fbpx

عن “الغيمة الحمراء المشؤومة” التي قتلت فارس ساسين وجبور دويهي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يطلق أحد على كل منهما ست رصاصات كما حدث مع لقمان سليم. لم يقتلا غيلة في سيارة بعد خطف. لكنه كان قتلاً. وكان خطفاً. لم يكن نعاساً، لأنه لم يكن موتاً بين الأهل، بعد أن تفرّق شمل اللبنانيين، أفراداً وجماعات، وصاروا شريدي المنازل الموحشة والوطن المدمّر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أصابت رشا الأمير، الروائية الصديقة المكلومة بمقتل شقيقها لقمان سليم، حينما استحضرت بيتاً شعرياً لأحمد المتنبي، لترثي به فارس ساسين وجبور الدويهي: “إذا ما تأمّلت الزمان وصرفه/ تيقّنت أنّ الموت ضربٌ من القتل”. لكنه قتل من النوع الجماعي. وموتهما، في بلاد تحتضر، فيه شيء من اعلان موت البلاد كلها. وكلاهما، جبور وفارس، اشتغل في مجالات تتصل بالعمق في أزمة البلاد، وكأنهما انبوبا اوكسيجين ممدودان مباشرة إلى رئتيها. تتنفس البلاد على شيء من شهيق الرواية وزفير الفلسفة والتاريخ. وإذا كان جبور دويهي قد حكى حكايات الحرب والناس والموت بلغة روائية، فقد قام فارس ساسين، بالتوازي، بتدوين تاريخ البلاد، صوراً ونصوصاً، انطلاقاً من ساحة “البرج”. هكذا مات مع موتهما، في لحظة الانهيار العظيم والمديد، شيء من التاريخ والحكايا والذاكرة البصرية والشفهية. طبعاً يشكّل ما تركاه من إنتاج شيئاً من العزاء، لكن موتهما يفتح العين على وطأة الموت حينما يأتي دفعة واحدة ليحصدهما كما لو أنه يوجّه رسالة لنا جميعاً، بأن الآتي سيكون تاريخاً ميتاً، وصوراً محترقة، وذكريات مشوّشة، والكثير الكثير من الألم. 

“نحن الذين لا يشبهنا السيسي ولا الإخوان ولا يشبهنا العسكر ولا أردوغان  ولا السعودي ولا الحوثي ولا الأسد ولا النصرة ولا حزب الله ولا حزب العمال الكردستاني ولا داعش والحشد الشعبي، أنحن أذواقنا صعبة أم أنه لم يُلحظ لنا في الأساس مكان؟”. كان جبور دويهي يشعر انه شريد الانتماءات السياسية التي راحت تضيق وتطرد كل مختلف…

ضرب من القتل موتهما، لأنه يأتي في زمن الجريمة المنظّمة. الجريمة التي ترتكب بشكل “مشهود” بحق شعب كامل، بلا أدنى تردّد ولا أدنى مساءلة وحساب. وكلاهما، في حياتهما، التي تناهز عمر “الإستقلال”، عاشا البلاد في احتضارها الطويل، وخبرا السياسة والناس فيها، واستسلما كما لو انهما يعيشان على ايقاع البلد، ويموتان على إيقاعه. ضرب من القتل موتهما، وضرب من النعي لمآلات البلاد التي مرّت بمخاضات كثيرة، لم يكن أي منها على هذا المستوى من التشاؤم بما نعيشه اليوم. وكلاهما، دويهي وساسين، حلم بقيامة، وشاركا في “حلم” انتفاضة الاستقلال في العام 2005، ثم انكفآ عنها بعد ان اصطدما كما كثيرين بصخرة الخيبة. وكانا من أشدّ المتحمسين أخيراً لثورة 17 تشرين، وأملا مع الناس بفتح كوّة في جدار الأزمة الصلد، ثم انكفآ مجدداً، كلّ إلى طرفه المناطقي المشلول، دويهي إلى زغرتا، وساسين إلى زحلة، وجاء تفجير مرفأ بيروت ليطردهما أكثر فأكثر من قلب العاصمة إلى الأطراف، ولا يجدا مكاناً أو فكرة يتمسكان بطرف ثوبها في زمن ما عاد ممكناً فيه ايجاد مربط انتماء، على ما كتب دويهي ذات يوم من العام 2016 على حسابه الفايسبوكي: “نحن الذين لا يشبهنا السيسي ولا الإخوان ولا يشبهنا العسكر ولا أردوغان  ولا السعودي ولا الحوثي ولا الأسد ولا النصرة ولا حزب الله ولا حزب العمال الكردستاني ولا داعش والحشد الشعبي، أنحن أذواقنا صعبة أم أنه لم يُلحظ لنا في الأساس مكان؟”. كان جبور دويهي يشعر انه شريد الانتماءات السياسية التي راحت تضيق وتطرد كل مختلف من مجالها، ومثله كان ساسين، الذي بدا صوته الحكيم خفيضاً في زمن الضجيج. 

بعد اسبوع تقريباً من تفجير المرفأ، في الثالث عشر من شهر آب/اغسطس تحديداً، أرسلتُ رسالة الكترونية إلى فارس ساسين، بعد محادثة هاتفية طويلة كنا أجريناها قبل الإنفجار بأيام. كنت سألته هاتفياً عن الكتاب الذي اشترك في تأليفه مع غسان تويني عن ساحة “البرج”، وعما اذا كان يعلم من اين يمكن ان اعثر عليه وأشتريه، من أجل بحث جامعي عن الساحة. طال الحديث عبر الهاتف عن ساحة البرج التي شغلتني لشهور سابقة ولاحقة، ولا تزال، وأنا أبحث في الفترة السابقة للحرب الأهلية، اي قبل نيسان/ابريل 1975، عن أسباب الحرب وجمرها المدفون تحت طاولات مقاهي وسط البلد، وتحت كراسي صالات السينما، وفي مقصورات الترامواي وداخل الصناديق الخلفية لسيارات الأجرة. بدأتُ رسالتي بالاطمئنان إلى ان أذى لم يلحق بساسين أو عائلته الكريمة، ثم كتبت إليه مجموعة كبيرة من الاسئلة تتصل بقراءتي لكتابه المشترك مع تويني بعد ان حصلت عليه. وأجابني برسالة طويلة جداً أفاض فيها الشرح وتقديم المعلومات القيمة والممتعة في آن عن الساحة وعن “الباكيتان”، التمثال الذي يمثّل مسيحية ومسلمة تنتحبان على قبر، والذي كان يحتل مكان تمثال الشهداء الحالي في ساحة البرج. وصدّر ساسين رسالته بطمأنتي إلى انه كان في زحلة مع زوجته لحظة وقوع الانفجار، و”شعرنا بهزة الساعة السادسة وراقبنا الغيمة الحمراء المشؤومة”، لكنه أضاف إن ابنته كانت في الجميزة، لكن جروحها كانت طفيفة. اليوم افكّر وأنا أعيد قراءة رسالته، التي تتضمن تفاصيل عن الساحة المتصلة بحبل سرّة بالمرفأ، أن الرجل مات متأثراً بالجراح التي اصابته في انفجار المرفأ. لأن شخصاً مثله، يحكي عن بيروت وساحتها بالشغف الذي لمسته لديه في كتبه كما في ما دوّنه لي في رسالته الالكترونية وفي نبرة صوته أيضاً، لا يمكن ان يحتمل قلبه “الغيمة الحمراء المشؤومة” التي امتدت لتكتم أنفاس لبنان واللبنانيين. 

مات متأثراً بجراح البلد، على بعد أيام من الذكرى الأولى لـ”الغيمة الحمراء المشؤومة”. وبحسرة سريعة ومكتومة على موت صديق عمره، فـ”لولا مفارقة الأحباب ما وجدت/ لها المنايا إلى أرواحنا سبلا”، كما يقول المتنبي أيضاً. وجبور دويهي مات أيضاً متأثراً بجراح البلد، وإن دوّنت المستشفى ان موته كان لأسباب أخرى، مَرضية. قتلا معاً في لحظة حاسمة. قتلهما البلد. لم يطلق احد على كل منهما ست رصاصات كما حدث مع لقمان سليم. لم يقتلا غيلة في سيارة بعد خطف. لكنه كان قتلاً. وكان خطفاً. لم يكن نعاساً، لأنه لم يكن موتاً بين الأهل، بعد ان تفرّق شمل اللبنانيين، أفراداً وجماعات، وصاروا شريدي المنازل الموحشة والوطن المدمّر. 

إقرأوا أيضاً: