fbpx

أموال لبنانية في سويسرا : من يكشف المستفيدين من سيولة المصارف المهرّبة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عمليّة “تهريب سيولة المصارف”، مازلت سرّاً من أسرار ما بعد الانهيار المصرفي، إذ لم يكشف حتى اليوم عن هويّة المستفيدين منها، ولا عن المصارف التي سهّلت هذا النوع من العمليات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ حصول الانهيار المالي في الربع الأخير من العام 2019، اصطفّ المودعون في فروع المصارف في طوابير مُذلّة للحصول على فتات ودائعهم، وفقاً للسقوف الأسبوعيّة الضئيلة التي حددتها المصارف للسحوبات النقديّة بالعملات الأجنبيّة. وكما هو معلوم، تم منع السحوبات بالدولار النقدي كلياً بعد شهر نيسان من العام الماضي، ليتم استبدالها بالسحوبات بالليرة اللبنانيّة من الودائع الموجودة بالعملات الأجنبيّة، وفقاً لأسعار صرف تقل كثيراً عن سعر الصرف الفعلي في السوق الموازية، بحسب مندرجات التعميم 151 الشهير. 

باختصار، تم تطبيع فكرة وجود المصارف ككيانات متعثّرة غير قادرة على إعادة السيولة للمودعين، وغير مستعدة لإعادة الانتظام إلى عملها عبر تحمّل مساهميها لكلفة الخسائر.

لكنّ هذه القواعد التي وضعتها المصارف بنفسها، وبغطاء من مصرف لبنان، لم تنطبق على جميع المودعين بالتساوي. فمن بين هؤلاء، كان ثمّة قلّة محظية من أصحاب النفوذ الذين تمكنوا من تهريب ودائعهم إلى الخارج، بالاستفادة من ما تبقى من سيولة في النظام المصرفي، وعلى حساب سائر المودعين الذين ظلّت أموالهم حبيسة المصارف المتعثّرة. 

هذه الظاهرة، التي عُرفت لاحقاً بعمليّة “تهريب سيولة المصارف”، مازلت سرّا من أسرار ما بعد الانهيار المصرفي، إذ لم يكشف حتى اليوم عن هويّة المستفيدين منها، ولا عن المصارف التي سهّلت هذا النوع من العمليات. وفي حين ساعد غياب أي تشريع لضبط سيولة المصارف على تهريب هذه الأموال، ساهم إسقاط التدقيق الجنائي في الحؤول دون كشف كل هذه الحقائق. 

عمليّة إخفاء مآل هذه الأموال لم تقتصر على إسقاط التدقيق الجنائي. في الواقع، كان في حوزة السلطة ومصرف لبنان أدوات كثيرة لتتبّع هذه الأموال في الخارج والكشف عنها، ودون تجاوز مبدأ السريّة المصرفيّة الذي يتذرّع به مصرف لبنان لحماية هؤلاء المستفيدين. ومن هذه الأدوات على سبيل المثال، اتفاقيّة تبادل المعلومات للغايات الضريبيّة، التي لم يتم تفعيل الاستفادة منها محلياً حتى اليوم، رغم كونها تتيح للبنان تتبع حسابات المقيمين على أراضيه في الخارج. تجاهل هذه الأدوات، بالإضافة إلى عرقلة الحصول على المعلومات المتعلّقة بالتحويلات من خلال هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان، يدلان على أنّ ثمّة ما يُراد إخفاؤه عن قصد في كل هذه العمليات.

2.7 مليار دولار إلى سويسرا

إثارة الموضوع اليوم بالتحديد، لم تأت هذه المرّة من الداخل، بل من صحيفة “فاي نيوز” السويسريّة، التي نقلت عن بيانات البنك الوطني السويسري ارتفاع ودائع اللبنانيين في المصارف السويسريّة بنحو الثلثين، وبقيمة تصل لحدود الـ2.5 مليار فرنك سويسري، أي حوالي الـ2.7 مليار دولار، خلال عام 2020 فقط. 

بعد هذه الزيادة، يصبح حجم الودائع اللبنانيّة في المصارف السويسريّة أكثر من 6.46 مليار فرنك سويسري، أي ما يزيد عن 7.04 مليار دولار. علماً أن هذه الأرقام تعكس أعلى مستوى لحجم ودائع اللبنانيّة في سويسرا منذ بدء البنك الوطني السويسري بنشر هذا النوع من العمليات سنة 1996. 

لا يمكن فصل هذه الأرقام عن ظاهرة تهريب سيولة، خصوصاً أن تدفق نحو 2.7 مليار دولار من أموال اللبنانيين إلى سويسرا أتى في نفس السنة التي تخللت جميع فتراتها أقسى أشكال القيود على السحوبات النقديّة والتحويلات من لبنان إلى الخارج. لكنّ هذه الأرقام الصادمة لا تعكس إجمالي حجم السيولة المهربة سنة 2020، وخصوصاً أن ثمّة نسبة كبيرة من الأموال التي تم تحويلها إلى دول غير سويسرا. كما لا تعكس هذه الأرقام أيضاً حجم السيولة المهرّبة قبل عام 2020 أو بعده.

تم تطبيع فكرة وجود المصارف ككيانات متعثّرة غير قادرة على إعادة السيولة للمودعين، وغير مستعدة لإعادة الانتظام إلى عملها عبر تحمّل مساهميها لكلفة الخسائر.

فمنذ تشرين الأوّل 2019، ولغاية شهر نيسان الماضي، فقدت المصارف اللبنانيّة أكثر من 7.37 مليار دولار من حساباتها في الخارج، وهي أموال لم تكن تستخدم أي جزء منها لدعم استيراد السلع الأساسيّة، التي كان يتم تمويلها من احتياطات مصرف لبنان. وعملياً، استفادت المصارف من حجّة الودائع الإئتمانيّة للسماح بتهريب هذه السيولة تحت عنوان “سداد الديون في الخارج”. علماً أن الودائع الإئتمانيّة تمثّل إحدى الوسائل التي قام باستخدامها كبار المودعين اللبنانيين لتوظيف أموالهم في النظام المصرفي المحلي، عبر إيداعها من خلال مصارف أجنبيّة وسيطة دون كشف هويتهم، على أن تقوم المصارف الأجنبيّة بتوظيف هذه الأموال في المصارف اللبنانيّة بالنيابة عن المودع مجهول الهويّة. 

باختصار، لم يكن هناك ما يبرر استعمال الودائع الإئتمانيّة لتهريب هذه السيولة لمصلحة فئة صغيرة من المودعين الكبار، مقابل حبس ودائع صغار المودعين، بينما كان يكفي أن يقر البرلمان اللبناني تشريع موجز لتأمين الغطاء القانوني لتجميد سداد هذه الودائع الإئتمانيّة. 

وبالإضافة إلى النزيف الحاصل في حسابات المصارف في الخارج، فقد مصرف لبنان خلال الفترة نفسها نحو 16.29 مليار دولار، منها أكثر من 7.29 مليار دولار من الأموال خرجت دون أن يتم إنفاقها على دعم استيراد السلع الأساسيّة أو السلة الغذائيّة. علماً أن هذه الأموال هي بدورها جزء من أموال المودعين في المصارف التي تم إيداعها لدى مصرف لبنان، فيما تم التصرّف بها باستنسابيّة لتمويل تحويلات النافذين من أصحاب الودائع المصرفيّة. وفي كل الحالات، كمنت الإشكاليّة الأساسيّة هنا في تغاضي مصرف لبنان عن وضع سياسة واضحة ومعلنة لكيفيّة التصرّف بهذه السيولة، وفق أولويات تراعي حقوق المودعين وتتدرّج في الخروج من مرحلة الدعم، ما ترك هامش من الغموض الذي سمح للحاكم بالتحكم بهذه السيولة دون أي ضوابط.

في الحصيلة، يتبيّن أن هناك ما مجموعه 14.66 مليار دولار من الأموال التي خرجت من حسابات المصارف في الخارج وحسابات مصرف لبنان، من تشرين الأول عام 2019، والتي ينطبق عليها مفهوم تهريب السيولة إلى الخارج.

من يخفي الحقائق؟

وفقاً للقانون، تمتلك هيئة التحقيق الخاصّة في مصرف لبنان وحدها صلاحية البت بأي طلب قضائي يمكن أن يطال المعلومات المشمولة بالسريّة المصرفيّة، ما يعني أن البحث في هذه التحويلات ومآلها وهوية المستفيدين منها لا بد أن يمر بها. وعند طلب أي معلومات من الهيئات، يحق للهيئة الموافقة أو الرفض، وفقاً لتقديرها الخاص وتقييمها لمستوى الشبهات، دون أن يكون هناك أي باب من أبواب نقد أو مراجعة هذه القرارات. المشكلة الأساسيّة هنا، هي أن من يرأس هذه الهيئة، القابضة على مفاتيح المعلومات المتعلّقة بالتحويلات، ليس سوى حاكم مصرف لبنان نفسه، المسؤول عن إدارة احتياطات مصرف لبنان التي تدور حولها شبهات تهريب السيولة. 

وبسبب تضارب المصالح هذا، الكامن في وجود الحاكم في موقع المتهم والمسؤول عن تقديم الدليل في الوقت نفسه، رفضت هيئة التحقيق الخاصّة تزويد القضاء اللبناني بأي معلومات تتعلّق بالتحويلات التي جرت بعد 17 تشرين الأول 2019. أما المفارقة فكانت ارتكاز الهيئة على تصريحات المصارف نفسها، لتأكيد عدم وجود شبهات في ما يخص التحويلات أو مصادر الأموال. وبذلك، لم تجد الهيئة أي شبهة قانونيّة في إجراء المصارف تحويلات معينة بشكل استنسابي لمجموعة من النافذين، في الوقت الذي يتم فيه فرض قيود مشددة على السحوبات والتحويلات على سائر المودعين.

لكن وللأمانة، لم يكن سلامة وحده من يحاول إخفاء مصير هذه التحويلات والمستفيدين منها، إذ كان هناك أبواب أخرى يمكن استعمالها لكشف مصير هذه الأموال، دون أن يتم اللجوء إليها من قبل الدولة. فلبنان وقع منذ العام 2016 على اتفاقيّة تبادل المعلومات للغايات الضريبيّة، وهي اتفاقيّة لم يقم المجلس النيابي بإقرارها إلا تحت التهديد بإحالة لبنان إلى لوائح العقوبات الدوليّة في حال عدم الموافقة عليها. المعاهدة تفرض على المصارف اللبنانيّة تقديم ما تملكه من معلومات متعلّقة بحسابات المقيمين في الخارج، للدول التي يقيمون فيها، على أن يمتلك لبنان حق الاستحصال التلقائي على المعلومات المصرفيّة المتعلّقة بالمقيمين على أراضيه، من المصارف الأجنبيّة. أما سبب تأخر لبنان في التوقيع على الاتفاقيّة، وعدم إقرارها إلا تحت الضغط والتهديد الدولي، فلم يكن سوى خوف كبار المتمولين اللبنانيين من كشف حجم أموالهم الموجودة في الخارج وحركة حساباتهم.

في كل الحالات، نفذت الدولة بعد إقرار المعاهدة الشق المتعلّق بإعطاء الدول الأجنبيّة المعلومات المتعلقة بحسابات المقيمين لديها في المصارف اللبنانيّة، خوفاً من العقوبات. لكن وحرصاً على مصالح كبار المتمولين، لم تمارس وزارة الماليّة اللبنانيّة حقها بالحصول على المعلومات الماليّة المتعلقة بحسابات المقيمين في لبنان في المصارف الأجنبيّة. ومنذ 2016، جرت عرقلة هذا الجانب من الإتفاقيّة تحت ذرائع تقنيّة مختلفة.

منذ حصول الأزمة، امتلكت وزارة الماليّة فرصة استعمال هذه المعاهدة وما يمكن أن تكشفه من أموال خرجت بعد 17 تشرين الأول، في حسابات المقيمين في لبنان في المصارف الأجنبيّة، ومنها سويسرا نفسها. ورغم إعلان لبنان في مرحلة من المراحل تفعيله لآليات تبادل المعلومات مع سويسرا، لم تبادر الدولة إلى محاولة الحصول على هذه المعلومات، كما لم تحاول إيجاد آليات تلقي المعلومات محلياً، رغم أن المعاهدة تكفل الحصول على هذه المعلومات بشكل دوري وتلقائي. ببساطة، كان من الواضح أن هناك إرادة سياسيّة ترفض تحريك الملف جدياً، وترفض الكشف عن كل ما تنطوي عليه المعلومات التي يمكن أن ترد من مصارف سويسرا.

كل ما جرى منذ 2019 في ملف الأموال المهربة يشير إلى أن المتورطين في هذه العمليات كانوا من الأفراد الذين لا يملكون الملاءة الماليّة فحسب، بل والنفوذ السياسي أيضاً. فحجم المناورات التي جرت للإطاحة بكل ما يمكن أن يمنع هذه التحويلات، وبكل ما يمكن أن يكشف مصيرها بعد حصولها، يدل أن خلف هذه العمليات أشخاص يملكون الأذرع الطويلة داخل النظام ومؤسساته. ولهذا السبب بالتحديد، قد يصعب توقّع انكشاف أي من حقائق خلال الفترة المقبلة.

إقرأوا أيضاً: