى كردستان عبر الحدود السورية وليس من طريق تركيا كما كان يفعل منذ إقامة العلاقات مع أنقرة. قرار طالباني إلغاء زيارته أنقرة، أثار استغراب بارزاني، خصوصاً أنه كان مقرراً إجراء محادثات مهمة مع كبار المسؤولين الأتراك، فطلب منهم ترتيب موعد جديد للاجتماع بهم بمشاركة طالباني، لأن مواضيع البحث بين الطرفين كانت تستدعي قرارات مشتركة بينه وبين طالباني. وبالفعل عقدت بعد فترة قصيرة محادثات بين ممثلي القيادة العسكرية التركية وبارزاني وطالباني في منطقة تقع على الحدود التركية- العراقية.

إقرأوا أيضاً:

ديميريل يغسل يديه من الملف الكردي

في أثناء وجودي في أنقرة، كنت أسعى إلى معرفة الموقف المحتمل لديميريل من التعامل مع الوضع الكردي، بعد انهيار وقف النار بين القوات التركية و”العمال الكردستاني”. كان شائعاً آنذاك أن ديميريل يخاف من العسكر ونُقل عن أوزال قوله مرة أن المشكلة ليست في خوف ديميريل من العسكر فحسب، بل الأسوأ من ذلك أن العسكر يعرفون أنه يخاف منهم. كان طالباني طلب مني ومن قزاز أن أبلغ رسالة إلى إلنور تشيفيك مستشار ديميريل، مفادها أن يمنع ديميريل العسكر من شن عمليات عبر الحدود، في مقابل مساع كردية إلى ضبط الحدود وإقناع “العمال الكردستاني” بالامتناع عن القيام بهجمات ضد القوات التركية بالتسلل عبر الحدود الكردية. وهذا ما فعلناه، فوعدنا تشيفيك بأنه سينقل رسالة طالباني إلى ديميريل. في 8/7/1993 التقيت تشيفيك في مقر صحيفته “توركيش دايلي نيوز”. هنا أنقل ما دونته في دفتر ملاحظاتي في ذلك اليوم عن لقائي معه. سألته هل إن كان رداً من ديميريل. هز تشيفيك رأسه بإحباط وقال إنه حاول ست مرات أن يلتقي ديميريل ليبحث معه الوضع الكردي وموقفه في ضوء ما سمعه مني ومن قزاز، لكنه في كل مرة كان الرئيس يؤجل اللقاء بذريعة ازدحام جدول أعماله. أخيراً قرر تشيفيك أن يرفع له مذكرة ضمنها رسالة طالباني وفي السياق كتب: “إنني أبلغت كامران قره داغي اليوم أن السيد ديميريل قرر غسل يديه من الموضوع وترك الأمر للعسكر”. وتابع تشيفيك أنه علم أن ديميريل بعدما قرأ مذكرته صاح: “النجدة” وطواها ووضعها في جيبه! تشيفيك ساق احتمالين وراء قرار ديميريل، وأعرب عن رأيه في أن موقفه ربما يكون “أبعد من مجرد رغبته في التخلص من الملف الكردي، بل لعله يريد أن يفشل العسكر وبالتالي سيعودون إلى طلب العون من السياسيين”. أما الاحتمال الثاني في رأي تشيفيك فهو أن خليفته تانسو تشيلر، التي تؤيد العسكر في تعاملهم مع الوضع الكردي سيكون موقفها ضعيفاً في حال فشلهم، “وبالتالي فإنها تطلب دعمه وفي المقابل سيضمن أنها لن تخرج عن طاعته”!

لكن ما سلف لم يكن سوى مجرد أحلام. فالآمال باستمرار الأجواء السلمية ذهبت هباء، حالما انهار وقف النار كما قال جنكيز تشاندار في مذكراته “قطار الرافدين السريع”: “غدا تاريخ 24 أيار 1993 من أهم نقاط الانكسار في تاريخ تركيا والقضية الكردية. فقد وصل الدم إلى الركب منذ ذلك التاريخ وحتى 15 شباط 1999، تاريخ القبض على عبدالله أوجلان في كينيا. مات وقتل الآلاف، وتفسخت الدولة بالجرائم التي لم يكشف عن مرتكبيها، والاغتيالات التي لم تُفك ألغازها. وبدأت دوّامة ثأر لم يعد بالإمكان كبحها”.

إقرأوا أيضاً: