fbpx

إيفلين بوري تودّع الفيوم وورش الخزف والحب التي صنعتها

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قصة إيفلين مع أهل تلك القرية تبدو نادرة ومميزة، فليست مسألة عادية أن يحصل هذا الاندماج والتفاعل بين المجتمع المحلي وشخص أجنبي غريب.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

رحلت الخزافة السويسرية إيفلين بوري في مصر، ودُفنت فوق جبل شاهق يطل على بحيرة قارون في الفيوم، اختار لها ابنها أنجيلو هذا المكان لتدفن فيه لأنه يجمع أكثر مشهدين سحراها في الفيوم، البحيرة والجبل.  وعلى رغم أنها أوصت بأن تدفن داخل حديقتها في قرية تونس المطلة على البحيرة، إلا أن وزارة البيئة رفضت تنفيذ الوصية بزعم أن القرية أصبحت مزاراً سياحياً.

أتت الخزافة السويسرية إيفلين بوري إلى مدينة الفيوم في صعيد مصر في منتصف سبعينات القرن الماضي، كانت ترغب في العزلة، بعدما سحرتها بحيرة قارون والجبال والصحراء والقطع الزراعية المملوءة بنبات السمار الذي يُصنع منه الحصير.

 اعتزلت إيفلين بوري بالفعل، لكن بجانب عزلتها خلقت قرية كاملة مكتفية بذاتها اقتصادياً حيث ورش صناعة الخزف (30 ورشة)، هذه الورش لم تملكها إيفلين ولم تتحكم بأرباحها، بل يمتلكها أصحابها الخزافين الذين تعلموا على يدها الحرفة في مدرسة الفخار، منذ طفولتهم.

الخزافة السويسرية إيفلين بوري

درست إيفلين الفنون التطبيقية، تخصص خزف في سويسرا، وحين أتت إلى العزلة بالفيوم لم تفكر في أي مشاريع تخص مجالها، وكما يذكر لـ”درج” إبراهيم عبلة، مدير مركز الفيوم للفنون بقرية تونس والذي جاء برفقة والدته السويسرية لزيارة إيفلين في الثمانينات من القرن الماضي في بيتها في القرية، قال إن إيفلين رأت مصادفة أطفال القرية يُشكّلون من الطين ألعاباً وأبراج حمام وحيوانات. ورأت أن لديهم موهبة فطرية غير معتادة في التشكيل بالطين، فقررت أن تنشئ مدرسة للفخار لتعليم الأطفال الخزف مثلما تعلمته بالتقنيات الحديثة في سويسرا، وبدأت المدرسة تستقبل الأطفال من عمر 8 سنوات.

 كانت قرى الفيوم تعتمد بشكل أساس على الصيد من البحيرة والزراعة المحدودة وإنتاج الفخار (الخزف)، لكن خزف أهالي الفيوم كان بدائياً، لا يتحمل درجات الحرارة العالية، وأشكاله محدودة بلا رسومات، مثل “قلة المياه” وهو إناء يستخدم للشرب، و”الزير” وهو إناء كبير يستخدم لتخزين المياه، والأواني الفخارية التي تتحمل درجات حرارة محدودة.

يقول إبراهيم عبلة، “بدأت إيفلين تعليم أطفال القرية صناعة الخزف بتقنية الغليز، وحرق الفخار على درجات حرارة عالية، وتشجيع الأطفال على رسم مفردات الطبيعة المحيطة بهم على الخزف وهو ما جعل فخار تونس مميزاً ويجذب كثيرين حول العالم”.

“التعاونيات” وخلق المجتمعات البديلة

بدأت إيفلين- والذي يعني اسمها الحياة والعائشة- في تغيير شكل الحياة في القرية التي كانت بلا بنية تحتية، لا كهرباء ولا مياه، وبعيدة من كل مظاهر الحضارة الحديثة والتطور، أنشأت إيفلين عيادتها في الطب البديل لإنقاذ أطفال القرية من الأوبئة فيما كانت القرية- وما زالت- خالية من الوحدات الصحية.

كانت الحياة أشبه بالتعاونيات، من يمتلك عنقود عنب يتبادله برغيف خبز مع جاره، وهكذا عمّقت إيفلين هذا السلوك كي تصبح القرية تعاونية كبيرة يتحقق فيها الاكتفاء الاقتصادي.

 تخرج الجيل الأول من صناع الخزف بالغليز  من مدرسة إيفلين في الثمانينات، ومكنتهم إيفلين من السفر بمنتجاتهم إلى فرنسا وسويسرا ومعظم دول العالم كما ذكر لـ”درج” إبراهيم عبلة.

انتعاش الوضع الاقتصادي والفرص التي وفرتها إيفلين بعد مشروع مدرسة الخزف، ساهمت في تغيير شكل الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد في القرية، يقول عبلة: “قبل أن تأتي إيفلين لم يكن مسموحاً لبنات القرى في الفيوم بالعمل واكتساب المال والاستقلال الاقتصادي، لكن بعد تخرج أول بنت من مدرسة الخزف وتسمى راوية، تغيرت المعتقدات، راوية هذه أصبحت تملك  ورشتها،  واسمها في صناعة الخزف علامة معروفة. سافرت راوية إلى كل دول العالم بمنتجاتها بصحبة إيفلين، وأصبحت مثلاً أعلى لكل نساء قرية تونس الخزافات.

في ظل القرية التي بدأت تتشكل على يد إيفلين، كانت في الفترة ذاتها فكرة ثورية أخرى تتبلور في الولايات المتحدة الأميركية لتتقاطع مع ما تفعله إيفلين في مصر مع بعض الاختلافات.

في الثمانينات، الراغنيش أوشو، استطاع خلال ثلاث سنوات أن يحول أرض فارغة على مساحة 64 فداناً في ولاية “أوريغون” الأميركية إلى مدينة متكاملة، جلب راغنيش المشردين والمتسولين من كل أنحاء الولايات المتحدة لرعايتهم ومنحهم جنسية الولاية التي أسست “مجلس مدينة” مستقل وحققت ولاية أوشو اكتفاءاً ذاتياً واستقراراً في اقتصادها حتى أطلق عليها البعض “فردوس أوشو”.

 وعلى رغم الاضطرابات والصراعات التي دخل فيها أوشو مؤسس المدينة الجديدة مع الحكومة الأميركية، والشائعات التي أحاطت بالأمر وجسّدها فيلم Wild wild country،  إلا أن فكرة التعاونيات في مدينته، ملهمة مثل تجربة إيفلين في قرية تونس، وتدل على قدرة التعاونيات على انتشال المجتمعات البعيدة من التنمية من العزلة والتهميش الاقتصادي.

الصورة السائدة عن الأجانب في مصر

يصعب أن تتخلص الشعوب التي خضعت للاستعمار واستنزاف ثرواتها من الريبة في أي مواطن أبيض آتٍ للاستقرار على أرضها، سواء تحت مسمى العزلة أو الاستثمار، وهذا التصور منطقي، بخاصة أن الحملات الاستعمارية التي شهدتها مصر سواء تحت حكم الدولة العثمانية أو حكم محمد علي باشا ثم الحملة الفرنسية، على رغم ما صاحبها من نهضة، إلا أنها عززت أيضاً التمايز الاجتماعي والطبقي واللاعدالة في توزيع فرص الحياة.

الخزافة السويسرية إيفلين بوري

في حالة إيفلين حينما ذهبنا إلى معمل الخزف الخاص بها داخل منزلها، كانت الورشة عبارة عن طاولة وحيدة عليها ثلاثة فناجين من الطين شكلتها إيفلين قبل ساعة واحدة من رحيلها ولم يمهلها الوقت لرسمها وإحراقها. بيتها الملاصق لمدرسة الخزف كان بسيطاً من طبقتين وغرفتها كانت معزولة لا تتعدى العشرين متراً من الطوب اللبن. وكانت تطوّقها حديقة بأشجار نادرة وكثيفة. يشبه بيتها نسبياً بيوت أهل القرية وورشتها أصغر مما تخيلنا.

انتعاش الوضع الاقتصادي والفرص التي وفرتها إيفلين بعد مشروع مدرسة الخزف، ساهمت في تغيير شكل الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد في القرية.

قصة إيفلين مع أهل تلك القرية تبدو نادرة ومميزة، فليست مسألة عادية أن يحصل هذا الاندماج والتفاعل بين المجتمع المحلي وشخص أجنبي غريب. 

يقول حسين وهو من مدرسة الخزف لـ”درج” إن “إيفلين يسرت لخزافي تونس طريق الوصول إلى الأماكن التي تشتري منتجاتهم بأسعار باهظة في منطقة الزمالك في مصر، لم تستولِ على جهدهم ودعمتهم للاستقلال عنها، لذلك توقفت ورش الخزف في تونس عن العمل لمدة أسبوعين حداداً عليها، وشيعها كل أبنائها من الخزافين حتى مثواها الأخير”.

الحاجة جليلة، والدة راوية – أول فتاة تتخرج من مدرسة الفخار- كانت ملازمة لإيفلين في بيتها، رفيقة رحلة دامت أكثر من خمسين عاماً، قالت لـ”درج”، إن إيفلين غيرت مصير أحفادنا جميعاً، تعلمت على يدها وبنت بأموال الخزف بيتاً وورشة وزوجت أبناءها وبناتها وسافرت إلى العالم والآن أحفادها يتقنون المهنة و”مبسوطين مادياً”، وبرغم ذلك “كل فلوس الدنيا لن تعوضنا عن خسارة إيفلين”.

إقرأوا أيضاً: