fbpx

“ماهينور المصري ع الإسفلت!”: نخرج من السجن ولا يخرج منا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خالط الفرح الريبة والتوجس، أمسى جيلنا يخاف الأمل ويرهبه، توالت على رؤوسنا الخيبات تباعاً حتى خاصمنا الأمل ولم نعد نراه إلا بعين الشك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

طوفان ملأ مواقع التواصل الاجتماعي المصرية، انتشر الخبر في ثوانٍ أسرع من النار في الهشيم. لم يصدق أحد. ماهينور؟ أيعقل؟

ماهينور المصري محامية ومدافعة عن حقوق الإنسان من الإسكندرية، وتعتبر أيقونة ورمزاً لشباب ثورة 25 يناير، ليس لشجاعتها المبهرة وصلابتها في النضال مع نقاوة وإنصاف نادرين، وحسب، ولكن أيضاً لأنها ممن دفعوا أثماناً باهظة بسبب مواقفهم، فقد أمضت وحدها خلف القضبان حكماً بثلاث سنوات على خلفية اتهامات سياسية مطاطة حفظناها، ليعاد اعتقالها مرة أخرى عام 2019 لتمضي عامين آخرين وراء القضبان، قبل أن يفرج عنها بشكل مفاجئ في 19 تموز/ يوليو 2021، يوم وقفة عيد الأضحى.

فاضت البهجة في منشورات مواقع التواصل، سعادة غامرة ملأت كل من يعرفها وانتقلت لكل من لا يعرفها وهم قلائل. باتت التهاني تطير من هنا إلى هناك حتى نسي الشباب أن العيد غداً، فقد غطت البهجة بحرية ماهينور على فرحة أي عيد.

يقول الكاتب نائل الطوخي:


سمعت إمبارح خبر الإفراج عن ماهينور المصري، وخرجت قعدت عالقهوة شوية، وحسيت كإن الدنيا كلها فرحانة، وكإن دا فعلاً عيد، ولقيت نفسي لما بشوف أي حد بقول له تلقائياً وبمنتهى السعادة: كل سنة وانت طيب”.

وظلت هذه الحالة على مدار اليوم حتى شاركت صفحات كبيرة بعيدة من السياسة الفرحة إنها بشكل مبطن تجنباً لخطر الاعتقال.

لم يكن الإفراج عن ماهينور هو الخبر السعيد الوحيد، فقد جاء ضمن انفراجة ضئيلة خاطفة في يومين متتاليين، إذ استيقظنا في اليوم السابق على خبر الإفراج عن إسراء عبدالفتاح، والتي تم اعتقالها منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019 لتشارف على السنتين وراء القضبان. 

خالط الفرح الريبة والتوجس، أمسى جيلنا يخاف الأمل ويرهبه، توالت على رؤوسنا الخيبات تباعاً حتى خاصمنا الأمل ولم نعد نراه إلا بعين الشك.

ثم جاء اليوم التالي ورأينا ماهينور الجميلة تبتسم على الإسفلت مشرقةً، وفي التوقيت ذاته علمنا بالإفراج عن مصطفى الأعصر والصحفي معتز ودنان.

شاهدت مقاوماً الدموع التي فاضت من أعين كل من شاهد لحظة وصول معتز إلى منطقته ودخوله شارعه وهو ما زال في بدلة السجن البيضاء: أحضان أهله والتصاقهم به كمن يخشى من أن يكون وجوده حلماً أو محض سراب. الترحيبات الحارة المؤثرة من أبناء شارعه وحفاوتهم البالغة، والحب.

 الحب الذي غمر كل شيء حتى فاض ولمس قلوبنا أيضاً فبلل العيون.

ثم توقفت كثيراً متأملاً في صورة مصطفى الأعصر بين أصدقائه الخمسة الذين هرعوا لزيارته.

لم تكن كأي صورة، لأن الستة كانوا زملاء في الزنزانة على مدار أربع سنوات مضت، تشاركوا فيها حياة متقلبة عنيفة وراء القضبان ومواقف لن تنسى. تقاسموا الأكل الميري وواجهت وجوههم الحائط سوياً لتعبث بهم الأيدي ذاتها في التفتيشات الذاتية، أشبعوا أبواب الزنازين صفعاً وركلاً ليأتي سجان لإنقاذ زميل مريض لم تفارقه الروح، وتفطرت قلوبهم مع كل فراق ووداع تواعدوا فيه أن اللُّقيا حتمٌ وأن الشمل سيلتئم في عالم أفضل قليلاً يحيا في أحلامهم.

دارت الدنيا ودارت، حتى أتى هذا اليوم الحالم الذي اجتمعوا فيه أخيراً بعد سنوات عجاف تحت سماء “الملكية”، برؤوس غير محلوقة وملابس لم يفرض عليها أي بياض أو زرقة، بلا أذرع قميئة تجتذبهم لإنهاء الزيارة.

صورة تتدفق بالمشاعر والمعاني والرموز كما يعلم كل من خاض خبرة السجن.

فرحتنا بخروج أصحابنا جميلة دافئة، لكنها بائسة بقدر بهجتها.

يقول التعبير المصري الشعبي “صِعْبِت عليه نَفْسُه”.

هذا ما أشعر به وأنا أتأمل ما نحن فيه؛ نطير من السعادة ونرفرف بخروج خمسة أو ستة من ضمن آلاف السجناء، لم يخرجوا مثلاً مكرّمين معوّضين عما سرق من عمرهم ظلماً وعنوة، بل خرجوا لأبسط حقوقهم الإنسانية: باب يفتح من الداخل، سماء بلا قضبان، رؤية الشارع والناس بلا قيود.

إلا أن ظنك أنك تتعافى من السجن وتعود إلى طبيعتك إنساناً سوياً كلما مرت أيام يتضح كونه وهماً، تستعيد روتينك وطريقة كلامك ومعارفك، لا تجد غضاضة في الحديث عن السجن، حتى تكاد توقن أنه صار في الماضي.

ثم يظهر على حين غفلة في أصغر التفاصيل وأتفهها:

 في صوت بابٍ حديدي يفتح بقوة مجلجلاً فيهوي قلبك إلى قدميك بلا وعي، منتظراً سيل الركلات والصفعات المقبل فلا تجد أحداً ملتفتاً ولا مرتعباً من الجمع الضاحك الواقف سواك.

في عينك التي تدور تلقائياً للاطمئنان على وجود أكرة الباب مكانها في غرفة أضيق من اللازم.

في انقباضة قلبك عندما تكون في مصلحة حكومية وتسمع موظفاً صارخاً في زملائه أن “في تفتيش جي!”.

في أي مكان ينادى فيه اسمك الرباعي بصوت عالٍ فتشعر بتوتر مفاجئ لا تفهم مصدره.

يظل السجن حاضراً في التفاصيل، مصاحباً لا ينفك عنا.
نخرج من السجن ربما، ولا يخرج السجن منا حتماً.

تعبنا وأنهكنا وتم استنزافنا، لم يعد أغلبنا يرغب سوى في الخروج إلى الحرية أو ما هو أقرب شيء إليها في هذه البلاد. ما عدنا نحلم بالعدل أو التحرر والانتصار، نكتفي برؤية من نحب يخطو خارج السجن، ونحرم أحياناً من مجرد دفء احتضانهم إذا كنا هاربين خارج البلاد لئلا نلقى مثل مصيرهم. نسمع نظريات تتكرر عن أسباب خروجهم من مفاوضات شخصيات إلى ضغوط خارجية، فلا نكترث سوى بالمحصلة ونقول: 

“أخرجوهم! افعلوا أي شيء لكن أخرجوهم وليكن ما يكون!”.

متى وصلنا إلى هنا؟ لا أدري تحديداً، لكنني أعلم أننا وصلنا، وأنني لم أعد أشتاق إلا لأبسط الأمنيات وأتفهها:

لاحتضان حبيبي أيمن بكل قوتي والضحك حتى توجعنا البطون، لمنى وعلاء يقهقهان بشقاوة الأطفال مناكفين سناء الصغيرة فتشاركهما ليلى سويف دفء اللحظة التي كافحت لأجلها سنين، بعدما تعرضوا للضرب والسحل وباتوا في العراء لليالٍ طويلة. أشتاق لمشاهدة الباقر يلتئم شمله بزوجته نعمة التي لم تتوقف عن الحلم بيوم انتهاء الفراق، لرؤية محمد عادل في أحضان زوجته رفيدة التي عقدت قرانها عليه في السجن، فيتنهدان أخيراً إذ جاء وقت الهناء بعد سني الألم، ، للقاء طال انتظاره بين عمر محمد وإسراء الطويل بعد زواج حالت بين ضم طرفيه الأسوار، لسيد مشاغب يطلق ضحكته العالية فتلتمع عيناه من جديد كما حفظتهما في سني رفقة العقرب وتركتهما يوشكان على الانطفاء في سني الحبس الانفرادي. أشتاق لعمر الشنيطي يلقي محاضرات ريادة الأعمال على آذان الطلاب الملهوفين، لعائشة الشاطر وعلا القرضاوي وأنس البلتاجي يعيشون في عالم لا يسجنهم لأجل أسمائهم الأخيرة، لهدى عبد المنعم وسط أبنائها وأحفادها يرعونها، لعبد الرحمن موكا ينفث دخان سيجارته بمزاج عالٍ على القهوة وهو يلقي نكاته يمنة ويسرة فينفجر الجميع ضاحكين. وأيضاً لعمر حنفي يلعب الباليه ويعتلي المسرح فتصفق له خطيبته لجين بفخر انتظرته طويلاً، لرامي شعث يقود قافلة إعانة لبلده الحبيب فلسطين، غير مدرج على قوائم الإرهاب، كتفه في كتف زوجته الحبيبة سيلين بعد سنوات جابت فيها العالم تصارع لإخراجه. لزياد العليمي مقبلاً رأس والدته التي اشتد بها الكرب مما حل به وأنهكها المشي في السجون، للباحثين باتريك جورج وأحمد سمير يستكملان دراستيهما العليا بالخارج، وينتجان أبحاثاً يحتفى بها وبعلميهما كما يستحقان، يحتفلان وسط أحبابهما مرتديين ثوب التخرج وتحلق قبّعتاهما في الهواء حرة. ولكل محروم من عناق أحبائه مكبل وراء السدود منعماً أخيراً بنسمة حرية عذبة تحت سماء صافية بين ذراعي من يحب، ينهل من اللحظة فيقول والله ما ذقتُ سجناً قط.

أتخيل وأتمنى.

فإننا والله لم نحلم إلا بحياة كالحياة.

إقرأوا أيضاً: