fbpx

هذا الفخ اللعين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يجدر بك العودة لكتابة القصيدة الأولى كل ليلة وحيدا في صنعاء الا من أعاصيرك التي اقتلعتك من الوجود الممكن حيث كان بوسعك جني النقود وبناء دورين في قرية الحضارة عوض النضج…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ ألقيت أول قصيدة كتبتها وأحسست أن من حولي منبهرين شعرت أن عليّ أن أبقيهم كذلك.

كانت القصيدة حينها تحكي أنني في الوغى سأكون هزبرا وفيها بعض من عنترة بن شداد. كنت في الصف الثاني إعدادي وختمت القصيدة بما يشبه التحدي الذي سرقته تماماً من عمرو ابن كلثوم : “الا لا يزنطن احد علينا فنزنط فوق زنط الزانطينا”، وغمزت للذي يحبّ المعلقات ان هذا التلاعب في الكلام يقع تحت خانة ” الخصوصية اليمنية “. لا أذكر الى الآن ممن سمعتها بالضبط من تلفزيون صنعاء. أذكر فقط أنه كان يرتدي قبعة فوق البدلة ومصاب بالحازوقة، أو تلك السعلة المرتدة. 

انبهروا كالعادة وبقيت أشعر وكأني أجمد نظراتي واترك شعر راسي بلا تصفيف لأبدو لنفسي عميقاً ولا مبال مثل الشعراء، لكن في حقيقة الأمر هو كسل معروف عني لدى المحيطين بي، وكانت امي تحدق في جلستي الكسولة مرددة حديثا لم يرويه أحد غيرها “إن الله لا يحب العبد السبهلال”. 

لم ترقني عبارة “السبهلال” تلك فرحت امشط شعري واتحدث عن قيم العمل والنشاط ولم يصدقني أحد او ينبهر فعدت للشعر: 

“أيا قرية الريح والانتظار، مضى العمر واستنزفتنا المعاول 

نقاتل وجه الشتاء الغضوب، ويبقى الشتاء ونبقى نقاتل” 

قصيدة طويلة، وعنها تسائل  ابن عمي حسن الحاج، وهو كان مرجعية ادبية تلك الحقبة فهو يعمل في مكتبة في السعودية. تسائل : من تقصد بـ قرية الريح، الدنوة ؟ استاء كثيرا وعلا صوته ضدي في المجلس بينما كانت الريح تطوح ستائر النوافذ. قال لي إنه كان يفترض ان اقول: قرية الحضارة. اعتذرت لحسن وفي المساء استجمعت رياح الليل قوتها واستعرضت عصفها ما بين البيوت. من جانبي كنت أتدرب على تلك العلاقة الغامضة المتوجسة بين الكاتب والمكان. شيء مختلف نقلني من العيش على وقع إبهار الآخرين إلى تبادل الاسرار مع الريح وتلك النغمة المتواطئة بين الصوت والأعاصير التي داخلي، نرقص معا وأمضي الليالي على إيقاعها. الى الآن علقت في تلك الرقصة حتى حين لا يعود هناك من ريح يهبّ في عالمي أجدني أعتمد على اعاصير نفسي حتى فقدت التوازن . 

هي مقايضة جيدة، فأنا الإبن الأوسط في العائلة، ومن هذا حاله يتغابى إزاء استبعاده من التدليل الذي يناله الابن الأكبر والأصغر. بتلك الوسطية والاعتيادية في كل شيء كان علي أن أبهر من حولي، و أتميز على نحو أو آخر. هذه ليست شكوى، إنه بيان مقتضب لم يطلبه مني أحد.

هكذا وقعت في فخ الكتابة. 

لم يتغير شيء، لا زلت ذلك العبد السبهلال، غير أن اعاصيري لم تهدأ بعد .

أدرك الآن لماذا قال كمبروفتش: اقرأ ما اكتب، انني متهكم محرض ماجن وبهلوان، لا يسعني غير ان اروق… 

ومقولة كمبروفتش هذه استحضرتها ليشهد معي الروائي البلقاني على حتمية أنه لا يسع أحدنا إلا ان يروق، وإن كان مزاجي اقرب لانطواء حلزون على نفسه لا يريد أن يلمسه او ينبهر به احد. 

في “الدنوة” تعلمت الوجود على حساب الانفعالات التي كانت تمدني بها الريح واغواءات دفئ الدهاليز في الشتاء، وكنت اجيد تحويل ذلك كله إلى كلمات 

بلا ذاكرة وبلا نوافذ متحررة من مخاوف الطفولة والسياسة، بلا ملامسات أولى في ذروة الصقيع. 

يجدر بك العودة لكتابة القصيدة الأولى كل ليلة وحيدا في صنعاء الا من أعاصيرك التي اقتلعتك من الوجود الممكن حيث كان بوسعك جني النقود وبناء دورين في قرية الحضارة عوض النضج، إذ يمكنك أن تنضج لو لم تقع في فخ الكلمات، الكلمات وهي تبقيك ذلك الطفل الذي يرفض أن يكبر ، ووحدهم الأطفال يظلون مندهشين على الدوام حتى وهم يعترفون بأشياء عادية لا تهم أحدا، لكنها طريقتهم وحيلتهم في البقاء . 

أظنني لا زلت حتى في هذه على قيد العمل في الإبهار ، لكن من صنعاء حيث لا ريح قادمة من كهوف الأبدية وحيث السطح لا يخصني ولا يقدم لي ذلك الليل الذي أنشده، حتى الكلب يعوي في الأسفل فهو يفعل على سبيل التبطل، وليس ذلك العواء الليلي من قلب العتمة وتوجس الكائنات . 

لكن ثمة ما يكفي من هواجس للإلهام وايمائة لحسن الذي اكتهل في الغربة ولم يتوقف بعد عن إبداء امتعاضه من الإساءة لقريتنا بأنها قرية الريح، 

وأظنه لم يتوقف الى الآن عن هز رأسه ممتعضا، وأقول: حسنا، انها قرية الحضارة، لكن رياحها لا تكف تلاحقني كل ليلة تحاول اقتلاعي من حيث الوجود في اللامكان .

لم يتغير شيء، لا زلت ذلك العبد السبهلال، غير أن اعاصيري لم تهدأ بعد .

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!