fbpx

بين ملف المفقودين وانفجار بيروت: الإمعان في حماية المرتكبين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“أنا بقيت صرّخ وبعدني عم صرخ إنه ما بدي مفقودين جداد. بدي حلّ للقضية حتى ما يصير في ضحايا جداد… صار في ضحايا جداد”. تشبّه حلواني السياسة المتبعة في تحقيقات قضية تفجير المرفأ بالسياسة التي اتبعتها السلطة مع أهالي المفقودين .

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ما خلولنا شي، حتى الأمل أخدوه… بيقولوا الحق ينتصر، إلا بلبنان، الحق بيموت. بدك قول إنو في أمل؟ هالقضية متل كل القضايا المحقّة بالبلد… بتموت”. 

لاتزال وفاء فياض تحمل مرارة ثقيلة منذ العام 1989، وهو العام الذي فقد فيها شقيقها عباس فياض خلال الحرب اللبنانية. 

الانتظار هو صديق وفاء الدائم منذ أكثر من 30 عاماً. 

تتذكّر ذلك اليوم جيداً، حين اختفى عباس وهو في الرابعة والعشرين. تذكر انتظارها له حتى مطلع الفجر، والحيرة التي رافقت إخوته وأصدقاءه حينها، وصلوات أمّها. 

طال ذلك الانتظار ولا يزال حيّاً فيها، “أمّي ماتت وهي تنتظره، هيدا مش ظلم؟ هيدا مش قهر عادي… هيدا قهر لدرجة الموت، هالجرح ما بيندمل”، تقول وفاء.    

“نحنا مش ناطرين اللي راحوا يرجعوا، بس ناطرين نعرف وين راحوا؟ وين أخدوهن يقولولنا… ع الأقل نصلّي ع الميّت. مش قادرين نقول الله يرحمه، ومش عارفين ننطر. هيدي مش شغلة مقبولة، شخص يكون قدامك بكامل قوته وفجأة يختفي. شغلة أكبر من إنو يتقبلها عقل”.

وجع وفاء على غياب شقيقها يشبه وجه كثر فقدوا أهلهم أو أبناءهم في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990). ولم يبقَ من ذكراهم سوى صور… 

تُطالع وفاء صور أخيها بالكثير من الحنين، تتذكّر أمها التي ماتت وفي قلبها توق لرؤية ابنها. وابنه الذي غاب عنه فيما لم يكمل عامه الأول، واليوم أصبح أباً لجوجاً لا يملّ من السؤال عن ملامح أبيه وسماته ولون عينيه. 

المشهدان يتقاطعان، ولو أن بينهما عشرات السنين، فهل تكون جريمة المرفأ عبوراً ثانياً لسلطة نجت من المحاسبة في الحرب الأهلية وأحكمت قبضتها لترتكب جرماً جديداً بحق مدينة كاملة بكل دمٍ بارد؟ 

استقالات “مُنسّقة” بهدف عرقلة الملف

قضية المفقودين والمخفيين قسراً تشهد اليوم محاولة تعطيل للهيئة العاملة على الكشف عن مصير هؤلاء. حصل ذلك عبر استقالة جماعية و”منسّقة” لأربعة من أعضاء الهيئة الوطنية والحاصلة عشية انتخاب مكتبها و”ذلك في مسعى منهم لتعطيله”، وفق ما ورد في بيان “الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسراً”. 

اللافت أن الاستقالة أتت من دون مبرر معروف، وهي نابعة من أشخاص تم تعيينهم من هيئات يفترض أن تكون في طليعة المدافعين عن حقوق الضحايا وخصوصاً المفقودين، وفي مقدمتها نقابتا المحامين في بيروت وطرابلس ونقيبا الأطباء في بيروت وطرابلس، إضافة إلى مجلس القضاء الأعلى.

هذه الاستقالة الجماعية أتت بعد انتظار دام سنتين ونصف السنة لتعيين أعضاء الهيئة، وذلك بعد استقالات متلاحقة. كما أنها أتت مباشرةً بعد تعيين مكتبها الأول برئاسة القاضي سليم الأسطا، سنداً للمادة 14 من قانون المفقودين والمخفيين قسراً رقم 105.   

الاستقالة أعادت إلى الذاكرة قضية أهالي ضحايا انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس إلى الواجهة، خصوصاً بعد اقتراب الذكرى الأولى للجريمة من دون أي بوادر لمحاسبة المرتكبين. وأكثر من ذلك، وسط محاولات لطمس الحقيقة عبر تنزيه شخصيات أساسية عن التحقيق معها، علماً أن الوثائق أظهرت ارتباطها بشكل مباشر بالملف. أبرزهم مدير عام الأمن العام عباس إبراهيم، الذي ملأت صوره عدداً كبيراً من اللوحات الإعلانية الضخمة على الطرق تحت عنوان، “معك يا أنبل الرجال” أو “الوفاء للواء”… حدث ذلك بعدما أصدر المحقق العدلي الجديد القاضي طارق البيطار بياناً طلب بموجبه الأذونات للادعاء على دفعة جديدة من الشخصيات السياسية والعسكرية للاستماع إليهم في ملف انفجار المرفأ، بينهم ابراهيم، الذي حظي بغطاء طائفيٍ وسياسي من حاشيته، كما من أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله، الذي قال في خطابه الأخير إن “الاستدعاءات هي شكل من أشكال التوظيف السياسي”.

إقرأوا أيضاً:

سيناريو المماطلة يتكرر في ملف المرفأ 

بعد مرور نحو عام من تمييع التحقيقات وعدم محاسبة أي مسؤول، في ظل استمرار إشهار السلطة للحصانات السياسية والطائفية في وجه أي محاسبة قضائية لأي مسؤول سياسي أو أمني، تكشف التحقيقات تورطه بالجريمة، تتخوّف رئيسة “لجنة أهالي المفقودين والمخطوفين في لبنان” وداد حلواني من تكرار سيناريو التمييع والإهمال نفسه مع أهالي ضحايا انفجار المرفأ.

تقول حلواني، “أنا بقيت صرّخ وبعدني عم صرخ إنه ما بدي مفقودين جداد. بدي حلّ للقضية حتى ما يصير في ضحايا جداد… صار في ضحايا جداد”. تشبّه حلواني السياسة المتبعة في تحقيقات قضية تفجير المرفأ بالسياسة التي اتبعتها السلطة مع أهالي المفقودين منذ أكثر من ثلاثين عاماً حتى اليوم. “تواصلت مع أهالي الضحايا عبر البيانات وكنت أقول في كل مرة كيف لي أن أنظر إلى عيونهم؟ في عيونهم كما في عيوننا، ألف سؤالٍ بلا إجابة… لا أستطيع أن أحتمل رؤية تجربتنا مع ناس آخرين”، تُضيف. 

تشرح وداد كيف ميّعت السلطة ملف المفقودين بذريعة أن ضريبة الحرب هي الموت والاختفاء، “كانوا يقولولنا بدنا نطوي صفحة الحرب ونطلّع بالسلام”. اليوم وبعد أكثر من ثلاثة عقود على الحرب تتكرر الجريمة على يد المجرمين أنفسهم، وسط تمييع للتحقيقات الواهية أصلاً. وهو ما يعمّق جرح أهالي المفقودين، الذي لم يندمل.  

وداد، التي فقدت زوجها في الحرب الأهلية وقررت بعدها تأسيس الجمعية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1982 بهدف الكشف عن مصير المفقودين في الحرب اللبنانية، لا تزال متمسّكة بحقها، ليس بالعدالة والمحاسبة، وإنما بمعرفة الحقيقة قبل كل شيء.

“نحنا انسرق منّا شقفة من روحنا، من جسمنا، من مسام جلدنا… ما فيكي تتخلي عن هيدا الحق… بفتكر هيدا الحق هو اللي خلّانا متمسكين فيه”، تقول، ذاكرةً قصص لأهالٍ كثر فقدوا أبناءهم وما زالوا ينتظرون. منهم أم عزيز التي فقدت أربعة من شبابها، حتى وصل بها الحال لتقول، “ردولي ولو واحد”. 

المماطلة وتمييع التحقيقات في ملف المفقودين يفسّران النهج الوحيد الذي تتّبعه السلطة السياسية في معظم القضايا في لبنان. ولا يشي إلا بتكرار السيناريو مع أهالي ضحايا انفجار المرفأ ونحن على اقتراب الذكرى السنوية الأولى للجريمة التي وعد وزير الداخلية محمد فهمي بانتهاء التحقيقات فيها خلال خمسة أيام. 

العبارة التي قالتها وفاء عن فقيدها، “نحنا مش ناطرين اللي راحوا يرجعوا، بس ناطرين نعرف وين راحوا”، تتقاطع مع عبارة محمد اسكندر التي قالها بعدما فقد قريبه حمزة اسكندر في انفجار المرفأ، “أنا لا أنتظر عدالة من هذه الطبقة السياسية، خسارتي أنني فقدتُ حمزة، وهذا لن يُعوّض”. 

المشهدان يتقاطعان، ولو أن بينهما عشرات السنين، فهل تكون جريمة المرفأ عبوراً ثانياً لسلطة نجت من المحاسبة في الحرب الأهلية وأحكمت قبضتها لترتكب جرماً جديداً بحق مدينة كاملة بكل دمٍ بارد؟  

إقرأوا أيضاً: