fbpx

“طين وسكّين” وثقوب المعركة التي تظهر علينا جميعاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أنا إبن الشارع الذي تحرّك، لقد كنّا هناك. ربحنا الكثير وخسرنا الكثير، وتبقى خسارتي الأكبر هي روحي التي بقيت في بلدي بين أهلي ورفضت المغادرة معي، لقاء ربح يفترض أن يكون أبسط حقوقنا كبشر في هذا العالم… الأمان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
النحات السوري خالد ضوّا

 وردت قصّة خلق الإنسان من طين في الأساطير اليونانيّة والمصريّة والصينيّة واللاوسيّة وأساطير الأمريكيين الأصليين، كما نقرأ في الأساطير السومريّة القديمة عن أهمّ آلهتها “إنكي” الذي أحدث أوّل عمليّة خلق للنبات عن طريق تخصيب “ننهور ساج” الإله الأنثى، وخلقهما البشر سويّة من وعاء مصنوع من طين من أرض “أبزو” وهي قارّة إفريقيا اليوم. وبحسب معظم هذه الأساطير خُلق الإنسان من الطين عبدًا لخدمة الآلهة والقيام بمهام الزرع وتقديم الطعام والشراب ورعاية القطعان… اتفّقت الأديان السماويّة مع  هذا الطرح، وورد خلق آدم من الطين في القرآن وسفر التكوين بوضوح، والتقت معهم بعض الأبحاث العلميّة الحديثة التي أثبتت وجود ترابط واضح بين الطين والحمض النووي للإنسان وذلك استنادًا على مجموعة خصائص كيميائية معيّنة وقدرة الطين على التسريع من تكوين الأحماض الأمينيّة لتكوينات تشبه الأكياس الصغيرة تسمّى “الحويصلات” وقدرته على نقل الحمض النووي إلى داخلها.

لا عجب بعد هذا كلّه أن الإنسان يحاول بدوره الخلق من الطين منذ القدم بحيث تم النحت بالطين في الحضارات القديمة لأغراض مختلفة منها السياسي والديني، ومنها ما استعمل للتعبير عن الثقافة والشخصية المجتمعية، أو كغرض تذكاري وسجل للتدوين إلخ…

خالد ضوّا نحّات سوري مقيم في باريس، نحت بيده المبدعة عالمًا موازيًا للعالم القاسي الذي عاش ويعيش به الإنسان العربي بشكل عام، والإنسان السوري بشكل خاص إن كان في بيته تحت القصف أو في مظاهراته وسجنه وغربته ومخيّمه… بل حتّى وهو متربّع على عرش الحكم تملؤه الثقوب. المحور هو الانسان إذًا بكلّ حالاته.

استخدم ضوّا الطين في أعماله كمادة أساسية واستطاع تحويله من خلال الشوي بدرجات عالية جدًّا إلى مادة صلبة قاسية. كان تحويل الأعمال من الطين إلى البرونز عملية صعبة بداية الأمر، لكن معظم أعماله اليوم تتم به بعد الشوي والوصول إلى مراحل الفخّار والسيراميك. ويؤكّد أنّ “رحلة البحث عن الأدوات والتقنيات الجديدة لم تنته بعد” خاصة حين يكون حجم العمل كبيرًا وكتلته ضخمة.

انتشرت صور أعمال ضوّا بكثرة في سنوات الثورة والحرب على وسائل التواصل الاجتماعي بحيث صارت قصص شخصياته وتفاصيلها وجهًا أساسيًّا من أوجه التدوين الثوري مع حفاظه على الوقوف بخيال أعماله التي برزت هي دون معرفة هويّة صانعها في كثير من الأحيان. 

بدأ المشروع بشكل فعلي مع تخرّج خالد عام 2007 من كليّة الفنون الجميلة التي درس فيها النحت وقدّم مشروع تخرّجه يومها “الانتظار” حيث ظهر ملك الإنتظار بوجه الشعب والطرفان متشابهان في ضخامتهما التي فسّرها خالد بقوله “الكتلة الكبيرة للشخصيات تجسيد لامتلاكها لقدرة ولقوة وتراكم كتلتها في طبقات تدريجياً مع عدم استغلالها لذاتها في أي فعل…” واستمرّ عمله بعد التخرّج بشكل شخصي دون التخطيط لعرضه، الأمر الذي كان قبل الثورة بمثابة حلم ساذج، ويضيف خالد على هذه النقطة: “كانت تأتيني عروض عمل مع الغاليريهات بشروط مهينة، أوّلها التركيز على مواضيع اكثر خفة وتخفيف وجع الراس…”

بدأت الحركة في أعمال خالد مع بدء الحركة على الأرض، مظاهرات وانشقاقات ومظاهر تعبير مقابل القسوة والبراميل والهدم. وتخطّى التفاعل مع أعماله حدود “جمهور الفنّ” الشيّق واستطاع كغيره الكثير من الفنانين السوريين الثوريين تحويل إنتاجه بحدّ ذاته إلى فعل مقاومة وتعبير صادق عن كيفية رؤية اللحظة وتوثيقها. من غير النحّات نفسه يعلم قسوة اللحظة التي يضطرّ أن يهدم فيها أعماله فورًا بعد تصويرها خوفًا من الاعتقال الذي تمّ بالفعل قبل أن يساق به إلى الجيش، حيث هرب بعدها لى لبنان ونجا بأعجوبة من بطش النظام.  لم يكن الوضع أحسن بكثير في لبنان بسبب حساسيّة وضعه القانوني من جهة، وبسبب العنصرية وتواجد ميليشيات متعاونة مع النظام السوري على الأرض من جهة أخرى. دمّر خالد كلّ أعماله التي نفّذها في لبنان قبل ذهابه إلى فرنسا سنة 2016 باستثناء عمل واحد حمله معه «وله انحناءات الخريف». وهناك بدأت منحوتات خالد ضوّا بالعيش خارج حدود الصورة والصفحة، وعرضت في المعارض والفعاليات الفنيّة دون الاضطرار إلى هدمها. يتمنّى خالد لو أنّ أعماله بقيت حتى اليوم في مكان آمن ما ويضيف “أواسي نفسي أنّ هذه الأعمال قد قامت بوظيفتها الزمانية والمكانية، قالوا ما كان يجب أن يقال، وها أنا ما زلت أعمل. رحلت الأعمال ونجا صاحبها”

 واحد من مشاريع خالد التي بدأها في فرنسا كان “مضغوط” الذي عكس عدّة تجارب سوريّة عاشها هو على وجه التحديد بفترة قصيرة (التعرّض لطلق ناري داخل مرسمه، الاعتقال بتهمة الانتماء لعصابة مسلّحة، الخدمة الالزاميّة، التخفّى في بيروت، الهرب إلى فرنسا…) وقاربها مع فكرة الضغط التي يتعرّض لها أيّ إنسان في العالم يعاني من ضغط السجن والسجّان مهما اختلف شكله وهويّته. نقتبس من وصف المشروع الكلمات التالية: “سأنفجر، كلّ شيء فيني سينفجر. أغمض عينيك وتخيّل أنّك في مكان مساحته لا تزيد عن نصف متر بنصف متر، محاطًا بأكوام من البشر… تأكل، تشرب، تبرد، تتألم، تحب، تحنّ، تلعب، تمرض، تغنّي، تنام، تهذي، ترسم، تجوع، تلعن، تشتاق، وتموت في هذه المساحة فقط… أجساد الآخرين جسدي… بأي يوم نحن؟ أريد أن أعرف الساعة، أريد أن أفقد سمعي. لا أتذكّر وجوههم. أريد أمي، حلمت بها اليوم. أريد أن أخرج… سأتزوّج كلّ نساء العالم حين أخرج. مضغوط، أنت هنا الآن… وغيرك هناك. الألوف هناك، وعلى الأغلب إلى الأبد هناك”. بعدها بدأ تنفيذ مشروع “إنهض” الذي حاكى في أعماله السلطة وهشاشتها، تارة بلا يد وطورًا بلا قدم، وتبطش رغم ذلك بالناس دون رادع (كل شيء خراب، وأنت تراقب، تشابهه، إنهض). “يقلقني البحث عن الشبه بيننا وبين الطاغية، عن الهشاشة المشتركة بيننا وبينه”.

“هو الحبّ” المشروع الذي يصفه خالد بأنّه “يمثّل بحثه عن خلاصه الشخصي حيث يعود إليه عندما يحتاج لهامش الحلم” وقد تمّ عرضه في المركز الثقافي للفنّ المعاصر في كلامارت أحد ضواحي باريس الجنوبية تمهيدًا لعرضه لاحقًا في الساحة العامة. مجرّد حضور الحبّ في أعماله اليوم بعد كلّ ما مرّ فيها من موت وخراب وانكسارات هو انتصار شخصي بحدّ ذاته، وهزيمة للجلّاد الذي يصوّره في أعماله ضخمًا هشًّا تملؤه الثقوب التي يعتبرها “طريقة لاستكشاف بنية الشخصيات، هشاشتها وتآكلها وتهالكها. في مرحلة معينة كانت طريقة للانتقام من مفهوم السلطة ومن ضعفنا أحياناً، كأنها محاولات لتكسير الكتلة واختراقها”. أمّا عن الثقوب التي تركتها التجربة القاسية عليه فيقول “ثقوب المعركة تظهر علينا جميعًا، نتعايش ونتصالح نحن معها من موقع الألم، هي قدرنا. ثقوبنا التي لا ترمّمها سوى العدالة إن تحقّقت يومًا ما في هذا العالم”.

في “هنا قلبي” أحد مشاريع خالد الأخيرة الضخمة (يبلغ عرضه خمسة أمتار) التي بدأها مع سقوط الغوطة بيد الروس، يتخيّل حارة سورية لناس يعرفهم جيّدًا ويعرف تفاصيل بيوتهم الصغيرة والحميمة، وما يمكن أن يكون قد حدث لها مع ما تلّقته من عنف وتكسير. يخبرنا خالد أنّه اضطرّ أحيانًا لبناء المنزل وهدمه بيده لجعله أقرب إلى الحقيقة العنيفة…. حارة كانت حلوة طبيعية كباقي حارات الدنيا، يسكنها أناس طيّبون لهم ذكرياتهم وأحلامهم الحلوة، حارة يعرف أنّه وللأسف لن يراها بعينه ولا يشعر بها بقلبه طالما أنّ أعين الطاغية مفتوحة وقلبه ينبض. 

تجدر الإشارة أنّ آخر أعماله “ملك الثقوب” من مشروع “إنهض” وهو مجسّم ضخم أنجزه في أربعين يومًا سيعرض لشهور قرب النوتردام وسنتر جورج بومبيدو وسط باريس. يتحدّث خالد عن كلّ ذلك باعتزاز وحسرة، ويختصر بلعته الحادة ما عجز الكثير من الفنّانين المغمورين عن صياغته وهم يضعون دمهم على أكفّهم حين يعملون “لم أكن فنّانا صامتًا منعمًا قبل الثورة كي تأتي هي وتضيف إلى مسيرتي واستثمرها. أنا إبن الشارع الذي تحرّك، لقد كنّا هناك. ربحنا الكثير وخسرنا الكثير، وتبقى خسارتي الأكبر هي روحي التي بقيت في بلدي بين أهلي ورفضت المغادرة معي، لقاء ربح يفترض أن يكون أبسط حقوقنا كبشر في هذا العالم… الأمان. والذي للأسف لا يُخلق من طين.” 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.