fbpx

محمد الطاهري حمل كاميرته ومضى… من قتله؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

في ظل استمرار المماطلة ونهج إخفاء الحقائق، يبقى الطاهري وسواه من الصحافيين فريسة سهلة، ما دام لا أحد يسأل، ويُمنع ذووهم من التصريح، أما المحاسبة فلا تأتي أبداً!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لم تكن له مشاركات سياسية واقتصرت أدواره على الأعمال الخيرية والإنسانية”، تقول إلهام الطاهري في مقابلة سابقة لها، وهي أخت الصحافي محمد الطاهري الذي قُتل قنصاً في الثاني من أيلول/ سبتمبر 2018 في المدينة القديمة في محافظة تعز، خلال المواجهات المسلحة بين “كتائب أبي العباس” والشرطة العسكرية في المحافظة. وتضيف، “ايش السبب في اغتياله؟ ومن فين جاءت الرصاصة؟ عمره ما حمل سلاح، كان يحمل كاميرا وكانت هي سلاحه”، متابعة: “لم تكن بمقدوري معرفة تفاصيل أكثر حول الحادثة ولم أستطع متابعة الأمر وأبلغنا المستشفى بالدفن من دون أي معلومات”.

تسأل إلهام، كيف جاءت الرصاصة من الخلف، من قلعة القاهرة؟- القلعة التي كانت تحت سيطرة كتائب أبي العباس في حينه- ولماذا استهدفت أخاها تحديداً؟ فيما ترفض الحديث مجدداً عن الحادثة، علماً أننا علمنا من أصدقاء الطاهري أن عائلته تعرضت للتهديد ومنعت من التصريح حول الحادثة. 

“ضاعت قصة محمد بين اتهام الإصلاحيين لأبي العباس والعكس. والدولة ما عملت لنا شيئاً، وفي الاخير اضطررنا أن نوكل أمرنا لله”.

مكالمة هاتفية 

 في الثاني من أيلول 2018، عند العاشرة والنصف مساءً، تلقى الصحافي محمد الطاهري الملقب بالقناص اتصالاً هاتفياً من أحد سكان الحي يطلب منه الخروج لمساعدته واسعاف إحدى نساء الحي التي كانت تعاني من مضاعفات الولادة، ونقلها إلى مستشفى المظفر للأمومة والطفولة في المدينة القديمة في محافظة تعز. استجاب الطاهري للمكالمة وما إن خطت قدماه خارج باب منزله وقبل أن يصل إلى مستشفى المظفر القريب، تلقى رصاصة قناصة من الخلف، استدعت نقله إلى المستشفى الذي أعلن وفاته فور وصوله.

قُتل الطاهري خلال إطلاق نار بين تشكيلات أمنية منضوية تحت مظلة الشرعية، وهي “كتائب أبي العباس اللواء 35 مدرع”، ذات التوجه السلفي والتي انشقت عن الجيش في كانون الثاني/ يناير 2017 وبدأت مواجهتها العسكرية في مدينة تعز، وصنفتها الولايات المتحدة الأميركية في تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته، ضمن قوائم الجماعات الداعمة للإرهاب، وتشكيلات من الشرطة العسكرية التابعة لمحور تعز والتي يشير البعض إلى انتمائها لـ”حزب التجمع اليمني للإصلاح”.

تضارب الاتهامات 

القوات التابعة للحكومة المعترف بها، ألقت تهمة قتل الطاهري على “كتائب أبي العباس السلفية”، فيما تتهم الأخيرة فصائل تابعة لحزب الإصلاح موجودة ضمن القوات الأمنية في محافظة تعز بمقتله. محمد الطاهري واحد من الصحافيين الذين كانوا ضحية المواجهات المسلحة في اليمن، وأفلت المتسببون بها من العقاب بسبب تجاهل السلطات وغياب القانون وتضارب الاتهامات. لذلك نزل فريق التحقيق خلال خمسة أشهر إلى الميدان محاولاً تقصي الحقيقة ومعرفة أبعاد القضية والمتسببين بها. 

الموت بلا ورق!

 وصل معدو التحقيق إلى المدينة القديمة في محافظة تعز والتقوا عائلة الصحافي ومجموعة من أصدقائه وزملائه في العمل، لاستعراض ظروف الحادثة وكيف تجاهلت السلطات المحلية إجراء أي تحقيق جنائي لكشف المتورطين ومحاسبتهم، في ظل غياب أي تقرير لطبيب شرعي أو تقرير المستشفى حول حادثة القتل، لتسجّل الجريمة ضد مجهول، كالعادة.

 في البداية رفضت إلهام الطاهري، الحديث عن الحادثة وعن التفاصيل السابقة لها، وعما  إذا كان الطاهري قد تلقى تهديداً من جهة أو أشخاص بسبب طبيعة عمله. وتواصل الفريق معها لأكثر من مرة إلا أنها رفضت الحديث تماماً حول الحادثة.

التقينا بعد ذلك “أماني”، والاسم هنا مستعار لإحدى قريبات الطاهري والتي أكدت تلقي أفراد العائلة تهديداً من “كتائب ابي العباس” السلفية المدعومة من الإمارات العربية المتحدة، لمنعهم من الحديث عن حادثة القتل، بحجة أن عليهم انتظار التحقيقات، وعدم إعطاء وسائل الإعلام أي معلومة. وأضافت أن عمل الطاهري أو “القناص”، كان مقتصراً على التصوير لبعض المواقع والمبادرات، كما كان يهتم بنقل الصور والأحداث الإنسانية في المدينة بسبب الحرب مع الحوثيين وخلال المواجهات المسلحة الدائرة في المدينة بين أبي العباس والشرطة العسكرية. وكان يهتم بالأعمال الخيرية والمساعدات الانسانية لابناء المدينة. وقالت، “ضاعت قصة محمد بين اتهام الإصلاحيين لأبي العباس والعكس. والدولة ما عملت لنا شيئاً، وفي الاخير اضطررنا أن نوكل أمرنا لله”. وعن التقارير الطبية وتواصل السلطات مع أفراد العائلة بخصوص الحادثة، قالت إنهم لم يحصلوا على تقرير من المستشفى وفضلوا عدم المطالبة به، بسبب الأوضاع الأمنية في المدينة، فيما السلطات لم تقم حتى بإجراء تحقيق روتيني في الحادثة. وأضافت: “لا يمكن اتهام أي طرف، لكن كل اللي كانوا قريبين من محمد وقت الحادثة، قالوا إن الرصاصة جاءت من قلعة القاهرة، وما كان في وقتها مواجهات”.

إقرأوا أيضاً:

عداوة سابقة 

حاول معدّو التحقيق رصد أي وثائق أو صور لمعرفة تفاصيل إضافية عن الحادثة. يقول ماجد محمد والاسم هنا مستعار لأحد زملاء الطاهري، إن السلطات لم تقم بأي إجراء لمتابعة الحادثة والطبيب الشرعي الذي وصل إلى العائلة لتشريح الجثة، طلب حينها مبلغاً مالياً يتجاوز إمكاناتها، إلا أنه رفض بعد ذلك متابعة عمله. وتواصل معدو التحقيق مع مستشفى المظفر لمعرفة التفاصيل الأولى والتقرير الطبي حول الحادثة، إلا أن المستشفى اعتذر عن عدم وجود أي تقرير طبي حول الحادثة، وعند السؤال عن السبب في ذلك بالرغم من الإجراءات الروتينية التي تصدر تقريراً مفصلاً في مثل هذه الحالات، رفض المستشفى الرد بعد ذلك. 

أحد الكوادر الطبية في مستشفى المظفر حينها، والذي يعمل حالياً ضمن فريق طبي تابع لأبي العباس في مدينة المخا، نتحفظ عن ذكر اسمه بحسب طلبه، قال في تسجيل صوتي “إذا كانت الطلقة من مسافة قريبة فكتائب أبي العباس هي المتورطة وإذا كانت من مسافة بعيدة فالشرطة العسكرية هي المتورطة”. ورجح الطبيب تورط كتائب ابي العباس- المنتمي إليها- كون الطلقة أثرت في المغدور بشكل كبير، ما يزيد من احتمال تعرضه للقنص من مسافة قريبة، ومن محيط سيطرة كتائب ابي العباس. وأضاف ” في اخبار وصلتني أن الطاهري كانت له عداوة مع افراد أبي العباس ولذلك تمت تصفيته”.

الرواية الرسمية

 في الثالث من أيلول 2018، قال العقيد عبد الباسط البحر المتحدث باسم محور تعز واللجنة الأمنية في تعز في تصريح لوكالة “الأناضول”، إن المصور الصحافي محمد الطاهري قتل بجوار مستشفى المظفر جنوب مركز المحافظة بطلق ناري من قناص، ما أدى إلى وفاته على الفور. وأضاف أن مقتل المصور الصحافي حصل حين كان يتردّد إلى أماكن ما زالت تحت سيطرة عناصر خارجين عن النظام والقانون في المدينة – في إشارة إلى كتائب ابي العباس – ولم يتطرق إلى تفاصيل إضافية حول الحادثة. 

تهديدات شفوية ومنع من التصوير 

يقول محمد شمسان (اسم مستعار لأغراض أمنية) وهو أحد أصدقاء الطاهري الذين نقلوه إلى المستشفى، إنه تلقى تهديدات شفهية خلال المواجهات المسلحة في المدينة القديمة، وقال “محمد كان يصور كل شيء في المدينة ويظهر الحالات الإنسانية والكوارث التي تتسبب بها المواجهات بالمدينة”، ويضيف أن الطاهري التقى أكثر من مرة جنوداً من “كتائب أبي العباس”، ومنعوه من التصوير وطالبوه بعدم الإشارة إلى الكتائب ضمن أنشطته. 

وقال إن الطاهري تحدث معه يوماً عن الوضع في تعز وأنه أصبح كارثياً وكان يفكر بترك مدينة تعز والسفر إلى محافظة عدن (جنوب اليمن) أو أي محافظة أخرى، واضاف “محمد مش تبع اي فصيل سياسي”، كان مهتم بالمبادرات التطوعية والتصوير والأعمال الخيرية والإنسانية فقط.

ويحمل شمسان، المسؤولية لكتائب أبي العباس في مقتل الطاهري يقول، قوات أبي العباس كانت تسيطر على المدينة القديمة كاملة، وكانت تملك معلومات دقيقة عن الجميع هنا، من صحافيين ونشطاء وحقوقيين، وسيطرة “قوات ابي العباس” كانت تشمل حتى بعض الأحياء المحيطة بالمدينة القديمة، وأضاف أنه يوم مقتل الطاهري وقبله، وقعت أحداث وتجاوزات تورّطت بها “قوات أبي العباس”. 

“محمد كان يصور كل شيء في المدينة ويظهر الحالات الإنسانية والكوارث التي تتسبب بها المواجهات بالمدينة”

بين خطوط المواجهة

وفقاً لأدوات المصادر المفتوحة وخرائط السيطرة الميدانية في مدينة تعز، التي اعتمد فريق التحقيق عليها للكشف عن مجريات الحادثة، تبين أن الرصاصة التي قتل بها الصحافي هي رصاصة مقاس 9 ملم وفق شهادة أحد الأطباء. ويقول الطبيب الذي يتحفظ عن ذكر اسمه لأسباب أمنية إن الرصاصة أصابت الصحافي من مسافة قريبة جداً نظراً إلى دقة التصويب وحجم الضرر مع أخذ الرؤية الليلية في الاعتبار. وأضاف أن عناصر من “كتائب أبي العباس” وصلوا إلى المستشفى بعد نصف ساعة من وصول الطاهري، وقابلوا الأطباء الذين استقبلوا الحالة وأخذوا التقرير الأولي، وتم تحذيرنا من الحديث عن الحادثة نهائياً. وقال إن القوات منعت حتى أصدقاء الطاهري وعائلته من دخول المستشفى حتى ساعات الفجر الأولى وطلبت منهم دفن الجثة بهدوء.  

وبالرجوع إلى خريطة سيطرة أطراف النزاع على المدينة القديمة، تبين أن قوات أبي العباس كانت في الثاني من أيلول 2018، تسيطر على قلعة القاهرة وهي من أماكن المواجهة، إضافة إلى المناطق المحيطة بها. في المقابل كانت قوات الشرطة العسكرية تسيطر على منطقة العروس في جبل صبر، والمنطقتان تقعان في اتجاه واحد، وهو نفسه الذي وصلت منه رصاصة القناصة.  

قتل الطاهري بالقرب من مستشفى المظفر للأمومة والطفولة، الذي يبعد من أقرب نقطة مرئية لقوات أبو العباس في قلعة القاهرة في حينه 680 متراً، وفي الاتجاه ذاته، تبعد أقرب نقطة لقوات الشرطة العسكرية حينها والتي تتمركز على أطراف جبل صبر ومنتزه العروس، من مكان الحادثة 2250 متراً، وبالتالي فإن احتمال تعرض الطاهري لعملية القنص من محيط سيطرة “كتائب أبي العباس” و بالاستناد أيضاً إلى متوسط المدى الفعلي لأغلب القناصات والتي لا تتجاوز 1800 متر بالرؤية الليلية، يمكن تأكيد تورط “كتائب أبي العباس” في حادثة القتل، إلى جانب ما حصلنا عليه من توارد للشهادات.  

تقارير مخفية 

فريق التحقيق تواصل أيضاً مع أحد إداريي مستشفى المظفر والذي كان  ضمن الذين  استقبلوا الحالة عند وصولها، وقد أوضح في تسجيل صوتي، أن قوات أبي العباس وصلت إلى المستشفى أثناء مناوبته وقطعت أحد الطرق المؤدية إليه من الاشرفية، أحد أحياء مدينة تعز. وأضاف، كان هناك تقرير طبي من المستشفى وتقرير أولي لطبيب شرعي عن الحادثة، لكن “قوات أبي العباس” أخفتهما، إذ وصلت إلى المستشفى ومنعت الإدارة من تسريب أي معلومة. وقال، “جنود ابي العباس قالوا أي شخص بيصور بيتعرض للتحقيق”، وقالوا “لا نريد أي أخبار حول الحادثة، نريد أن ننتهي سريعاً ونحترم حرمة الشهيد”، وأضاف أن القوات طوقت المكان وعملت مع الممرضين على إنهاء المحادثة والتواصل مع العائلة من أجل الدفن، وعدم منحهم فرصة التفكير أو التقصي حول ما حدث، فالعناصر الذين وصلوا إلى المكان فور الحادثة منعوا التصوير والتغطية الإعلامية وتعاملوا مع الأمر بسرعة وحزم.    

معدو التحقيق تواصلوا مع “كتائب ابي العباس” ومسؤولين عملوا سابقاً لديها لطرح ما توصلنا إليه من استنتاجات وللرد على النتائج التي توصلنا إليها بخصوص مقتل الطاهري، لكننا لم نتلقّ أي توضيحات من الأطراف المعنية. 

في ظل استمرار المماطلة ونهج إخفاء الحقائق، يبقى الطاهري وسواه من الصحافيين فريسة سهلة، ما دام لا أحد يسأل، ويُمنع ذووهم من التصريح، أما المحاسبة فلا تأتي أبداً!

أُنتج هذا التحقيق بدعم من مركز الخليج لحقوق الإنسان في إطار مشروع التحقيق في الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

إقرأوا أيضاً: