fbpx

الثورة الأرمنية المغدورة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كشفت الأحداث التي حصلت منذ عام 2018 عن رغبة قوية في الإصلاح داخل أرمينيا، لمكافحة فساد النخبة النافذة ومن أجل تحقيق عملية انتخابية عادلة ونزيهة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هل يمكن أن تنقذ الانتخابات التشريعية المبكرة وعود ثورة 2018 السلمية؟

قامت الثورة قبل ثلاثة أعوام فقط، لكن ذكراها تبدو بعيدة جداً! ففي ربيع عام 2018 خرج آلاف الأرمن- من الشباب والفئة الأكبر سناً- إلى الشوارع مطالبين بالتغيير. رفض المتظاهرون مناورات الرئيس السابق سيرج سركسيان للبقاء في السلطة لفترة رئاسية ثالثة غير دستورية. وقد مثلت الثورة حدثاً استثنائياً: ليس بسبب التحضر الشديد الذي امتازت به الحركة الاحتجاجية أو سلميتها، وحسب، إنما أيضاً بسبب الأجواء المبهجة التي سادت المشهد، كما لو كان المتظاهرون يحتفلون بمستقبل يعلمون بالفعل أنه سيكون أفضل. وبرهنت حقيقة أن الإدارة الحاكمة لم تفتح النيران في وجه المحتجين على أن الثورة السلمية يمكن أن تنجح.

وإذا نظر المرء أيضاً إلى السياق العام في سنة 2018 سيجد أن الحدث كان مدهشاً. ففي الشرق، تحولت آذربيجان إلى “جمهورية عائلية” بعدما ورث إلهام علييف الحكم عن أبيه في 2003. وفي الغرب، أصبحت الأوضاع في تركيا، التي يحكمها أردوغان منذ 2003 أيضاً، أصعب منذ الانقلاب الفاشل عام 2016. وشمالاً في روسيا، ما زال فلاديمير بوتين في الحكم منذ عام 2000. أما جنوباً، فوسعت الجمهورية الإسلامية الإيرانية نطاق نفوذها في أرجاء الشرق الأوسط، لكنها واجهت في المقابل سخطاً داخلياً مستمراً. وقد شهد عام 2018 صعوداً عالمياً للنزعات الشعبوية والقومية، وتولى دونالد ترامب قيادة العالم الذي يُعرِّف نفسه بأنه “عالم حر”. في خضم هذا المشهد، اندلعت “الثورة المخملية” الأرمنية. ومثلما كتبتُ في 2018 لصحيفة “أغوس”، فإنه “في ظل مناخ دولي يزداد انغلاقاً تحت وطأة النزعة القومية الشعبوية والخطابات العسكرية، يُعد التغيير السلمي للنظام في أرمينيا بمثابة رياح جديدة مرحَّب بها“.

ستُجري أرمينيا انتخابات مبكرة في 20 حزيران/ يونيو 2021، وثمة أمل ضعيف في أن تفي تلك الانتخابات بوعود ثورة 2018.

لم ندرك حينئذ مدى صعوبة الحفاظ على أجندة مؤيدة للديموقراطية في زمن الشعبوية اليمينية العالمية والواقعية السياسية الساخرة. بعد عقدٍ من حكم سركسيان -عانى الناس خلاله من الركود والفساد- سادت أخيراً أجواء من “السعادة” في العاصمة يريفان. لكن سرعان ما عكرت ظروف خارجية صفو هذه الأجواء؛ فقد شن تحالف من الزعماء الاستبداديين حرباً تهدف إلى فرض شرعية جديدة من خلال إثارة النعرات القومية. أسفرت الحرب التي دامت 44 يوماً عن قتل وبتر أطراف آلاف المجندين الشباب. ومُنِيَت أرمينيا، التي تخلت عنها حليفتها روسيا وتجاهلتها الديموقراطيات الأوروبية، بهزيمة ساحقة. وتبددت أجواء السعادة التي عمَّت يريفان، وحلَّ بدلاً عنها حزنٌ طاغٍ، حداداً على الأبناء المفقودين.

ستُجري أرمينيا انتخابات مبكرة في 20 حزيران/ يونيو 2021، وثمة أمل ضعيف في أن تفي تلك الانتخابات بوعود ثورة 2018. فيما يتساءل كثيرون في أرمينيا الآن عمّا إذا كانت الحرب والهزيمة هما الثمن الذي يدفعونه نتيجة حلمهم بمستقبلٍ أفضل، وما إذا كان من الأفضل لهم أن يقبلوا بنظام استبدادي طالما أنه يكفل لهم الأمن والاستقرار.

تعرض الوعد بالتغيير الديموقراطي في أرمينيا للخيانة. فقد حاول زعماء استبداديّون -لم يتورعوا عن شن حربٍ ضارية- القضاء عليه. وتخلت عنه روسيا، الحليف العسكري لأرمينيا، التي تغاضت عن حربٍ استمرت 44 يوماً ضد حليفتها. وغدرت به أوروبا التي لا يشغلها سوى مصالحها التجارية وحساباتها المصرفية، والتي لا تكترث بإحلال الديموقراطية في حدودها الشرقية.

وخانته أيضاً إدارة نيكول باشينيان الذي تولى السلطة عام 2018؛ فهي الإدارة التي لم تكتف بفشلها في التعامل مع العلاقات الأرمنية الخارجية، إضافة إلى فشلها في تقليل مخاطر العزلة والحرب، ولكنها كشفت أيضاً عن عجزها عن القيام بالإصلاحات الداخلية اللازمة. كان فشلها أساساً نتيجة قيامها بفصل عملية صنع القرار عن الحركة الاجتماعية الأوسع التي أتاحت نجاح ثورة 2018. وكان الرد الشعبويّ لدى باشينيان هو “أنا الديموقراطية”.

على رغم وجود أكثر من عشرين حزباً سياسياً تتنافس في الانتخابات، يكمن التحدي الحقيقي في روبير كوتشاريان، الرئيس الثاني لأرمينيا.

ليس لدى باشينيان اليوم الكثير مما يمكن أن يعد به في طريق الإصلاح. فالهزيمة وتجرُّؤ الأعداء الأقوياء في الداخل أديا إلى إضعاف موقفه وحسب، كما فقد الدعم من الطبقة الوسطى الحضرية المتعلمة، تلك الطبقة التي أوصلته إلى السلطة ولكنها اليوم تشعر بمرارة الإحباط. فالدعم الشعبي لباشينيان مصدره الأقاليم والطبقات الشعبية التي تراه ضعيفاً ولكنها تفضله على البدائل الأخرى. لكن بدون دعم المجتمع المدني لن يملك باشينيان الفرصة للنجاح في الإصلاحات.

على رغم وجود أكثر من عشرين حزباً سياسياً تتنافس في الانتخابات، يكمن التحدي الحقيقي في روبير كوتشاريان، الرئيس الثاني لأرمينيا. يقدِّم كوتشاريان وعوداً بتحقيق الأمن وتحجيم النفوذ الغربي وخصوصاً نفوذ رجل الأعمال جورج سوروس، إضافة إلى ترسيخ التعاون مع روسيا. ووعد كوتشاريان أيضاً باستعادة هاردوت وربما شوشي عبر المفاوضات، وإن لم يشرح على الإطلاق كيفية القيام بهذا الأمر. غير أن كَونَ باشينيان ما يزال في السلطة بعد هزيمة عسكرية قاسية أمرٌ يشهد على مدى انعدام شعبية كوتشاريان وحلفائه القوميين في داخل أرمينيا.

كشفت الأحداث التي حصلت منذ عام 2018 عن رغبة قوية في الإصلاح داخل أرمينيا، لمكافحة فساد النخبة النافذة ومن أجل تحقيق عملية انتخابية عادلة ونزيهة. وعلى رغم توتّر الأجواء السياسية والهجوم اللفظي الحاد في بعض الأحيان، لم تقع أحداث عنف خلال الحملات الانتخابية. إن حدوث عملية ديموقراطية في تلك المنطقة بأكملها، باستثناء جورجيا، لهو أمر جلل. لا يهم مَن سيفوز بالانتخابات هذا العام، بقدر أن يكون هناك نظام برلماني تظهر فيه معارضة قوية إلى جانب المجموعة الحاكمة. وستكون هذه هي الخطوة الأولى نحو إرساء قواعد عملية سياسية، ونحو تأسيس مبدأ الفصل بين السلطات.

وقد أظهرت أحداث الأعوام القليلة الماضية أيضاً أن هناك عقبة أخرى أمام التحول الديموقراطي في أرمينيا؛ وهي الإدارة المتعذرة على الإصلاح للدولة التي ورثتها أرمينيا عن الحقبة السوفياتية. وعلى مدى عقودٍ ثلاثة، أحجم قادة البلاد عن معالجتها. من دون تحديث وتطوير هذه الإدارة، لن تُعالَج مسائل المشاركة الديموقراطية وسيادة القانون والفساد، وغيرها من مناحي الفشل التي تكشّفت العام الماضي. لن تتحقق تلك الإصلاحات من خلال مجموعة صغيرة من الناس تصل إلى السلطة، ليصبح الجهاز البيروقراطي للدولة تحت تصرفها في نهاية المطاف. إنما مواصلة الضغوط من الأسفل، مما نسميه “المجتمع المدني”، هي ما ستُحقق الإصلاح المنشود لجهازٍ بيروقراطي وإدارة عامة عفا عليهما الزمن.

إقرأوا أيضاً: