fbpx

“صوتك ما يعلاش” :
المصرية “ماما دهب” تضع “الذكورية” بدل الكاتشب والمايونيز في “ساندوتشاتها”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

دهب في الواقع نموذج للمرأة المستقلة التي تنتجها ظروف المجتمع، وهي تتحمل أعباء استقلالها كافة، ولكنها مع ذلك تبقى حبيسة نظرة المجتمع إلى استقلالها على أنه استسلام لضرورات الحياة الصعبة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في مقطع فيديو يجري تداوله بكثرة في مصر، تظهر سيدة أربعينية، تقف في مكان شعبي في احدى الحارات، وحولها يجلس شبان وشابات، ويظهر من مريول المطبخ الذي ترتديه أنها تعمل في تجهيز الأطعمة. تقف وتخطب، كما لو أنها مديرة مدرسة صارمة، أو مرشحّة تقليدية للانتخابات. تتوجه بكلامها إلى فتاة افتراضية بنبرة “أبويّة”: “صوتك ما يعلاش”، ثم تملي عليها باقي “المحاضرة”، موضحة لها كيف أن رفع الصوت والضحك في مكان عام يسيء إلى السمعة.

السيدة تدعى دهب غريب، وتمتلك مطعماً صغيراً في أحد ممرات وسط البلد، وهي تقدم لزبائنها “ساندويشات” الكبدة والكفتة والسجق. السيدة التي يدعوها بعض الرواد الدائمين لمطعمها من الشباب بـ “ماما دهب”، مستاءة لتعرضها للسخرية بسبب منشورات ومقاطع فيديو سابقة لها، تحدثت فيها عن أنها لا تقدم مع أطعمتها الإضافات أو المقبلات المعتادة مثل “الكاتشاب، المايونيز، أو سلاطة الطحينة”.

طال عمر الترند وأشعل جدلًا حول النموذج الذي تمثله “ماما دهب”، وحول علاقة هذا النموذج بالمكان، أي وسط البلد،  لما له من خصوصية، وكذلك حول الخطاب المحافظ والذكوري الذي يبدو أن دهب تستخدم مطعمها كمنصة له. ينبغى أن نضيف أن الوسائل الإعلامية المصرية تصدر “ماما دهب”، التي تم تكريمها من رئيس الجمهورية في مؤتمر الشباب منذ عامين، كنموذج ناجح و”عصامي” يسعى وراء الحلم ويحققه. دهب التي تخرجت من كلية سياسة واقتصاد لم تجد لها فرصة للعمل في سلك لا يرحب سوى بأبناء أصحاب المناصب، حلمت بأن تصبح مذيعة ولم تجد في النهاية سوى العمل على عربة “شاندوتشات” الكبدة.

عندما قررت دهب الإعلان عن أنها تقدم “ساندوتشات بدون كاتشب أو طحينة ومايونيز” هي بالفعل  تعكس حقيقة لا حاجة إلى الإعلان عنها، ثم هي ثانيا حولت هذه الحقيقة الاعتيادية تماما إلى ما يشبه القضية التي ينبغى الدفاع عنها، فهي تقدم “ساندوتشات” بسيطة كتلك التي ستعدها أمك لك في البيت، وإن افتقدت “ساندوتشاتها” الطحينة أو الكاتشاب، فهي بدلا من ذلك غنية بحب الأم وحنانها.

كما أنها ستعلمك القناعة بالقليل. وليست القناعة وحدها هي ما تؤكد دهب على أنها تعلّمه لزبائنها، أو لأبنائها وبناتها، فهي تؤكد أيضا ومرارا أنها تعلمهم الصبر، فعندما تنتظر دورك للحصول على الطعام الذي طلبته، كما يحدث بشكل اعتيادي تماما في أي مطعم أو أمام أية عربة طعام أخرى، ينبغى أن تمتنّ لـ”ماما دهب” لأنها تعلمك فضيلة الصبر. 

لا أظن أن أحدا قد يضع على قائمة أهدافه عندما يطلب طعاما بأي مكان، تعلم فضائل القناعة أو الصبر. إذا ما ذكر أحدهم شيئا كهذا فسيكون بالضرورة على سبيل الفكاهة أو السخرية، ولكن دهب تبدو جادة تماما، وهنا مكمن المشكلة.

صناعة المتحدث العام

“ماما دهب” تحوّلت إلى ما يصطلح على تسميته بـ”المتحدث العام public speaker”، وهو ذلك الشخص الذي لسبب أو لآخر يعتقد أنه يمتلك الحق والفرصة لمخاطبة الرأي العام. هذا أمر يختلف عن أن تتاح لك فرصة الحديث في الفضاء العام. مع شيوع استخدام تطبيقات التواصل الاجتماعي أصبح بإمكان الجميع تقريبا أن يتحدثوا ويعبّروا عن “خطابهم”. وهو ما يعني نظريا أن ما يقولونه يمكن أن يصل إلى الملايين، ولكنه، واقعياً، لا يصل إلا إلى حفنة من الأصدقاء والمعارف في دوائرهم المباشرة. 

في يومنا هذا يملك الجميع منصاتهم، نظريا على الأقل، ولكنهم يفتقدون إلى المتابعين. يعتمد الأمر على إمكانية أن تقدم محتوى يجذب أعدادا متزايدة من المتابعين، وعند حد معين، يمكن أن تتحول إلى متحدث عام. ولكن يمكن أن يتحقق ذلك من خلال الصدفة التي تحولك إلى شخص معروف نسبيا، بشكل مفاجئ.

عادة لا يحتاج الشخص الذي تحول إلى متحدث عام بفضل المحتوى الذي يقدمه إلى أكثر من الاستمرار في تقديم مزيد من هذا المحتوى، ربما يشعر بالحاجة إلى تطويره للحفاظ على جاذبيته، لكنه لن يحتاج عادة إلى اختلاق محتوى من لا شيء.

في حالة دهب، أصبحت فجأة مشهورة بسبب سلسلة من الصدف، انتهت بها إلى أن تتلقى تكريمًا من أعلى مستويات السلطة في مصر. ما يميزها هو قصة كفاح لا ينكرها أحد عليها، خصوصاً لكونها امرأة تمارس عملاً يحتكره الرجال عادة، وفي ظروف أو بيئة طاردة للنساء. في الواقع هذه التفاصيل تصلح بالتأكيد لأن يصاغ من خلالها محتوى من دون الحاجة إلى مسرحته أو المبالغة في شأنه. 

دهب في الواقع نموذج للمرأة المستقلة التي تنتجها ظروف المجتمع، وهي تتحمل أعباء استقلالها كافة، ولكنها مع ذلك تبقى حبيسة نظرة المجتمع إلى استقلالها على أنه استسلام لضرورات الحياة الصعبة.

المشكلة، ان دهب، بدل أن تنقل تجربتها التي يمكن أن تحتذى كمثال على عدم حاجة المرأة إلى النظام الذكوري لتنجح في عملها، تنقل إلى الصبايا من زائراتها ومن متابعاتها عبر وسائل التواصل الإجتماعي “خبرتها” في الانصياع لإملاءات التقاليد الذكورية للحارة المصرية التقليدية، التي تشترط على النساء أن يخفين وجودهن، ويخفضن اصواتهن قدر المستطاع، حتى يمكن تقبلهن على مضض في المجال العام على سبيل الاستثناء، الذي يؤكد القاعدة الذكورية. 

لا ترى دهب أنها قد اكتسبت حق الوجود في الفضاء العام للحارة، لأنها امرأة مستقلة عن الرجال وعن النظام الأبوي الذي يحكم المجتمع المصري، بل لأنها تحافظ على “سمعتها” كامرأة بالالتزام بالشروط الذكورية الخاصة لقبول النساء، والتي لا يحتاج الرجال إلى الالتزام بها. في الواقع تعكس دهب الغبن المضاعف الذي يفرضه المجتمع مع السلطة على فئة كبيرة من النساء المصريات. 

فحسب التصور التقليدي المحافظ يفترض بها أن تكون “زوجة رجل مهمّ” يقوم بإعالتها ويصونها عن الحاجة إلى العمل. وكغيرها من عشرات الآلاف من الحاصلات على مؤهلات عليا، كان يفترض أن تحصل على فرصة عمل ذات دخل أكبر وتستلزم جهدًا بدنيا أقل، ولكنها بدلًا من ذلك تلقت تكريمًا رمزيًا من الدولة لقاء معاناتها، التي تغلبت عليها كما ينبغي للرجال، لا النساء، أن يتغلبوا على معاناتهم.

ولكن دهب في النهاية راضية وسعيدة بما حققته وبما تلقته من تكريم. ولا يحق لنا بالتأكيد أن نلومها على ذلك، ولا يحق لنا أن نطالبها بأن ترى حياتها بعيون غير عيونها، ولكنها عندما تحاول تعليمنا وتلقيننا القناعة بافتقاد الطحينة، والصبر في انتظار “الساندوتشات”، ثم تأمر النساء بخفض أصواتهن، يصعب على كثيرات وكثيرين ألا يجدوا في ذلك مادة للسخرية، وسببا للغضب، عندما يرون أنها تمارس الوصاية على الآخرين. وربما لا ينبغي أن يوجه هذا القدر من الغضب إليها فكأي متحدث عام بالصدفة، هي واحدة من عشرات الأدوات لممارسة المجتمع وصايته على أفراده. فالمتحدث العام بالصدفة لا يملك أي محتوى يقدمه إلى جانب مسرحة المعتاد، إلا تكرار الخطاب التقليدي السائد في المجتمع. ومن ثم فهو متحدث عام باسم المجتمع، وليس متحدثا إلى المجتمع. هكذا تطعم “ماما دهب” زبوناتها زبائنها، “الساندوتشات”، بلا كاتشب وبلا طحينة، وبلا مايونيز. لكنها تضيف إلى جميع “ساندوشاتها” نكهة “لاذعة” من “معجون” السلطة الذكورية، من دون ان تتذمّري، أو تتذمّر.

“صوتك ما يعلاش”! 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.