fbpx

هؤلاء السوريّون الذين عبروا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

والحال أنّ الوصول والعبور كانا، بالنسبة إلى معظم الأصدقاء السوريّين، شيئاً واحداً. بعضهم راوده أن يستقرّ في لبنان. بعضهم ربّما فكّر في أن يكون لبنان محطّة تمرين على تغريبة أوروبيّة لاحقة. شاهدوا هنا جبران باسيل قبل أن يشاهدوا هناك ماتّيو سالفيني.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

(إلى ذكرى ميّ سكاف)

لم أكن أعرف منصور حين اتّصل بي. كانت المنطقة التي غادرها في سوريّا ساخنة جدّاً، وفيها بكّر القمع فلم يترك مكاناً لمعارض مثله.

لكنّ السوريّين بدأوا يفدون تباعاً فيوسّعون حياتنا القليلة. لقد راحوا يهبوننا صداقاتٍ كنّا ظننّا أنّنا بتنا عاجزين عن عقدها، وانشغالاتٍ مدارها آمال عزفنا، منذ زمن، عن مثلها.

غير أنّ منصور، الذي كان أوّل الواصلين، كان أيضاً أوّل العابرين. هناك، في واحد من بلدان أوروبا الشماليّة جدّاً، استقرّ واستقرّت عائلته. والحال أنّ الوصول والعبور كانا، بالنسبة إلى معظم الأصدقاء السوريّين، شيئاً واحداً. بعضهم راوده أن يستقرّ في لبنان. بعضهم ربّما فكّر في أن يكون لبنان محطّة تمرين على تغريبة أوروبيّة لاحقة. لا هذا حصل ولا ذاك. الذين فكّروا في البقاء طردهم لبنان بصور مختلفة، ساعده على طردهم ضغط حياتهم المادّيّة تبعاً لتشرّد لم يكن في الحسبان. الذين فكّروا في أن يتمرّنوا فيه على أوروبا تمرّنوا فيه على أسوأ ما في أوروبا. شاهدوا هنا جبران باسيل قبل أن يشاهدوا هناك ماتّيو سالفيني.

اقرأ أيضاًزياد الرحباني: أين المشكلة؟

الوصول والعبور كانا شيئاً واحداً تقريباً. إيلي أوحى أنّه سيبقى هنا بعدما أنشأ مع أرصفة بيروت ولياليها صلة وطيدة. عبد الله صار لبنانيّاً “داخليّاً” إذ أقام في جبل ناءٍ صادق بعض شبّانه وبعض مُسنّيه. رستم استرخى فجعل بيروت محطّة في ذَهابات عابرة تسبق إيابات توهّمها راسخة صلبة. مازن صاهر اللبنانيّين وراح ينقّل سكنه بين مناطقهم وأحيائهم، يعيشها ويعيش فيها حيث يُعمل حسّ المقارنات الذكيّ. ديما انتمت عميقاً إليهم وصادقت مقاهيهم وأخبارهم الحميمة وحركات الغيم والمطر التي تصل بيروت بدمشق. فوز تأمّلت واستنتجت وتحفّظت بكثير من الحبّ والإلفة والأناقة. دارا، الأكثر إسراعاً، روى وسمع وأسمع ومزح ومازح. أكرم وزّع الكثير من الطيبة والدفء حيث حلّ. علي أشاع نوعاً من الاطمئنان الذي ربّما كان طريقته الخاصّة في التعبير عن القلق. حمّود امتحن أفكاراً على الأمكنة وأمكنة على الأفكار. أمّا عمر فتسلّل، بحسّه النبيل، إلى دواخل الأشياء وإلى غرف لبنان المعتمة التي غالباً ما يستعصي فهمها على “الغرباء”.

هؤلاء لم يبق أحد منهم بيننا. لقد تفرّقوا في ديار الله الواسعة، هائمين على وجوههم، فيما نحن نضجر مع وجهنا الواحد الذي جعل يستفرد بنا من دون وسيط. الذين منّا، نحن اللبنانيّين، أرادوا لهم أن يبقوا كانوا أضعف كثيراً ممّن أرادوا لهم الرحيل. إنّنا أفراد وهم طوائف. وإذ جاؤونا هم مُلوّنين، كثيري الأفكار والمناطق والطوائف، واجههم أقوياؤنا بلون واحد سقيم وأبله.

والعين بالطبع كانت بصيرة لكنّ اليد قصيرة، سبق أن اكتشفنا قصرها في تجارب سابقة مع أصدقاء فلسطينيّين وعراقيّين. لكنّ البلد الذي لا يُعرَف الفارق بين بسمته وتكشيره مُصاب في قلبه إصابة عميقة، والوطن الذي لا يكون وطناً لسواه يعجز عن البقاء وطناً لأهله.  

كان أملنا أن يبقى بيننا فؤاد وربيعة ومحمّد علي ورلى ورنيم ولينا وضحى ومايا وجهاد وسنا. بات يُقلقنا أن يتكرّر في بيروت ذاك الحدث المشؤوم، حين قرّر صادق وإيمان أن لا يعودا. إنّه سوف يبقى طويلاً يوماً بشعاً وفقيراً في حياتنا. لكنّ جهاد وسنا غادرانا هما أيضاً. سنا قالت، في تلك الأمسية الوداعيّة الحزينة، إنّها إذ تبتعد عن لبنان فإنّما تبتعد عن سوريّا. قالت عبارتها هذه وختمتها بدمعتين.

اقرأ أيضاًانتفاضة الحرّ في العراق : هل بدأ الله يعمل ضد أحزابه؟