fbpx

استهداف الأندية العلمانيّة اللبنانية: أي رسالة سياسيّة لأي هدف؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

من الواضح أن ثمّة مجهراً أمنياً وضع هذه الأندية ونشاطها تحت المراقبة، وأن ثمّة رسائل سياسيّة لا بد أن تصل للقيمين على عملها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن كريم صفي الدين سوى واحد من مئات المشاركين في الاحتجاجات التي حصلت في شارع الحمرا في شهر كانون الأوّل الماضي، على خلفية دولرة الأقساط وتغيير سعر الصرف المعتمد لتقاضيها في عدّة جامعات، والتعطيل المتعمّد لأيّ دور يمكن تلعبه الدولة في ضبط هذه المسألة. 

يومها، وبخلاف معظم من كانوا في المظاهرة، تواجد كريم في الصفوف الخلفيّة للمظاهرة، لإبعاد المواجهات الصاخبة عن بعض أفراد عائلته الذين اصطحبهم معه في ذلك اليوم، وتحديداً أخته الصغرى. هذه الحقيقة لا تحمل في طياتها حكماً أي انتقاص من دور الطلاب الذين كانوا في صفوف المواجهات الأولى، والذي تصدوا بالأيدي العارية لقوى أمنيّة استحضرتها إدارات جامعاتهم، لمنعهم من ممارسة حقهم في التظاهر داخل الجامعات. كما لا تقلل هذه الحقيقة من شأن الدور الطليعي الذي يلعبه كريم ضمن شبكة “مدى” وحركة الأندية العلمانيّة، الذين كانوا من منظمي تلك الاحتجاجات. لكنّ الإشارة إلى هامشيّة دور كريم في المواجهة الميدانيّة المباشرة، تبدو ضروريّة اليوم لفهم خلفية ما جرى بعد ستة أشهر.

فمنذ أيام، وصل إلى منزل كريم على نحو غير مفهوم تبليغ من النيابة العامة العسكريّة، يطلب حضوره الإثنين إلى ثكنة الأمير بشير في منطقة الأونيسكو، بتهمة رشق العناصر العسكريّة بالحجارة في تلك الاحتجاجات، وهي تهمة تنفيها كل تسجيلات الفيديو، والعشرات من رفاق كريم الذين كانوا معه في ذلك اليوم. باختصار، كان من الواضح أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن في ذلك الاستدعاء ما يتجاوز حدود التحريات الأمنيّة التي تلي المظاهرات في العادة، خصوصاً أن المُستدعى لم يكن من موقوفي ذلك اليوم ولا من وجوه المواجهات البارزة، وأن المسألة تُعنى بحدث أكل عليه الزمان وشرب.

بالنسبة إلى أحزاب المنظومة، يمكن استيعاب أي خضة على المستوى الشعبي أو سلسلة احتجاجات فوضويّة يمكن أن تنتج عن هذه الضغوط المعيشيّة، إذا لم يوازي ذلك أي تأطير سياسي لهذه الخضات أو الاحتجاجات. لكن ما لا يمكن استيعابه، هو حالة سياسيّة منتظمة قادرة على استيعاب المستائين من الوضع الحالي، وقادرة على تسجيل النقاط والمواجهة والضغط

لفهم سياق هذا الاستدعاء، يمكن العودة إلى الأيام القليلة التي سبقت حصوله، حيث تعرّض العديد من الناشطين البارزين في شبكة “مدى” والأندية العلمانيّة إلى جملة من المضايقات و”الحركشات”، وإن لم تصل إلى حد الاستدعاء الصريح إلى الثكنات. وقد جرى ذلك من خلال الضغط على بعض إدارات الجامعات لفتح ملفات تأديبيّة بحق بعض الناشطين في الأندية العلمانيّة، على خلفية الاحتجاجات نفسها بعد مرور ستة أشهر على انتهائها، أو عبر تحركات الأجهزة الأمنيّة التي كانت تستقصي بشكل صريح ومباشر عن نشاط أندية معيّنة وطبيعة عملها. وفي كل هذه الحالات، كان من الواضح أن ثمّة مجهراً أمنياً وضع هذه الأندية ونشاطها تحت المراقبة، وأن ثمّة رسائل سياسيّة لا بد أن تصل للقيمين على عملها. وفي هذا السياق بالتحديد، يأتي استدعاء منسّق مجموعة العمل السياسيّة في شبكة “مدى” إلى التحقيق، علماً أن كريم نفسه يُعد من أبرز الوجوه المسؤولة عن توسّع أدوار الشبكة السياسيّة ونشاطاتها، بالإضافة إلى مساهمته في دعم إطلاق الكثير من النوادي التي تأسست خلال السنة الماضية.

لماذا إذاً، تستهدف الأذرع الأمنيّة الأندية العلمانيّة وشبكة “مدى” بهذا الشكل؟ وأي دور لعبه هذا الحراك السياسي الفاعل حتّى يواجه هذا الرصد والتعقّب والتضييق؟

تقوم شبكة “مدى” على مبدأ ربط الأندية والتجمعات العلمانيّة الشبابيّة ضمن إطار مظلّة واسعة، وتستهدف هذه المظلّة بالدرجة الأولى تكوين مساحة مشتركة تسمح للأندية والتجمعات بلعب دور فاعل على المستوى الوطني. في الوقت نفسه، تساهم الشبكة في الاستفادة من خبرات الأجيال الأقدم لتأسيس نوادي علمانيّة جديدة في الجامعات والنقابات والمناطق، ولتكوين منظومة دعم تقنيّة للأندية الموجودة أساساً. هذا النموذج يكفل في الوقت الحالي التأسيس لحالة سياسيّة فاعلة ومؤثرة وطنيّة، مع الحفاظ على هامش الاستقلاليّة والخصوصيّة للنوادي الموجودة، والقادرة على لعب دورها النقابي والسياسي في الأماكن التي تنشط بها.

الانتخابات الطلابيّة التي حصلت في بداية العام الدراسي الحالي، أمنت لهذه النوادي انتصارات كبيرة ووازنة، وتحديداً في الجامعتين الأميركيّة واليسوعيّة، حيث تمكّن الناديان العلمانيان هناك من الفوز بأكبر كتل داخل المجالس الطلابيّة. وفي حالة الجامعة اليسوعيّة بالتحديد، مثّل الانتصار العلماني هناك مفاجأة كبيرة، لكونه حقق نتائج باهرة في كليات كانت تُعد في السابق معاقل تاريخيّة لبعض الأحزاب الطائفيّة، كحالة كليّة الحقوق مثلاً.

وطوال الأشهر التي تلت هذا الاستحقاق، تمكنت النوادي العلمانية من توسيع رقعة عملها، لتتوسع من أربعة نوادي فقط قبل الانتخابات، إلى ما يقارب الـ11 نادياً علمانياً جامعياً اليوم، يتمتعون بحضور وتأثير يفوقان حضور وتأثير جميع الأحزاب الطائفيّة في معظم الجامعات الخاصة والجامعة اللبنانيّة. كما ضمّت شبكة “مدى” بعدها نحو ثلاث نوادي علمانيّة تعمل على أساس مناطقي، في كل من عاليه وصور وصيدا، بالإضافة إلى تجمع نقابي في قطاع الهندسة. كل هذه التوسّع المتسارع، والذي حصل خلال فترة أشهر قليلة، مثّل نموذجاً فريداً من نماذج الانتظام السياسي والتوسّع التنظيمي على مستوى الحالة الاعتراضيّة في البلاد، وهو ما أثار انتباه قوى النظام السياسي الحذرة من أي حالة منظمة ووازنة يمكن أن تؤسس لبديل سياسي. علماً أن أجندة الشبكة تشمل اليوم عددا كبيرا من الأندية والتجمعات التي يتم العمل عليها، بانتظار إطلاقها خلال الفترة المقبلة.

في الوقت نفسه، كان من الواضح أن هذه الأندية تحمل خطاباً سياسياً متميّزاً عن الكثير من الحالات الاعتراضيّة التي ألفت السلطة التعامل معها. فالأندية هذه لا تساوم في إظهار هويتها الإيديولوجيّة، من تبني الطرح العلماني بكل وضوح كعنوان سياسي، إلى رفع أولويات العدالة الاجتماعيّة والنسويّة وحماية الفئات الأكثر هشاشة، بالإضافة إلى طرح قضايا أكثر جرأة تقارب موضوع الأنظمة الاستبداديّة في العالم العربي دون أي استثناء، وقضايا حقوق اللاجئين والحريات العامّة. هذا الخطاب الواضح والمتميّز، والذي انطلق من التيار اليساري كروحيّة وأجندة تحرّك أولوياته، لا كشعار يتمّ استعماله للمزايدة أو الاستعراض القبلي، تمكّن من كسب المصداقيّة أمام الرأي العام في جميع الأوساط التي عملت الأندية فيها. ولعلّ هذا الوضوح بالتحديد، ونجاحه في كسب التأييد على مستوى القواعد الشعبيّة، هو ما أثار خشية الكثير من أطراف النظام السياسي من هذه الحالة المستجدة التي تملك النيّة للمواجهة والقدرة عليها.

إقرأوا أيضاً:

الاحتجاجات، موضوع الاستدعاء الأخير، كانت مجرّد دلالة لما يمكن أن تحققه هذه النوادي في أي مواجهة مباشرة مع النظام أو تفرعاته. في هذه المرحلة، تستعيد الحركة الطلابيّة بريقاً خاصاً فقدته منذ زمن طويل، فلأوّل مرة منذ التسعينات تتكاتف مجالس طلابيّة منتخبة من جميع الجامعات الخاصّة، لتفاوض وزير التربية وتطالبه بلعب دوره الرقابي الذي تغاضت الوزارة عن لعبه طوال السنوات الماضيّة. ولأوّل مرّة منذ زمن طويل أيضاً، تنطلق احتجاجات طلابيّة من جميع الجامعات دون استثناء، لحمل قضايا مطلبيّة نقابيّة مشتركة، ولتخلق مواجهة صريحة مع السلطة وإدارات الجامعات المستفيدة من سياساتها. أما المسألة التي فاجأت أركان السلطة فكانت تكاتف النوادي لتحمل هذه القضايا إلى القضاء، لتنال أحكاماً من قضاء العجلة تحمي الطلاب الذي سددوا الأقساط لدى كتاب العدل بسعر الصرف الرسمي، فيما يفترض أن يتمّ البت بأساس القضيّة قريباً. 

لكل هذه الأسباب، كانت النوادي هدفاً طبيعياً لأقطاب النظام. لكنّ توقيت الاستهداف يحمل دلالاته أيضاً، فالبلاد تتجه إلى وضع معيشي قاسي يمكن أن يؤسس لانفجار شعبي كبير، سواء من ناحية آثار رفع الدعم في الفترة المقبلة أو لجهة الانهيارات المتتالية في سعر الصرف ومعدلات التضخّم القاسية. بالنسبة إلى أحزاب المنظومة، يمكن استيعاب أي خضة على المستوى الشعبي أو سلسلة احتجاجات فوضويّة يمكن أن تنتج عن هذه الضغوط المعيشيّة، إذا لم يوازي ذلك أي تأطير سياسي لهذه الخضات أو الاحتجاجات. لكن ما لا يمكن استيعابه، هو حالة سياسيّة منتظمة قادرة على استيعاب المستائين من الوضع الحالي، وقادرة على تسجيل النقاط والمواجهة والضغط، والانطلاق من القضايا النقابيّة المحليّة للتعامل مع الإشكاليات السياسيّة الأكبر. لكل هذه الأسباب، جاء استهداف حالة النوادي و”مدى” بالتحديد، ولهذه الأسباب جاء الاستهداف في هذه المرحلة بالذات.

إقرأوا أيضاً: