fbpx

لبنان : من وراء جريمة الإفراج عن قاتل لطيفة قصير؟…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في بلد دأب على العفو عن مجرمي الحرب وعن الفاسدين، يكرّس اليوم قتلة النساء ضمن خانة محظييه. سيخرج قاتل لطيفة قصير بسبب تخفيض مخزٍ وعدالة مختلة وربما غداً يلحق به بقية قتلة النساء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“نرى في ضوء مجمل معطيات الملف لا سيما نوع الجرم وظروفه… نرى إعفاء المستدعي من باقي مدة محكوميته”.

تبدو الجملة التي خطها قرار تقصير مدة العقوبة بحق ابراهيم طالب المسجون في سجن القبة في طرابلس، والتي تمهد لإطلاق سراحه، مذهلة إذا ما قرأناها في سياقها الحقيقي. 

لطيفة قصير

ابراهيم طالب محكوم منذ عام 2010 بجريمة قتل مطلقته لطيفة قصير خنقاً والاعتداء عليها قبل قتلها وبعده، لكنه الآن نال تقريراً من هيئة استشارية اجتماعية ينوه بتجاوبه والتزامه خلال السجن، وبالتالي بات مشمولاً بقانون تخفيض مدة العقوبة.

لكن ما الذي تعنيه جملة “لا سيما نوع الجرم وظروفه” التي وردت في سياق تبرير إطلاق سراحه المبكر، خصوصاً أن نص قرار تخفيض العقوبة ذكر رواية ابراهيم بوصفه كان زوجاً “محباً” لزوجته غيوراً عليها، كجزء من معطيات الجريمة وأنه يريد أن يخرج ليبدأ حياته من جديد ورعاية ولديه (باتا اليوم في عمر 16 و18 سنة)! 

مأساة لطيفة قصير كانت جريمة حركت وعياً ورأياً عاماً حين وقعت، وكانت في صلب معارك شرسة للانتفاض لبنانياً ضد جرائم قتل النساء والتي أثمرت ولو بشكل جزئي عن قانون حماية النساء من العنف الذي صدر عام 2014.

صادفتُ خلال حياتي المهنية حالات وحكايات فيها الكثير من الألم والقسوة، لكن تبقى مأساة لطيفة من الأكثر رسوخاً في الوجدان، خصوصاً بعدما عايشتُ انعكاس مأساتها على طفليها وعائلتها. 

عن هذه القصة أنجزتُ قبل 11 عاماً فيلماً يوثقها عبر شهادات من عائلة لطيفة وولديها، أستعيد بعضاً منها هنا لفهم “نوع الجرم وظروفه”، إذ رأى قرار تخفيض المدة أنهما يستحقان هذا الامتياز.


10 سنوات عجاف… ثم الموت

كانت لطيفة قصير نموذجاً لنساء مجتمعنا المحافظات التقليديات، فهي شابة ثلاثينية هادئة، نشأت في عائلة ملتزمة دينياً وعملت بجهد محاسبة في شركة صغيرة.

تزوجت بعد تعارف عائلي سريع عام 2000 من ابراهيم طالب العائد من الاغتراب، لتكتشف بعد أقل من سنة على الزواج أنها أقدمت على قرار ستندم عليه طيلة حياتها. كرر الزوج ضربها وإهانتها وابتزازها مالياً جراء إدمانه المخدرات، وكان في كل مرة تهرب منه فيها يعيدها الى منزل الزوجية ليعيد الكرة من جديد.

أنجبت منه طفلين (جنى وخليل) وعاشت حياة مريرة كانت خلالها تخاف فيها على ابنيها من تداعيات إدمانه وعنفه الذي لم يوفر الطفلين في مرات عديدة.  

“كيف بيشوطوا الفوتبول يا عمتو ..هيك”، لم يكن خليل أكمل السادسة حين باح لعمته غادة حين سألته عما اذا كان والده يضربه كما يضرب أمه.

كل تلك المعطيات لم تجعل القضاء ينصف لطيفة ولم يحمها هي أو ولديها خلال حياتها، فقد استمر طالب يرفض تطليقها، بل وتجاوبت معه حينها المحكمة الجعفرية في الحيلولة دون منحها الطلاق. معروف أن المحاكم الجعفرية التي يتبع لها إبراهيم ولطيفة لا تمنح المرأة حق الطلاق إلا بموافقة الزوج، وشكت لطيفة مراراً من انحياز القضاة لزوجها ضدها.

“ما خصكن شو ما عمل. إلكُن يفتح بيت ويدفع نفقة…”، تروي شقيقتها ليلى قصير كيف أجابها أحد القضاة، بعد امتناعه عن منح لطيفة الطلاق، لكن لطيفة حصلت على الانفصال بعد عشر سنوات من المعاناة المتكررة، وبعدما تمكنت من دفع مبلغ من المال فتنازلت عن حقوقها وانتقلت لتعيش مع صغيريها في منزل جديد. 

الانتقال إلى حي بعيد نسبياً في سن الفيل لم يحم لطيفة من طليقها بحسب شهادة جارتها، فهو بقي يتردد منفثاً عن غضبه منها لأنها انتزعت الطلاق منه، وكثيراً ما هرعت الجارة من منزلها على أصوات استغاثة لطيفة جراء اعتداء الطليق عليها.

لم تستبعد لطيفة احتمال الهرب من لبنان، لكنها لم تستطع بسبب تمكن إبراهيم من إصدار قرار بمنع سفر الصغيرين، “ما قدرت حتى تهرب” تقول شقيقتها غادة.

إقرأوا أيضاً:

في صباح 13 نيسان/أبريل 2010، كانت لطيفة قصير تستعد للذهاب إلى عملها، بعدما ذهب ولديها جنى (8 سنوات) وخليل (6 سنوات) إلى المدرسة.

أتى إبراهيم وهجم عليها في اعتداء استمر 3 ساعات. كان بحسب شهادات شقيقتيها ليلى وغادة يجلس بقربها حين اتصلت هاتفياً بأختها غادة تطلب اسم دواء، “وقعت عليي الخزانة” قالت لشقيقتها التي لم تستوعب أن لطيفة تعيش لحظاتها الأخيرة وكانت تتعثر في الكلام. 

ربما اتصلت لتستنجد بعدما أوهمها طالب بأنه لن يقتلها لكنها كانت خائفة لأن طليقها كان بقربها.

“وجهي مورم يا اختي…”،  تبقى هذه الجملة لغزاً يؤرق غادة حتى اليوم، فماذا قصدت شقيقتها وكيف كانت تحاول الاستغاثة في اتصالها الأخير؟ 

تشريح جثمان لطيفة أظهر امتلاء جسدها بالكدمات كما تؤكد شقيقتها ليلى، إذ تم ضربها وشنقها بمنشفة قبضت على انفاسها حتى الموت. 

بعدما قتلها غادر إبراهيم المنزل، ليعود بعد ساعات قليلة صغيراها جنى وخليل من المدرسة، وكان خليل متحمساً لأنه سيحتفل بعيد ميلاده السادس في اليوم الذي قتلت فيه والدته، لكن الطفلين وجداها جثة مدماة.

تآلف جنى وخليل مع انتقال أمهما الى القبر بوصفه “بيتها” الجديد، الذي بات بمثابة مزار يكرر الطفلان زيارته ونثر الورود عليه. “قلتله لخليل هيدا بيتها رح تعيش فيه، هو جديد وحلو. قللي يعني لما بتقعد فيه بيبطل بابا يضربها؟”.

تحكي غادة شقيقة لطيفة عن ابن اختها خليل الذي كان يصارع حينها هو واخته جنى لفهم ماذا حدث وكيف تمكن والده من قتل أمه، وما إذا كان قبرها الرخامي سيكون حماية لها من الضرب والاعتداء. 

حكم أخلاقي… لا قانوني

“نوع الجرم وظروفه” جملة يجب التوقف عندها طويلاً في قرار الافراج عن ابراهيم، فهل جريمة قتل لطيفة تستدعي التعاطف مع القاتل بدواعي “الحب” أو “الغيرة” أو “الشرف” على نحو ما ادعى في تبريراته؟

“نوع الجرم وظروفه”، تحمل في طياتها حقيقة أن القضاء استند بشكل أساسي على الحكم الأخلاقي لا القانوني العادل. فتكرار مثل هذا الوصف في بيان المحكمة يشي بأن هناك نوعاً من التبني لرواية القاتل بدافع الحب أو الغيرة و”الشرف”. 

فهل السنوات العشر التي أمضتها لطيفة تكابد العنف والاهانة والخوف حصيلة “الحب” و”الغيرة” التي شفعت لقاتلها في حيثيثات الافراج المبكر عنه الآن؟

بعدما اعتقدنا أن تقدماً تحقق في مسار التشدد في عقوبة قتل النساء يفاجئنا قانون  الذكورة بالمزيد من التساهل مع القتلة. نعم الذكورة، التي تقبل معايير الشرف والغيرة بوصفها مبررات للجريمة والتهاون فيها.

مثل هذه الجمل “نوع الجرم وظروفه”، تحمي حماسة رجال في قتل نساء وفتيات، وكأن ما يشجع الرجل على القتل، حتى إذا صودف وتمت معاقبته، هو عدالة مضادة تشجعه على الاستمرار في القتل والإفلات بعد ذلك من العقاب.

 كم جريمة أخرى علينا أن نحصيها ونتابعها لنفهم حقيقة ما تعانيه النساء؟

لم يتوقف قتل النساء يوماً، ولم تقلع النظم الاجتماعية والقانونية عن رفد القتلة بأسباب تخفيفية وتشجيعية. لكن من المرعب حقاً أن تمتلك العدالة “الذكورية” مدخلاً جديداً يكرس مزيداً من الاستخفاف بقتل المرأة.

 الجريمة في كلّ مرة مؤلمة إلى حد أننا نتوهم أنها ستكون الأخيرة، ليفاجئنا موقف من هنا وقانون من هناك بالمزيد من المآسي والجرائم، لكن “نوع الجرم وظروفه”، لا تبدو ذات شأن في نظر العدالة.

اليوم تم تخفيض عقوبة قاتل لطيفة قصير إلى السدس بعدما كانت محكمة الجنايات في جبل لبنان قد حكمت عليه حينها بـ18 سنة حبس (السنة السجنية هي 9 أشهر) وهذه المدة لم تكن تتلاءم مع الجريمة المرتكبة بنظر حقوقيات وحقوقيين كثر.

وهذا القرار يأتي في ذروة اشتداد الأزمات المعيشية والسياسية في البلد وفي ظل جدل يطال تحديداً القضاء والضغط السياسي المتعاظم باتجاه تكريس منطق الإفلات من العقاب، فهل من جهة نافذة ما خلف القرار المفاجئ بإخراج قاتل لطيفة قصير من سجنه؟

عائلة لطيفة قصير تعيش حالة ذهول منذ إعلان الخبر خصوصاً بعد سنوات من المعاناة في رعاية الطفلين الذين شهدا عنف أبيهما وكانا أول من اكتشف جثة أمهما في البيت وكان عليهما العيش في وطأة هذا الواقع المرير.

في بلد دأب على العفو عن مجرمي الحرب وعن الفاسدين، يكرّس اليوم قتلة النساء ضمن خانة محظييه. سيخرج قاتل لطيفة قصير بسبب تخفيض مخزٍ وعدالة مختلة وربما غداً يلحق به بقية قتلة النساء. 

إقرأوا أيضاً: