fbpx

من طرابلس إلى عرسال…
طريق واحدة للجوع والبنزين المقطوع والتهريب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تسرد صديقتي التي تعمل في في عرسال، في البقاع الشمالي، مشاهداتها اليومية على طريقي الذهاب والإياب، فيما نبحث عن محطة بنزين غير مغلقة تضخّنا ببعض الطاقة. تخبرني عن شاحنات التهريب التي تسير بهدوء تام في المكان، متوجهة إلى الأراضي السورية …

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا تستطيع أي تأويلات إفراغ غضب طرابلس من معانيه. مهما بدا الأمر مدبّراً أو مثيراً للفوضى، مهما حذّر سياسيون من “المشاغبات” ومن “المندسين”، ومهما بدت التحرّكات منظّمة أو حتى عشوائية. كل ذلك لا يمكن أن يفرغ الشارع الطرابلسي من امتلاكه بوصلة انفجار الفقراء في وجه مفقريهم، ومن صفته كأفضل تعبير عن حجم المأساة التي تطوّق البلاد منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019. يسهل الحكم على مدن يسكنها فقراء، يسهل وصمها بالإرهاب أو الانجرار إلى الفتنة، يسهل اعتبارها مجرّد بؤرة للجهلة الذين يمكن “شراؤهم”، مقابل حصّة غذائية مجانية. هي اتهامات اعتادت عليها طرابلس منذ شاكر العبسي (زعيم “فتح الإسلام”)، مروراً بثورة تشرين وحتى زمن الجوع ورفع الدعم الراهن.

لقد قُتل شاب طعناً بسكين، على خلفية شجار حول قطع طريق أو فتحها في طرابلس. وتحدّثت الأخبار عن أشخاص يواجهون خطر الاختناق بسبب توقف أجهزة الأوكسيجين التي يربطون حياتهم بها. وهو توقف ينسحب على كل مرافق الحياة، مع العتمة الشاملة العائدة إلى التقنين الكهربائي.

قد تبدو أخبار من هذا النوع، تفصيلاً، أو حدثاً جانبياً في صحيفة، أو في متفرقات نشرات الأخبار، فلفرط المآسي اليومية المنفّذة بحقنا، أصبحت جرائم كثيرة تحسب في عداد الأحداث العادية التي لا تسترعي أي تحرّك أو محاسبة، كأن ينسى جارك أن يلقي عليك السلام.

رفع الدعم عن البنزين الذي يعني رفع سعر الصفيحة إلى نحو 70 ألف ليرة لبنانية أو أكثر، يبدو مثيراً للضحك لشدة ما يحتوي على استغباء للمواطن وتسخيف لمعاناته.

الطرق فارغة، الناس في غيبوبة، الحياة في مكان آخر، نحن مجرّد أقدام تسير. يحصل أن ينتظر المواطن على الأقل مرتين في الأسبوع، ليصل دوره في محطة البنزين، ثم يعود إلى بيته خائباً بعدما أفرغ ما في جعبته من وقود، بسبب ساعات الانتظار فاقدة الجدوى.

من يمشي في الطرق يشعر بأنّ هناك 4 آب/ أغسطس آخر قد حدث لتوّه، إنه الهدوء الذي يعني عاصفة، الصمت الذي نستبدل به الخيبات حين تتزاحم على أكتافنا المنهكة ونشعر بأننا نوشك على الاستستلام.

رفع الدعم عن البنزين الذي يعني رفع سعر الصفيحة إلى نحو 70 ألف ليرة لبنانية أو أكثر، يبدو مثيراً للضحك لشدة ما يحتوي على استغباء للمواطن وتسخيف لمعاناته. صفيحة البنزين تباع منذ أسابيع في السوق السوداء بـ70 و80 ألف ليرة، وقد أوقفت محطات كثيرة تشغيل العداد لتسعّر الصفيحة بما يناسبها ويتوافق والدولار الذي يناطح الـ18 ألف ليرة. والدوريات الرسمية التي تحاول منع الاحتكار والحد من الابتزاز وفرض بيع البنزين وفق سعره الرسمي على أساس أن الدولار 1515 ليرة لبنانية، لا تكفي لمواجهة عدد كبير من أصحاب المحطات المدعومين الحاكمين بأمر البنزين والذين باتوا يملكون مصائر الناس. هم يقرّرون مثلاً إن كنت ستذهب إلى مكتبك هذا الأسبوع، أو إن كنت ستستطيع شراء الخبز أو زيارة أمك المريضة، وإن كان أطفالك سيستطيعون الوصول إلى امتحاناتهم الرسمية أو الجامعية. إن شاؤوا فإنك تخرج الليلة، وإن أبوا فعليك أن تتحمّل، ثمّ تشكرهم حين يمنّون عليك بـ”غالون” بنزين مقابل 100 ألف ليرة، يباع على الطرق العامة في وضح النهر، على رغم خطورة ذلك وعدم قانونيته.

الحل الوحيد الذي تواجهنا به المنظومة الحاكمة هو البطاقة التموينية التي أقرّها مجلس النواب مع فتح اعتماد لها بقيمة 556 مليون ليرة. إلا أن هذا تطبيق هذا القرار يبدو شبه مستحيل، لناحية آليات التنفيذ وإيجاد التمويل وتحديد المستفيدين، علماً أن الشعب اللبناني بمعظمه بات يحتاج إلى مساعدة، بعد سرقة ودائعه وتخفيض قدرته الشرائية، فيما خسر كثيرون أعمالهم ووظائفهم أو باتت قيمة رواتبهم أقل من 100 دولار! 

تسرد صديقتي التي تعمل في في عرسال، في البقاع الشمالي، مشاهداتها اليومية على طريقي الذهاب والإياب، فيما نبحث عن محطة بنزين غير مغلقة تضخّنا ببعض الطاقة. تخبرني عن شاحنات التهريب التي تسير بهدوء تام في المكان، متوجهة إلى الأراضي السورية محمّلة بسلع كثيرة، يموت اللبنانيون يومياً في محاولة تأمينها وقد أصبحت شبه مفقودة أو مقابل أسعار خيالية. يعتصر قلبي، فتقاطعني: “هون بيبيعوا التنكة مش عالسعر الرسمي، شي 60 ألف التنكة، بس ما بتنطري كتير”، تقول صديقتي وهي تدلّني على إحدى المحطّات، أشعر بأنني مضطرة إلى المشاركة في هذا الغش، تفادياً للبهدلة. يوافق صاحب المحطّة على “تفويل” السيارة، نبتهج، نشعر بنشوة كبيرة، أتّصل بأمي، أخبرها عن الانتصار الذي حقّقته أخيراً: “ماما باركيلي فوّلت السيارة!”.

إقرأوا أيضاً: