fbpx

الوجه الخفي للاطائفية العراقية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تشرعنت الطائفية المضادة عبر سياسيين يدّعون الوطنية في خطاباتهم، فصارت الهوية مطمورة في هذه الأصوات النشاز، وفقد الناس الأمل بأي تغيير حقيقي وأي استعادة عميقة لراية الوطن. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

إبان تضخم الطائفية في عراق ما بعد 2003، اختفى الاحتراب الطائفي المسلح على حين غرة في حقبة ما، بعد سنوات وجيزة من الاقتتال، فجأة صارت الطائفية مدانةً شعبياً بعد الويلات التي نزلت على المجتمع العراقي عموماً، والمخلفات الخطرة التي أودت بالأسس المجتمعية إلى براثين الانحلال وعدم التماسك. 

فجأة بعد سنوات قليلة، بعد ما خلفته من كوارث وفجائع وما سببته من خراب للمجتمع العراقي امتد إلى العائلة الواحدة والبيت الواحد، خفت صوت الطائفية الداعي إلى الحرب والتناحر، لكنه بقي كالرماد الهادر المنبعث بخفية في النفوس. 

لم تختفِ الطائفية فعلاً، لكنها غيرت إيقاعها ليعلو صوتها بمسحة أكثر “وطنية”. 

عمل المشغولون بالهم “الوطني” بعد ذلك في الكشف عن هذا الاختفاء الفجائي، وراح كل واحد منهم  يرجح سبب الاختفاء إلى أمور شتى كلها تنظر إلى القضية من زاوية أبعد ما تكون من طبيعة الأزمة التي كانت دائرة. هناك من أرجأ الأسباب إلى أمور عسكرية اتخذتها الدولة والبعض فسرها حتى بإنجازات رياضية، لكن ما غفل عنه كثر هو أن مخرجات الطائفية من تقاسم محاصصاتي على الغنيمة السياسية، كان هو الدافع الأكبر على هذا “الصلح” العدائي الذي يمكنه أن يُنْكَأ بأي خلاف ناشئ بين الفرقاء الذين يسمون زوراً “سياسيين”، خصوصاً في قبيل كل دورة انتخابية. 

في زمان الطائفية والطوائف المتحاربة، كانت الجماعات تشهر الأسلحة علناً، لعدم إيجاد صيغة لتقاسم الغلة، فكان الركون إلى تقسيمة مناطقية ودينية تساعد على  إيجاد أوراق ضغطٍ للدفاع عن تجذيرٍ معينٍ  له صبغة الدين أو المنطقة أو العشيرة. 

على رأس هذا التصالح الضمني، يأتي القبول بالتقاسم المحاصصاتي الذي ينشأ بين هؤلاء الفرقاء، والعملية الانتخابية ما هي إلا زخرفة شكلية جوفاء لإضفاء بعض التزويق والتشذيب على هذا الوجه الطائفي. 

العملية الانتخابية هذه تمدنا بالعون على العشائرية الدينية والسياسية، وهذه الإضافة ليست سياسية، بل هي جرٌ للميدان السياسي إلى فضاء غير سياسيٍ أبداً، لكنه يتسق مع البؤر اللاسياسية المسيطرة على الفضاء السياسي. 

الحدث الأبرز الذي كشف عن وجه هذه الطائفية المضادة هو ما حدث مع إحدى القنوات الإعلامية، حين قامت ببث إغانٍ في شهر محرم في اليوم العاشر منه من السنة المنصرمة، وتصادف في هذا اليوم ذكرى وفاة الحسين بن عبد الله كما هو معروف، والقناة هذه تحسب على فصيل سياسي (سني)؛ سرعان ما اشتعلت النعرة الدينية وتم تناسي كل الحسنات التي يفترض أنها مصاحبة للنظام الديموقراطي. فتحركت جماعات تحسب على فصيل شيعي وأشعلت النار في مبنى القناة، وما كان من صاحب القناة إلا أن استدعى صراعات تاريخية معتقة، وأدان الفصيل الآخر بأنه يسب عائشة بنت أبي بكر، بدل الحفاظ على وجه الصراع المتمدن/ السياسي. ركن كل واحد من الطرفين الى تخندقه الطائفي وكشف عن وجه مستتر خلف حرية التعبير. 

وصفنا هذه البؤر الجماعية بأنها غير سياسية، لكونها لا تعمل في السياسة حقيقة، وإنما هي تشتغل اشتغالات أجنبية وتدخل بالتزامات قبلية كما أسلفنا، وتُسَيِّرْ هذه العملية السياسية، لكن القبول في العملية الانتخابية هذه يشترط النفس الوطني، والمناداة بالهوية العراقية و”رفع” راية العراق عالياً. لذا هذا الخنوع الذي يتمظهر عند الجماعات “اللاسياسية” (الوطنية) هو حركة استراتيجة لتمرير أجندات، تسير بالضد من الهوية الوطنية الجامعة بل وتساعد على زيادة انسلاخها وتفريغها من محتواها بأي هزة يمكن أن تحدث، فسيرورة العمل بعد ذلك تكون من طريق تثبيت هذه الجماعات وجودها وعند تثبيت نفسها بوساطة القبلية اللاسياسية، عبر إيجاد فسحة لها في ظل الصراع الديني، فتبدأ بالعمل “اللاسياسي” في فضاءات تفترض أنها سياسية. 

في زمان الطائفية والطوائف المتحاربة، كانت الجماعات تشهر الأسلحة علناً، لعدم إيجاد صيغة لتقاسم الغلة، فكان الركون إلى تقسيمة مناطقية ودينية تساعد على  إيجاد أوراق ضغطٍ للدفاع عن تجذيرٍ معينٍ  له صبغة الدين أو المنطقة أو العشيرة. انطلاقاً من هذه الترسيمة حدث الاحتراب، ثم تغيرت الوسيلة من دون أن يتغير الهدف. 

إقرأوا أيضاً:

خفت صوت الخطاب الديني المباشر، لكن الترسيمة الشعبية التقسيمية لشعب واحد بناء على اعتبارات غير وطنية بل طائفية، استمرت ماضية في جسد المجتمع. تغير السلاح وتغير الخطاب التجييشي، لكن الجمهور المنفصل عن بعضه بعضاً تحت شعار الطائفة، ما زال بهذه الانفصالية التي اِنبثقت من ذاك الاحتراب الدائر، إبان فترة ما بعد السقوط. في ظل هذه الترسيمة بمخلفاتها وتبعاتها، تولد الخطاب “الوطني” الذي هو خطابٌ طائفيٌ في صميمه، لكنه بعلانيته يَدَّعي المواطنية. 

بعد حين عندما اختفت هذه النعرة، بقبول الدخول إلى العملية السياسية والتوافقات القبلية العشائرية اللاسياسية، وبتغير السلاح الموجه “للآخر” الذي يفترض أنه شريكٌ وطنيٌ على هذه الأرض، تولدت هذه الطائفية المضادة بهذه التفاصيل التي زادتها الحرب الطائفية المستعمرة زخماً. وتسيدت جماعات ورفعت شخصيات وفتحت قنوات لا لكونها صاحبة موقف وطني بل لأنها تعتمد في خطابها على هذه الطائفية المضادة التي تبرز بأقل نكأة، فحتى لو لم يحصل حدث يظهر هذا الوجه الطائفي، فإن جمهوره يفترض أنه ينتمي اليه وسيعبر عن لسانه الطائفي تجاه الآخر! 

تشرعنت الطائفية المضادة عبر سياسيين يدّعون الوطنية في خطاباتهم، فصارت الهوية مطمورة في هذه الأصوات النشاز، وفقد الناس الأمل بأي تغيير حقيقي وأي استعادة عميقة لراية الوطن. 

إقرأوا أيضاً:

إقرأوا أيضاً: