fbpx

لبنان: يقتلون القتيل ويقتلون جنازتهُ أيضاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعترفون جميعاً بالمسؤولية. يقولون: كنا نعرف. ويقولون إنهم مستعدون للمثول أمام القضاء. لكنهم يريدون قضاءً يكفل لهم تمييع القضية والذهاب بها إلى منطقة رمادية ثم إطفاءها على غرار إطفاء البلاد عن بكرة أبيها بالتقسيط المريح.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ماذا يعني أن يضطر رجل إلى حمل نعش ابنته الصغيرة مرتين؟ ماذا يعني أن تضطر أمٌ إلى حمل نعش ابنها مرّتين؟ أن يسير العشرات في الجنازة نفسها أكثر من مرة. 

أن يحملوا فوق أكتافهم جثة العدالة ويسيروا بها في الشوارع. ثم يسجّونها أمام منزل وزير الداخلية. ولا يهتزّ لهول هذا المشهد أحد من أركان السلطة. لا يرفّ لهم جفن، ولا يحمرّ لهم وجه من الخجل. بالعكس، يدفعون بعسكرهم إلى المقدمة لمواجهة الجنائز. يقتلون القتيل ويقتلون جنازته أيضاً. 

كان يفترض بالوقفة أمام بيت وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال محمد فهمي أن تكون رمزية. أهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت حملوا التوابيت ليستعيدوا مشهد تشييع أولادهم، مع كل ما يعنيه ذلك من ألم لا يحتمل. حملوا على اكتافهم ثقل الذاكرة، وثقل أطنان من نيترات الأمونيوم المنفجر. على أجسادهم وهم يسيرون يلتصق غبار الانفجار. تلتصق حبيبات من الأمونيوم الذي تشظى في بيروت كلها ووصل عصفه إلى لبنان كله. حمل أهالي الضحايا ثقل قضيتهم بما هي تكثيف للانهيار على الصعد كافة. تمثّل قضيتهم العادلة مأساة العدالة القتيلة في بلاد لم تعرف شيئاً عن العدالة منذ انتهاء حربها الأهلية، وتولّي مجرمي الحرب حكم البلاد في السلم، من دون أي محاسبة، ومن دون معرفة مصير آلاف المخفيين قسراً، ولا تحقيق العدالة لمئات الآلاف من الأبرياء الذين قتلوا في المعارك وعلى الحواجز وبعمليات الاغتيال. 

ولا تغيب هذه الرمزية المقارنة بين ضحايا تفجير المرفأ وضحايا الحرب الأهلية، وأيضاً ضحايا السلم الأهلي. ففي شخص محمد فهمي تجتمع كل معاني الإفلات من العقاب وعِبره. وهو لا يستحي في التعبير عن ذلك على الملأ. خرج في مقابلة تلفزيونية مباشرة على الهواء وقال: “قتلت اثنين… وميشال عون قال لي: يا محمد، طول ما فيي نفس ما حدا بيدقّك بشوكة”. هذه خلاصة أسلوب الحكم اللبناني في التعامل مع الجرائم الفردية والجماعية. يقتلون ويختبئون بالحصانات التي يؤمنها الزعماء. فعلها فهمي خلال الحرب وها هو يكرّسها في “السلم”. يكرّس منطق الإفلات من العقاب عبر نيل الحصانة من الزعيم. قال له ميشال عون: “طول ما فيي نفس ما حدا بيدقّك بشوكة”. وهو يتصرّف اليوم على هذا الأساس. ولا تهمّه لا حصانة الدم ولا حصانة الأرواح ولا حصانة العدالة. ما يهمّه فقط هو حصانة الهيكل. يدافع عنه ويحتمي به. ويفعل ما يلزم للإبقاء عليه، حتى ولو تجاوز الخطوط الحمر الأخلاقية جميعها في سبيل حمايته. حتى ولو تطلّب الأمر تحطيم توابيت الموتى الذين سحقهم النظام تحت ثقل الفساد والإهمال والصفقات. 

يستميت فهمي مع حرّاسه في الدفاع عن موقفه الرافض إعطاء إذن الملاحقة للمديرين العامين الذين ادّعى عليهم القاضي طارق البيطار، لأنه يعلم ان الاستدعاءات هذه تعني تخلخل الهيكل، وتعني أن إعطاء الإذن بملاحقة مدير عام الأمن العام عباس ابراهيم، بما يعنيه شخصه وموقعه السياسي والطائفي هو فتح لباب قد يطاول حصانات كثيرة، بدءاً من النواب وعلى رأسهم المدعى عليهم حالياً، علي حسن خليل، غازي زعيتر ونهاد المشنوق بسبب أدوارهم عندما كانوا وزراء للمالية والأشغال والداخلية، مروراً برؤساء الحكومات السابقين، وليس انتهاءً برئيس الجمهورية. فهمي يعلم تماماً أن جميع من في الهيكل متورّطون في دم ضحايا انفجار مرفأ بيروت. وهم، على غرار ما فعل هو حينما اعترف بقتل شخصين مباشرة على الهواء، لا يستحون بالخروج على الملأ والقول إنهم كانوا يعلمون بوجود النيترات، ومع ذلك لم يتحركوا. ولا يستحون من اعلان أنهم محميون بحصانات طائفية وسياسية تمنع أن “تدقّهم شوكة”، كما قال ميشال عون لفهمي بعد قتله الرجلين ولجوئه إليه. 

يعترفون جميعاً بالمسؤولية. يقولون: كنا نعرف. ويقولون إنهم مستعدون للمثول أمام القضاء. لكنهم يريدون قضاءً يكفل لهم تمييع القضية والذهاب بها إلى منطقة رمادية ثم إطفاءها على غرار إطفاء البلاد عن بكرة أبيها بالتقسيط المريح. يستخدمون الصيغة اللبنانية نفسها التي أنهت الحرب بـ”لا غالب ولا مغلوب”، لينهوا قضية المرفأ. ويا دار ما دخلك شرّ. لكن ماذا يعني أن يضطر رجل، كبول نجّار، أن يحمل نعش ابنته الصغيرة الكسندرا مرتين؟ ماذا يعني ان تضطر أم جو ايلي بو سعد ان تحمل نعش ابنها مرتين؟ 

في المبنى الذي يقطنه حامي النظام وزير الداخلية، تحطّم الزجاج في الطبقة السفلية. حطّمه أهالي ضحايا انفجار المرفأ. كيف فعلوا ذلك؟ بما علق من نيترات الأمونيوم على أجسادهم من الانفجار الكبير الذي قتل أحباءهم. بقايا النيترات لا تزال تنفجر غضباً مع غياب العدالة. ماذا يعني أن تضطر إلى عيش لحظة الانفجار آلاف المرّات؟ وإلى سماع صوته في الرأس إلى ما لا نهاية؟ لا شيء يمكن أن يسكت صوت الانفجار في رؤوس أهالي الضحايا إلا تحقيق العدالة. حتى ذلك الحين، سيتحطم زجاج كثير في بيوت السياسيين. وستصل الأصوات صاخبة ومدوّية إلى داخل غرف نومهم، وإلى داخل رؤوسهم. وستلاحقهم التوابيت إلى كوابيسهم، ولن يكون بمقدور أحد حمايتهم من “شوكة” العدالة التي لا بدّ ستنغرس في جلودهم، وإن بعد حين. 

إقرأوا أيضاً: