fbpx

عيدة السعيدو وقصة “انتزاع الشرف” من جسد طفلة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في كلّ جريمة جديدة بحق النساء والفتيات، يعود الغضب ذاته، غضبٌ يتجدد من دون أن يجد حلاً، الجريمة في كلّ مرة مؤلمة. وكلما اعتقدنا أنها ستكون الجريمة الأخيرة، يفاجئنا قانون القبيلة بالمزيد من المآسي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“براسها” نادى أحد المشاهدين للقاتل، مشدداً على ضرورة إطلاق الرصاص على رأسها، كما لو أنه شكّ للحظة أنها قد لا تموت بسهولة، لم يبخل القاتل بالمزيد من الرصاصات، التي صوّبها على رأس عيدة الصغير، بينما وقفت القبيلة تشاهدها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، واحتفى الجميع بانتصار الرجولة و”الشرف” المزعوم، ممرغين جثتها الهزيلة بالتراب.

السلطةُ الرقميةُ لقتل النساء

عيدة الحمودي السعيدو هي فتاة من مدينة الحسكة السورية تنتمي لعشيرة الشرابين، قتلها أخوتها وأبناء عمومتها بعد رفضها الزواج من ابن عمها، مدّعين أنها حاولت الهرب مع شاب تحبّه.

 قتلوا عيدة في فسحة منزل مهجور حيث تجمع أكثر من عشرة أشخاص ليشهدوا على قتلها، تهاوى الجسد الصغير مذعوراً أمامهم. على رغم وحشية اللحظة لم ينسوا تصوير موت عيدة كإثبات على انتزاع شرفهم المزعوم بالدم، فيما الجسد الصغير يتهاوى أمامهم.

 كم جريمة أخرى نحتاج لندرك فداحة ما تعانيه النساء؟

قبيلة الشرابين التي ينتمي إليها القتلة لم تنسَ تصوير فيلم القتل وإخراجه بطريقة فجّة وقاسية، لكلّ عصرٍ أدواته في قتل النساء وقمعهن، تتغير الطرائق والوسائل لكن وحدها الجرائم بذاتها ما زالت مشهد مأساةٍ واحداً لا يتغيّر، إنما لا يلبث يتكرر في كلّ بقعة على الأرض السوريّة.

 وبينما كانت التجمعات في العصور القديمة عند قتل النساء هي عروض مجانية للمشاهد الذي يغريه منظر الدم، بات الأمر أسهل اليوم مع هاتف محمول يصور جريمة كاملة ويرسلها إلى العالم بأسره، نستطيع تسميتها جريمة عصرية إذاً! 

لم يتغير شيء سوى أن المجتمعات الذكورية باتت تمتلك سلطة رقمية تهدد بها النساء وتريهن مصيرهن لو فكرن بالخروج عن طاعة القبيلة، التي ما زالت تتحكم بعقلية الوأد والديّة و”الحيار” وهو قيام أب الفتاة، عند ولادتها أو لاحقاً، بتقديم وعد بتزويجها من ابن عمها، وغالباً ما يتم الزواج قبل سن البلوغ. إنه نظام القبيلة الذي يسيطر على الكثير من منازل السوريين من الشمال إلى الجنوب.

السلطة الرقمية ذاتها تمنع الفتيات في مناطق عدة من نشر صورة على “السوشيل ميديا”، فتخفي كثيرات صورهن ويستبدلنها بصورة وردة أو طير جميل، تختبئ خلفها فتاة معنفة اجتماعياً أو جسدياً أو الاثنين معاً. فـ”الشرف” المزعوم يجب ألا يظهر للعامة، و”العورة” التي وصِمَتْ بها النساء والفتيات ما زالت موجودة، يُطلب منهن على الدوام تغطية الوجه وإخفاء الملامح وطاعة القبيلة. القبيلة التي وأدت طفلة عمرها أياماً منذ مئات السنين، هي نفسها قتلت الآن طفلة لأنها لم تتزوج ابن عمها. والجريمة جريمتان هنا أولاً تزويج فتاة قاصر والثانية قتلها. باتت الجرائم تُرْتَكب مجتمعة بحق النساء، ربما عيدة لا تملك صفحة شخصية على “فايسبوك”، ولا تعرف شيئاً عنه أصلاً لكن حكايتها انتشرت كما لم تتخيل يوماً، ليس من خلال صورة شخصية أو منشور تحكي فيه عن الحياة والحبّ والأحلام، إنما من خلال فيديو للحظاتها الأخيرة على الأرض، فيديو ممثلوه ومخرجوه هم ذكور القبيلة.

إقرأوا أيضاً:

“فايسبوك” ساحة لقتل النساء

 عيدة ليست الفتاة الأولى التي يصوّر قاتلها الجريمة. عام 2018 قام سوريٌّ يدعى أبو مروان بقتل طليقته ذبحاً بالسكين خلال بث مباشر على “فايسبوك” في مهجره الألماني، بينما كان ابنه بجانبه. راح أبو مروان ينادي أصدقاءه الذين يشاهدون الجريمة وهم جالسون في منازلهم، ليدعموا جريمته بمشاركتها على صفحاتهم الشخصية! 

وفي العام ذاته وفي مدينة جرابلس السورية الخاضعة لسيطرة المعارضة، قُتلت رشا بسيس أمام الكاميرا، على يد أخيها بسلاح كلاشنيكوف بينما كان يصيح أحدهم “اغسلْ عارك”.

 يبدو كما لو أن القبيلة تثير حماسة الموت في نفوس شبابها، على الدوام هناك صوتٌ في الخلفية يشجّع الرجل على القتل، لكن ماذا لو ضَعُفَ؟ ماذا لو شعر بالرحمة والشفقة نحو أخته وتراجع عن ذبحها؟ سيسانده آخرون، فغالباً ما ينفّذ الجريمة أكثر من رجل، حتى إذا رق قلب واحد، أكمل الآخرون المهمّة. 

عام 2007 وفي إحدى قرى شمال العراق رجمت دعاء أسود وهي فتاة إيزيدية حتى الموت، وصوّر عشرات عملية الرجم على هواتفهم من دون أن يبادر أحد لمساعدتها، قاموا برفسها ورميها بالحجارة من دون نسيان تغطية قدميها حين كُشِفتا، فالشرف مطلوب حتى لحظة القتل.

هل كان “مارك زوكربيرغ” ليتخيل يوماً أن “فايسبوك” سيغدو منصة للجرائم تماماً كأرض الواقع؟ هل تخيل أن يتحول إلى مكان تصاب فيه آلاف الفتيات والنساء بالذعر وهن يشاهدن أخريات يُذبحن والقاتل يقول للمتابعين وهو ملطخ بالدم أن يشاركوا الفيديو. المجرم يثير الحماسة في نفوس الآخرين، هذا على الأقل ما فعله أبو مروان.

من المرعب أن يمتلك المجتمع الذكوري أداةً جديدةً كمنصات التواصل الاجتماعي لإثارة الذعر في قلوب النساء ومنحهن فرصة لمشاهدة مستقبلهن في فيديو قصير لا يتعدى الخمس دقائق، وهكذا يتحول فيديو قتلٍ واحدٍ إلى طريقة عصرية تُكَمُّ بها أفواه مئات النساء ليتراجعن عن أحلامهن وشجاعتهن في مواجهة مجتمعاتهن.

هل العنف يتزايد مع التقدم التكنولوجي؟

لم يتوقف قتل النساء يوماً في أي مكان في العالم، وبينما يظنُّ كثيرون على سبيل المثال أن جرائم قتل النساء بتهمة الشعوذة والسحر في القرون الوسطى في أوروبا قد انتهت إلّا أنها مستمرة بالفعل في بلدان أخرى كأفريقيا وامريكية اللاتينية وجنوب شرق آسيا، وأعدادها أكبر بكثير مما كانت عليه في الماضي.

 في القرن العشرين وحده، قُتل عدد أكبر من الأشخاص المتهمين بممارسة السحر مما كان عليه خلال القرون الثلاثة التي كانت تمارس فيها مطاردة الساحرات في أوروبا وأغلبية الضحايا هن من النساء. يبدو أن العنف ضد النساء يتزايد مع التقدم التكنولوجي والعلمي، لكن المخيف أن يكون ما زال بالوتيرة ذاتها منذ مئات السنين لكن الفارق أننا لم نملك سابقاً فرصة لرصد هذه الحالات وتوثيقها بدقة. إذا كانت التكنولوجيا أداة جديدة في يد الذكورية اليوم، فكيف سينتهي الحال بعد عشرات السنين؟

ينطبق الحال نفسه على منطقة الشرق الأوسط، فجرائم قتل النساء في سوريا في ازدياد بخاصة مع ارتفاع وتيرة العنف والفقر والجهل في السنوات العشر الأخيرة، فمنذ بداية عام 2020 وحتى شباط/ فبراير 2021 وثقت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” ما لا يقل عن 24 جريمة قتل بحق النساء في سوريا، بينها 16 امرأة قتلن على يد أقرباء لهن. ويعتقد المرصد أن العدد أكبر بكثير في ظل تكتم الكثير من العائلات عن هذه الجرائم، التي تقع في جميع المناطق على حد سواء ابتداء من مدينة السويداء في الجنوب، وصولاً إلى مدينة إدلب في الشمال، ما يعني أن معاناة السوريات هي واحدة، في جميع المناطق في الداخل والخارج، وما يختلف هو العقاب القانوني بحق المجرمين. مثلاً تتعامل الجهات القضائية في ريف حلب الخاضع لسيطرة الجيش الوطني السوري، مع تلك الجرائم كما يتعامل معها قانون العقوبات السوري لعام 1949.

أمّا الأجهزة القضائية في إدلب الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”، فتتولى مهمة إصدار الحكم باجتهاد شخصي من أصحابها الذين يخضعون لدورات عقائدية تسمى دورات شرعية لا تتجاوز مدتها 50 يوماً. لكن النقطة الأساسية في جرائم “الشرف” حين يكون القاتل هو الأخ أو الأب، هو طلب الجهاز القضائي كشفاً لعذرية الضحية ولو ثبت أنها أقامت علاقة جنسية بالفعل يتم التساهل مع القاتل إلى حد كبير جداً ولا تتجاوز مدة سجنه 10 أشهر في أفضل الأحوال، وهذا يعني بطبيعة الحال اعتماد القضاء بشكل أساسي على الحكم الأخلاقي لا القانوني.

في كلّ جريمة جديدة بحق النساء والفتيات، يعود الغضب ذاته، غضبٌ يتجدد من دون أن يجد حلاً، الجريمة في كلّ مرة مؤلمة. وكلما اعتقدنا أنها ستكون الجريمة الأخيرة، يفاجئنا قانون القبيلة بالمزيد من المآسي. وبذلك تتخلخل قوانا أمام نظرات فتاة جديدة تستغيث بعائلةٍ هي قاتلتها، ولا يستجيب لها أحد.

إقرأوا أيضاً: