fbpx

“افعلها يا ريس”:
كيف أصبحت مطالبة السيسي بالتنحي خيانة!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا شك في أن عبد الناصر سلامة كان يدرك جيداً أن نشره مقالاً يطالب فيه الرئيس بالتنحي لن يمر على خير. لا يستطيع أحد غيره أن يحزر ما دار في عقله حين ضغط على ذاك الزر على الشاشة ليصبح ما كتبه متاحاً للجميع، وإلى الأبد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“لماذا لا تكون لدى الرئيس الشجاعة الأدبية والأخلاقية ويعلم مسؤوليته المباشرة عن الهزيمة الثقيلة أمام إثيوبيا، وإضاعة حق مصر التاريخي في النيل، الأمانة والشجاعة تقتضيان خروج الرئيس إلى الشعب بإعلان تنحيه عن السلطة، وتقديم نفسه لمحاكمة عادلة عن كل ما اقترفته يداه”.

لم يمر المقال الذي نشره الكاتب الصحافي المصري عبد الناصر سلامة على صفحته الشخصية مرور الكرام، في البداية علق البعض على المقال بالعبارة الشهيرة “سلم ع الشهدا اللي معاك!”، للإشارة إلى العواقب غير المحمودة التي تنتظر سلامة، بأنه قد يلقى مصيراً يقترب من الموت. كان صاحب التعليق يعبر عن يقينه بأن كاتب المقال لن يفلت بفعلته. لم تكن تلك بأي حال مبالغة من صاحب التعليق، البعض تساءل عما إذا كان الكاتب عبد الناصر سلامة قد أصيب بالجنون، أو ما إذا كان اليأس الشديد قد بلغ به حد إلقاء نفسه إلى التهلكة. 

لم تكذب الأيام التالية توقعات المشفقين على سلامة، ففي 18 تموز/ يوليو 2021، فبعد أسبوع واحد من نشره مقاله، ألقت قوات الأمن القبض عليه في منزله، ومَثُل في اليوم التالي أمام نيابة أمن الدولة، التي أصدرت قراراً بحبسه احتياطياً 15 يوماً، بعدما وجهت إليه اتهامات بمشاركة جماعة إرهابية أهدافها، وبإحدى جرائم تمويل الإرهاب، ونشر أخبار كاذبة.

عبد الناصر سلامة

عبد الناصر سلامة، هو صحافي أمضى مسيرته المهنية في أروقة الصحف الحكومية، وأصبح رئيساً لتحرير جريدة “الأهرام” العريقة في فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي، ثم عزل من منصبه في أعقاب الإطاحة بمرسي وبحكم جماعة الإخوان المسلمين، بعد 3 تموز 2013. منذ ذلك الحين لم يتوقف سلامة عن كتابة مقالاته التي نشرتها صحيفة “المصري اليوم” حتى وقت قريب، ثم استمر في نشر ما يكتبه من خلال حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك”. ومن خلال هذا الحساب نشر سلامة مقاله الأخير بعنوان “افعلها يا ريس!”، في الحادي عشر من تموز 2021. شن سلامة في مقاله هجوماً مريراً على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وطالبه بالتنحي عن السلطة وتقديم نفسه إلى محاكمة عادلة، على خلفية ما سمّاه الهزيمة، التي لحقت بمصر في مواجهة إثيوبيا، في صراعهما حول سد النهضة الإثيوبي. والذي أعلنت إثيوبيا للتو انتهاء عملية الملء الثاني له، في إجراء منفرد ومن دون التوصل إلى أي اتفاق ملزم مع دولتي المصب، مصر والسودان.

لم تكن قضية سد النهضة هي وحدها ما أشار إليه سلامة في مقاله كمسوغات لمطالبته بتنحي السيسي ومحاكمته، بتهم أدناها الإهمال، وأقصاها الخيانة، على حد قوله، فهو أشار أيضاً إلى التخلي عن جزيرتي تيران وصنافير، اللتين نقلت مصر السيادة عليهما إلى المملكة العربية السعودية في إطار اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وأضاف سلامة:

“التخلي عن حقلي غاز البحر المتوسط، ومياه النيل، وإهدار ثروات مصر على تسليح لا طائل من ورائه، وتكبيل البلاد بديون باهظة لن تستطيع أبداً سدادها، وإشاعة حالة من الرعب والخوف بين المصريين بتهديدهم بنشر الجيش خلال 6 ساعات، وتقسيم المجتمع طائفياً ووظيفياً وفئوياً بخلق حالة استقطاب غير مسبوقة، وسجن واعتقال عشرات الآلاف بمبرر ودون مبرر، وتحويل سيناء إلى مقبرة لجنودنا وضباطنا نتيجة إدارة بالغة السوء لأزمة ما كان لها أن تكون، ناهيك عن عشرات الاتهامات التي سوف تتكشف في أوانها”.

ردود الأفعال على مقال سلامة لم تقتصر بالطبع على إشفاق البعض عليه وتوقع مصيره، فمن جانب تلقفت مواقع إلكترونية مصرية معارضة تعمل خارج مصر، مقاله وأعادت نشره، وفي المجمل حقق المقال نسب قراءة لافتة. وعلى جانب آخر دشن مؤيدو النظام المصري هاشتاغ على وسائل التواصل الاجتماعي، طالبوا من خلاله بمحاكمة سلامة بتهمة الخيانة، وهو ما شاركهم في المطالبة به إعلاميون معروفون بولائهم للنظام ومهاجمتهم الشرسة لمعارضيه. أحد هؤلاء، وهو نشأت الديهي، وصف سلامة في برنامجه “بالورقة والقلم”، بأنه “سافل ومنحط وحقير”! وطالب نقابة الصحافيين بتجميد عضويته وإحالته إلى التحقيق بتهمة الخيانة.

لا جديد في أي من تلك الوقائع. حتى ما إذا أخذنا في الاعتبار أن سلامة هو أول رئيس تحرير سابق لجريدة قومية يتم اعتقاله، فهو في النهاية ينضم إلى عشرات الصحافيين خلف القضبان، أغلبهم إن لم يكن كلهم لم يكتبوا معارضينالنظام بمثل هذا الوضوح، بل إن منهم من ليس محسوباً على المعارضة بالأساس. 

إقرأوا أيضاً:

آلة القمع في مصر أرست بما لا يدع مجالاً للشك، قاعدة واضحة بأن لا مساحة من المرونة ولا أي هامش من التسامح مع أحد، ما يفسر يقين كل من قرأ مقال سلامة في أن مصيره قد تقرر في لحظة نشره له. 

لا أحد شكك للحظة في أن المطالبة العلنية للرئيس بالتنحي يمكن بأي حال التسامح معها. لم يغير من ذلك اليقين أيضاً أن النظام قد أفرج خلال 24 ساعة عن ستة من المعتقلين البارزين، بينهم صحافيون، بل إن أحداً لم ير تناقضاً بين إطلاق سراح هؤلاء وبين اعتقال سلامة في التوقيت ذاته، فلا أحد في الحقيقة يبني الكثير من الآمال على حديث “الانفراجة الحقوقية”، مع أن النظام المصري بدأ على ما يبدو إدخال تعديلات على سياسته في ما يخص ملف المعتقلين. ولكن على عكس المتفائلين، يرى البعض أن التوجه الجديد قد يكون نحو التخلي عن آلية الحبس الاحتياطي اللانهائي، وإطلاق سراح البعض، لكن مع استخدام محكمة أمن الدولة العليا طوارئ الاستثنائية لاستصدار أحكام سريعة وغير قابلة للطعن عليها ضد من ترغب الأجهزة الأمنية في استبقائهم خلف القضبان.

الحديث عن حرية التعبير في مصر، بالنسبة إلى من لا يقتضي عمله منه ذلك، مثل المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، يعد سذاجة مفرطة، فهو حديث عما لا وجود له في الواقع العملي. لا أحد يتمتع بأي قدر من حرية التعبير، حتى إن مؤيدي النظام ومن يفترض أنهم من المقربين منه. الحديث عن المبررات المنطقية للأجهزة الأمنية لاعتقال هذا الشخص أو ذاك، هو أيضاً، يعد عبثياً. لا أحد يمكنه استنتاج معايير هذه الأجهزة أو  أسلوب التعامل الأمثل، بقدر التهديد المفترض. ولكن في المقابل ينبغي أن نتوقف أمام حالة الصدمة غير المفتعلة الناتجة عن اجتراء صاحب رأي على مطالبة الرئيس بالتنحي. الصدمة التي أشير إليها هي أولاً صادقة بالفعل، وتعكس نوعاً من الفزع من الفكرة، ولكن الأهم هو أنها لم تكن قاصرة على مؤيدي النظام وحدهم. بعض معارضي النظام عبر عن اعتقاده بأن هذه المطالبة عبثية وربما تنطوي على خطورة. فكيف يمكننا تفسير هذا الموقف؟

لطالما قدمت الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر نفسها على أن وجودها ضروري لاستمرار بقاء الدولة نفسها. ولكن بإمكاننا القول إنه في معظم الأحيان لم يكن الناس عموماً يأخذون هذا الادعاء على محمل الجد. كانت دائماً هناك مبررات أخرى لعدم رغبة الناس في الإطاحة بأي من تلك الأنظمة، وعادة كان هناك شعور بعدم توفر بديل واقعي أفضل. 

لم يمر في مخيلة المصريين منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة في بداية القرن التاسع عشر، شعور بأن هذه الدولة هشة بالقدر الذي يمكن معه أن تسقط بسقوط نظامها الحاكم. ولكن يبدو أن النظام الحالي قد نجح في استثمار سنوات الاضطراب التي أعقبت ثورة يناير 2011، ليدخل في روع نسبة كبيرة من المصريين، سواء كانوا مؤيدين فعليين له أو مجرد راضين باستمراره على مضض، أو حتى معارضين له، أن تماسك واستقرار، بل استمرار الدولة المصرية نفسه عرضة لخطر داهم في حال سقط نظامها الحاكم. لا شك في أن تكرار الإحالة إلى النماذج السورية، والليبية، واليمنية، ومن قبلها جميعا العراقية، قد نجحت بدورها في مراكمة قدر كبير من الفزع في نفوس كثير من المصريين، الذين يدركون أن انهيار الدولة من شأنه أن يعصف بحياتهم بشكل يجعلها هي ذاتها في خطر.

آلة القمع في مصر أرست بما لا يدع مجالاً للشك، قاعدة واضحة بأن لا مساحة من المرونة ولا أي هامش من التسامح مع أحد، ما يفسر يقين كل من قرأ مقال سلامة في أن مصيره قد تقرر في لحظة نشره له. 

ليس النظام الحاكم وأجهزته الأمنية وحدهم من يفتقدون إلى المرونة العقلية أو العملية، فقد انتقلت عدوى انعدام المرونة وموت الخيال السياسي إلى قطاعات واسعة ليس من المواطنين العاديين وحدهم ولكن من المشتغلين أو المشغولين بالشأن العام أيضاً، والإشكالية في ذلك أن السائد اليوم هو غياب أي أفق لحلحلة الوضع السياسي الذي دخل في حال من السبات والجمود لم يعرفها في تاريخ مصر المعاصر.

 وجود أفق للتغيير حتى وإن كان مستبعداً عملياً، يظل ضرورياً حتى تتاح مساحة ما أو هامش للتفاوض المباشر أو غير المباشر حول حدود للقمع وآليات لتجنيب البعض على الأقل أن يكونوا ضحايا له، ولذا غياب هذا الأفق وموت هذا الخيال لهما انعكاس عملي على أرض الواقع يتمثل في انفلات ممارسة القهر والقمع من أي عقال، وتراجع أي دور داخل مؤسسات الدولة أو خارجها كان يمكن أن يساهم في التخفيف من غلو هذا القمع وتخطيه الحدود كلها.

لا شك في أن عبد الناصر سلامة كان يدرك جيداً أن نشره مقالاً يطالب فيه الرئيس بالتنحي لن يمر على خير. لا يستطيع أحد غيره أن يحزر ما دار في عقله حين ضغط على ذاك الزر على الشاشة ليصبح ما كتبه متاحاً للجميع، وإلى الأبد. ولكنني أفكّر إن كان سلامة أدرك المفارقة في العنوان الذي اختاره لمقاله، فهو عنوان يحمل رسالة تحد لأقوى رجل بمصر.

إقرأوا أيضاً: