fbpx

نحن الذين لم نمت في 4 آب 2020

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ماذا نفعل نحن الذين لم نمت؟ سؤال أراه على وجه كل من أعرف وكل من ألتقيه صدفة. سؤال نسأله ونحن ننتظر اجابة من أحد. ولمدة عام، خجلنا نحن الذين لم نمت من سؤاله.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد أقل من أسبوع، سيصادف مرور 365 يوماً على ذلك اليوم، يوم بقينا أحياء ولكننا عجزنا بعده عن الحياة. 

صدفة حالت دون موتنا أنا وزوجي وأهلي و زميلات وزملاء وأصدقاء كثر أحبهم ويحبوني. صدفة انقضّت على الحدّ الأدنى من الأمن النفسي الذي نصارع لأن نحافظ عليه أو نصطنع وجوده. صدفة جعلتنا نحن كأفراد ومجتمع مشرَّعي الأبواب لكل أنواع العنف والعدوان، شريدو المنازل كما كان سيقول الروائي جبور الدويهي والذي رحل عنّا هذا الشهر. وهذه الصدفة-الفاجعة، تجبرنا أن نصطنع المشاعر الإيجابية تجاهها، كأن نشعر بالامتنان مثلا لأن خسارتنا أقل عندما نقارن أوجاعنا بأوجاع غيرنا وعندما نواجه سيل الاحتمالات المفتوحة على ال”ماذا لو”. 

ماذا لو كنت في مكتبي؟ ماذا لو كنت ما زلت أنا وعائلتي في وسط بيروت، وكنا قد غادرناها الساعة الخامسة والنصف مساء 4 آب 2020؟ ماذا لو كنا نجلس في البلكون والذي تحوّل الى مستودع زجاج، فقد حطّ كل الزجاج المتطاير من البنايات المجاورة عندنا؟ ماذا لو كنت قد أخذت ابنتي لركوب الدراجة في المنطقة المحيطة بالمرفأ؟ سيل من الـ”ماذا لو” جعلني أرتبك أمام هذا الانفجار-المجزرة، ارتباك أجبرني أن أطوّر شعوراً بالامتنان لهذا الانفجار-المجزرة-الصدفة لأنه(ا) أعفاني أنا وعائلتي من فاجعة أكبر. 

ولكنها صدفة أبقتنا حيث نحن معلّقين ما بين الموت والحياة كما يردد الكثير من الأصدقاء. هل تذكرون كيف دخل عصف الانفجار إلى البيوت من خلال الأبواب والشبابيك؟ أصبحنا نشبه هذا المنزل الذي يتعرّض للعصف بشكل متواصل من دون أي رقيب أو حسيب. نستقبل العصف لأننا لا نملك خيار عدم استقباله، عصف لا يحترم حرمة البيت ولا أية خصوصية، يعبث في الماضي والحاضر ويتعدى حتى على المستقبل، أو بالأحرى لا يتعدى إلا على المستقبل، مستقبلي ومستقبلنا ومستقبل مدينتي بيروت. 

أجدني أتفادى مشاهدة أي فيديو عن الانفجار-المجزرة. ورغم قساوة الصور، إلا أن الانفجار أعاد للصوت سطوته. 

هل تعرفون الهمس؟ حتى الهمس أصبح مثيراً للريبة. كل همس هو صوت مكتوم من تحت الأنقاض، هو دمعة خانقة يكتمها أفراد العائلة وهو مقدمة صوتية للانفجار. في يوم 4 آب 2020، أكاد أجزم أنني سمعت همسا قبل هذا الصوت المدوّي والذي لحقه صمت مريب، ما خلق لدي شعوراً غريباً تجاه الصوت والصمت معاً فإلى أين أهرب؟ 

لم أنتبه لسطوة الصوت إلا من خلال ابنتي وكانت قد أتمت الثلاث سنوات وقتها. في الأيام الأولى لما بعد الانفجار-المجزرة، أخبرتني أن حفيف الأشجار يخيفها، قالت تحديداً أن الأشجار تخيفها، وعندما استغربت وقلت لها أنها كانت تحب الأشجار، أوضحت أنها لا تحب الصوت الصادر عنها، وأشارت من نافذتها إلى الأشجار موضحة أنها تصدر صوتاً مزعجاً عندما تتحرك مع الهواء. حتى أمواج البحر. أذكر أننا قصدنا البحر شمالا بعد أسبوعين، وهذا المشوار لم يسعد ابنتي على غير عادة، فهي انزعجت من صوت الأمواج عند ارتطامها بالصخر ووصفت الصوت بأنه “ضجة مخيفة” وطلبت مني أن أطلب من البحر أن يصمت. وأنا كأم، وددت لو أستطيع أن أصمت البحر، فكيف أشرح له أنه على الرغم من أنه حمانا من فاجعة أكبر، ولكننا أصبحنا نخاف صوته وصمته في نفس الوقت. 

هذه هي المرة الأولى التي أكتب فيها عن الانفجار-المجزرة الجماعية التي تعرّضنا إليها وما زلنا نعيش تبعاتها بلغتي. كتبت أكثر من مرة عن الموضوع بالانكليزية، لغة أستطيع أن أسيطر فيها أكثر على الجزء العاطفي من دماغي، فأكتب مثلا عن الفساد مستندة الى مؤشرات تحليلية تمّ تطويرها من قبل مراكز أبحاث ومؤسسات دولية وعن ظاهرة الدولة الفاشلة. لم أكتب بلغتي الأم لأنني أم، وانفجار-مجزرة 4 آب 2020 جعلني أما هشّة، ومع هذه الهشاشة، أصبحت لغتي الأم أيضا هشّة. أضعت كل قدرتي على التعبير اللغوي، لا أجد الكلمات والعبارات والصور المجازية المناسبة، وما زلت لا أعرف كيف استرجعها. وما كتابتي اليوم سوى محاولة بائسة مني أن أسترجع لغتي الأم. 

إقرأوا أيضاً:

ماذا نفعل نحن الذين لم نمت؟ سؤال أراه على وجه كل من أعرف وكل من ألتقيه صدفة. سؤال نسأله ونحن ننتظر اجابة من أحد. ولمدة عام، خجلنا نحن الذين لم نمت من سؤاله. تركنا المساحة للضحايا وأهلهم وأصدقائهم وصورهم وأصواتهم وقصصهم وأخذنا زاوية لنا في منزلنا. انكفأنا الى الداخل وأحسسنا بواجب الامتنان إلى الصدفة والحظ والله (لمن يؤمن) وشعرنا أن إعفاءنا من الموت وبقاءنا على قيد الحياة هو نعمة وأي مقاربة متناقضة أو تشكيكية يعني أننا لا نستحق هذه النعمة. 

يقع منزلي على بعد 9.2 كلم من مرفأ بيروت (وفق حسابات خرائط غوغل)، ولم يتضرر باستثناء ألواح الزجاج التي تطايرت صوبه. إلا أنني لا أستطيع أن أسكت صوت الصديق نزار غانم عندما صرخ قائلا “ناس عم تموت متل الصرامي متل البرغش”، وأشعر أن هذا التعبير أيضا يشملني بصورة أو بأخرى. يشملنا جميعاً نحن الذين لم نمت.

لا أعلم ماذا سنفعل نحن الذين لم نمت. أو بالأحرى لا أعرف أين نحن الآن. البارحة سألتني صديقة وزميلة كانت تقود سيارتها بجانب المرفأ عندما انفجرت المدينة فوجدت نفسها تدخل سحابة الفطر النووية إن كنت أتذكر عمّا كنا نتحدث قبل الانفجار-المجزرة. قالت أنها لم تعد تتذكر كيف كانت حياتها-حياتنا قبل عامين مثلا. 

مؤخرا، أصبح جزء كبيرا من أحاديثنا عن الأوجاع التي نشعر بها (رأس، قلب، مفاصل، تنميل، الخ) وعن القلق الذي يأكل ليس فقط من مستقبلنا ولكن أيضا من ماضينا القريب ومن ذاكرة مدينتنا والتي لم نعد نعرف كيف نتعامل لا مع أصواتها ولا مع صمتها. 

إقرأوا أيضاً: