fbpx

عقد على قضية التمويل الأجنبي…
حرب بلا نهاية على المجتمع المدني المصري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

خدع وقوانين وتصريحات وقرارات ومعركة بلا نهاية ستشهدُ موجة عنيفة مطلع عام 2022، الموعد النهائي لتسجيل جميع جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، ومن يتخلف يصبح في مواجهة مباشرة مع الدولة والقانون والقضاء…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المجتمع المدني في مصر معطَّل ومطارد منذ 10 سنوات تحت مسمّى “القضية 173 لعام 2011“، المعروفة إعلامياً باسم “قضية تمويل منظمات المجتمع المدني”، وهي النموذج الأكثر وضوحاً للعقاب الجماعي للعاملين في المجتمع المدني. والإفراج عن عدد من المعتقلين البارزين في مصر لا ينهي قمع الحريات، ولا يعني أن القاهرة أصبحت ديموقراطية. 

تحوَّلت “القضية 173 لعام 2011″، من قضية منظورة في المحكمة إلى جناية مُزمنة يُعاد فتحها كلما أرادت السلطات جَلْد المجتمع المدني، أو تعذيبه، أو ردعه لقيامه بأي تحركات دولية، من شأنها إشعال النار في النظام السياسي المصري، وطوال السنوات العشر الماضية، مرَّت القضية بمحطات، تدهورت خلالها المنظمات الحقوقية إلى أبعدِ مدى، وتحوّل بعضها إلى مكاتب محاماة واستشارات ومراكز أبحاث، وتخلّت عن دورها قسراً، وخرجت المكاتب والجهات الأجنبية من مصر تدريجياً.

في الفترة الأخيرة، تمّ استدعاء محامين وحقوقيين “ممنوعين من السفر بالأساس”، للتحقيق معهم في القضية، على رغم مرور 10 سنوات عليها، وأحدثهم الحقوقية مزن حسن مؤسسة مركز “نظرة”، والحقوقي المصري جمال عيد، مدير “الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان”، المتحفظ على أمواله والممنوع من السفر على خلفية القضية.

تلقى مدير “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، حسام بهجت، أيضاً استدعاءً رسمياً إلى مكتب النائب العام، في حزيران/ يونيو الماضي، للتحقيق معه في تغريدة كتبها، العام الماضي، لتصبحَ القضية الثالثة التي يتم تحريكها ضد بهجت بسبب نشاطه الحقوقي أو عمله الصحافي حتى الآن، فسبق اتهامه في القضية العسكرية رقم 14477 بسنة 2016 بشأن تحقيق صحافي، والقضية الثانية هي “173 لسنة 2011” بسبب عمل “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية” وأنشطتها، ويخضع لقرار بمنعه من السفر أو التصرف بأمواله، ويبقى حتى الآن “على ذمة التحقيقات” كعشرات الحقوقيين الآخرين، ومنظمات المجتمع المدني، لتتحول القضية إلى “مذكرة تاريخية” لمعركة الحقوقيين المصريين، التي تبدو بلا نهاية.

كان هذا العام قاسياً على المجتمع المدني.

حرب استنزاف مستمرة.. كيف يدفع الحقوقيون المصريون الثمن باهظَا؟

تتعامل السلطات المصرية مع المجتمع المدني كعدو يجب إرهاقه طول الوقت، في معارك جانبية وحروب استنزاف على جبهات عدة، حتى يفشل في التفرغ لمعركته الأساسية. 

تحاصره قانونياً وتشريعياً وأمنياً، وتأمر إعلامها بتشويه منظماته وجمعياته ومراكزه، وتوجّه القضاء باستدعاء رموزه من دون أسباب، وإنهاك نشطائه بأحكامٍ مشدّدة، وتأجيلات للقضايا، وقرارات منع السفر وتحفظ على الأموال، فعام 2015، ألقي القبض على هشام جعفر، رئيس مجلس أمناء “مؤسسة مدى للتنمية الإعلامية”، والمعنية بقضايا الحريات الإعلامية ومناهضة العنف، واتهمته نيابة أمن الدولة بـ”الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين وتلقي رشوة دولية”، وألقي القبض على المحامي أحمد عبد الله، رئيس أمناء المفوضية المصرية للحقوق والحريات، واستدعي نجاد البرعي وجمال عيد وحسام بهجت وآخرون للتحقيق عشرات المرات، والحجة المستمرة هي قضية التمويل الأجنبي.

وتعود القضية إلى أيلول/ ديسمبر 2011 حين اتهمت النيابة العامة 43 مواطناً مصرياً وأجنبياً من العاملين في منظمات غير حكومية مصرية وأجنبية بـ”إدارة منظمات غير مرخصة والحصول على تمويلات من حكومات أجنبية دون موافقة الجهات الرسمية”، وأمرت السلطات بحظر سفر جميع المتهمين. 

أثارت القضية جدلاً دولياً أزعج المجلس العسكري الذي كان يدير شؤون مصر، في ذلك الوقت، فأوحى إلى جهات قضائية بإصدار قرار جديد برفع حظر السفر عن المتهمين الأجانب. كان عددهم 17، وسريعاً ما غادروا مصر على متن طائرة أميركية خاصة انطلقت من مطار القاهرة لتكشف عورة الحكام الجدد. 

النائب مصطفى بكري تقدم بطلب إحاطة عاجل في مجلس الشعب للتعليق على ما حصل، واستنكرت حركة “6 أبريل” ما وصفته بـ”التدخل الفج في السلطة القضائية”، وذكرت شبكة “فوكس نيوز” الأميركية، أن “قضية المنظمات كانت منذ بدايتها مسيسة ولا دخل للقضاء المصري بها، فالمجلس العسكري كان يلقي بتهمة فشله في إدارة المرحلة الانتقالية في مصر على الأطراف الخارجية”. 

غادر الأجانب وبقيَ المصريون “المتهمون” يدفعون ثمن القضية حتى الآن 

اختفت القضية عن الساحة قليلاً، وبَدَت مساومة للولايات المتحدة لأجل توجيه الأموال الأميركية العائدة إلى مصر بالكامل إلى المعونة العسكرية والاقتصادية، وظلت متداولة في قاعات المحاكم. كان عدد المنظمات المتهمة كبيراً، وحتى لا يدّعي أحد أنه قرار سياسي أو انتقامي، لم تكتفِ السلطات بإدخال المنظمات السياسية فقط، إنما ضمّت تلك المهتمة بالتعليم والصحة والبيئة والمرأة… وفي كل عام كانت تضم أسماءً جديدة حتى أصيب المجتمع المدني بشلل كامل.

وعام 2013، تلقى عدد من المتهمين حكماً بالسجن لمدد تراوحت بين سنة و5 سنوات، وقضت دائرة قضائية بإغلاق مكاتب المنظمات غير الحكومية الأجنبية التي أدرج عاملون بها في القضية، وهي “المعهد الجمهوري الدولي” و”المعهد الوطني الديمقراطي” ومؤسسة “فريدوم هاوس” والمركز الدولي للصحافة ومؤسسة “كونراد أديناور” لتفهم بقية المكاتب التابعة لمنظمات أجنبية الرسالة، وهي أن موظفيها في خطر، وقد يصدر قرار بالإغلاق قريباً، فلملم بعضها أوراقه وأغلق مكاتبه، فعلى سبيل المثال، نقلت منظمة “فريدريش ناومان” مكتبها الإقليمي إلى العاصمة الأردنية عمان.

استمرت التحقيقات طوال عامي 2014 و2015، وتمّ تجفيف منابع التمويل الأجنبي تماماً، مع استدعاء منظمات ووجوه جديدة تعمل في مجال حقوق الإنسان والحريات للتحقيقات، قبل صدور قرارات المنع من السفر والتحفظ على الأموال، في ما يشبه الحرب المفتوحة على المجتمع المدني، وكان عام 2016 فاصلاً.

إقرأوا أيضاً:

2016 وأحكام سجن “مفتوحة المدة”!

سار الحقوقي حسام بهجت باتجاه مكتب الجوازات في مطار القاهرة في 23 شباط/ فبراير 2016. كان متجهاً إلى الأردن للمشاركة في اجتماع للأمم المتحدة، إلا أن سلطات المطار فاجأته بقرار منعه من السفر “بناءً على أوامر النائب العام”. 

عاد بهجت ليكتشف أنه ليس وحده، شملت قوائم المنع من السفر 12 من مديري بالمنظمات الحقوقية ومؤسسيها والعاملين فيها. في شباط أيضاً، مُنع المحامي الحقوقي جمال عيد من السفر، وفي أيار/ مايو وحزيران/ يونيو وتموز/ يوليو، عرف الحقوقيون محمد زارع وهدى عبد الوهاب ومزن حسن وناصر أمين ورضا الدنبوقي، أنهم ممنوعون من السفر أيضاً.

جمِّدت أموال بعض منظمات المجتمع المدني، وفي مقدمتها “مركز الأندلس لدراسات التسامح ونبذ العنف”، الذي يديره الحقوقي أحمد سميح، واعتمد الحكم على شهادة ضابط في وزارة الداخلية بأن “المركز استقبل أموالاً أجنبية، مقابل نشر معلومات خاطئة تستهدف الإضرار بصورة مصر ونشر الفوضى وإضعاف مؤسسات الدولة، كادعاءات كاذبة بشأن وجود تمييز ضد المسيحيين والبهائيين بهدف الإضرار بالأمن القومي وتشويه صورة البلاد”.

وبدأ، في ذلك الوقت، إعداد قوائم جديدة لمنظمات معرضة للملاحقة، إلى جانب استهداف 12 جهة من المجتمع مدني، ما بين شبكة ومبادرة ومركز حقوقي، بالمنع من السفر وتجميد الأموال الخاصة بالمنظمة، أو الحجز على أموال مديريها، أو حبس مؤسسها أو مديرها، لتصل القضية 173 إلى هاوية غير مسبوقة في إغلاق المجال العام، وحصار المجتمع المدني، الذي تخلى عن جميع أدواره، وتفرّغ قادته للدفاع عن أنفسهم في ساحات المحاكم.

 وسط حملات تشويه وتخوين أغرقت الصحف بالتسريبات الأمنية والأكاذيب خرج  باحث نشر كتاباً بعنوان “الاحتلال المدني” عن المنظمات الحقوقية، لا يمكن لمن يقرأه ألا يشكّ أن مادته، التي تحتوي على تفاصيل اجتماعات حقوقية ولقاءات سرية واتصالات هاتفية وإيميلات ونميمة، من إعداد جهاز أمني لديه القدرة على التنصّت على الهواتف وزرع المخبرين والحصول على اعترافات متهمين. 

كان هذا العام قاسياً على المجتمع المدني. في المحاكمة الأولى، ركزت القضية على 4 منظمات أميركية ومنظمة ألمانية، أمَّا الشق الثاني، الذي شهده عام 2016، فاستهدف المنظمات المصرية وانتهى بإغلاق بعضها، والتحفظ على الأموال والمنع من السفر، وأحكام سجن “مفتوحة المدة”.

المادة 78 من قانون العقوبات الخاصة بهذا النوع من القضايا كان حدها الأقصى 5 سنوات سجناً، حتى تم تعديلها لتلائم المتهمين الجدد لترتفع العقوبة إلى السجن المؤبد، وتوالت الاستدعاءات والإخطارات والقرارات القضائية بحق المنظمات المصرية بوتيرة أسبوعية، ليغادر من يستطيع في خطوات استباقية، ويقع من لا يستطيع تحت القبضة الحديدية ليضطرَ للبقاء في مصر من دون أموال، ومن دون عمل أحياناً “في حالة العاملين في المنظمات التي أُغلقت”، وظلَّ المجتمع المدني مجمَّداً في انتظارِ صدور قانون جديد ينظم عمله، كما وعدت الحكومات المتعاقبة، ربما لمجرد التهدئة ومداعبة الخارج.

تتعامل السلطات المصرية مع المجتمع المدني كعدو يجب إرهاقه طول الوقت، في معارك جانبية وحروب استنزاف على جبهات عدة، حتى يفشل في التفرغ لمعركته الأساسية. 

البحث عن قانون للجمعيات الأهلية في الأمم المتحدة

في عهد الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، كان الدستور يسمحُ للجمعيات ومنظمات المجتمع المدني بالتأسيس “عن طريق الإخطار”، ورغم أنّ القانون لم يكن يتوافق مع الدستور، إلا أن الأمر كان ممكناً حتى بلغ عدد المنظمات المسجلة عام 2010 بلغ 26 ألفاً.

قبل الجولة الثانية من قضية “التمويل الأجنبي”، التي انطلقت عام 2016، ادّعت الحكومة المصرية أن هذه المنظمات تعمل بشكلٍ غير قانوني، حتى تبرِّر الحملة الممنهجة ضد قياداتها، إلا أن الادعاء لم يكن حقيقياً. 

طبقاً لقانون الجمعيات رقم 84 لسنة 2002، تعمل المنظمات وفق إطار قانوني كشركات محدودة المسؤولية أو مكاتب محاماة أو عيادات متخصصة تلتزمُ بقوانين الضرائب والعمل، وتمارس دورها بشفافية في ما يتعلق بأي تمويل تحصل عليه، وتقدم تعاقداتها مع الجهات الداعمة للبنوك، حتى تصبح أموالها تحت رقابة البنك المركزي،  لتتمكّن من الحصول على التحويلات. 

وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، أعلنت الحكومة المصرية التزامها بتعديل قانون تنظيم العمل الأهلي وتأسيس الجمعيات في أثناء الاستعراض الدوري الشامل للملف الحقوقي المصري أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، في الوقت الذي كانت تدفعُ فيه القاهرة في اتجاه الانتقام من المنظمات الحقوقية.

وحتى الآن، لم تقدم الحكومات المصرية تعديلاً لقانون الجمعيات الأهلية يتناسب مع الدستور أو القانون الدولي، الذي يرى أن تكوين الجمعيات “حق مكفول والحكومات ليس لها الحق في الإصرار على التسجيل بموجب قانون بعينه”، بل توسَّعت في إغلاق منظمات المجتمع المدني بطرقٍ ملتوية، فعام 2016، أرسل حي الأزبكية بالقاهرة مندوبين لمركز النديم لتأهيل ضحايا العنف لتنفيذ قرار إغلاق، بسبب “مخالفة التراخيص”. اعتصم العاملون في المركز داخله، ورفضوا إخلاءه. اتصل المندوبان بوزارة الداخلية لإخلائه وغلقه، وعلم محامي المركز، في ما بعد، أن الإغلاق كان بناءً على قرار من مجلس الوزراء.

كل شيء ممنوع!

عاش المجتمع المدني 8 سنوات في انتظار تصريح السلطات المصرية بكلمتها ليعود إلى ممارسة عمله. وكلمتها هي القانون الذي ينظم نشاط العمل الأهلي، الذي صدر أخيراً عام 2019، ويلزم جميعَ الجمعيات والمنظمات بالتسجيل بحلول كانون الثاني/ يناير 2022. 

وترى منظمة “هيومان رايتس ووتش”، في تقرير حول القانون الجديد، أنه يضمن “تدخلاً حكومياً وأمنياً واسعاً في عمل الجمعيات المستقلة ومراقبتها” وأن “تطبيق القانون ولائحته قد يؤدي لانحسار المنظمات المستقلة القليلة المتبقية أو إيقاف عملها، ولن يؤثر في منظمات حقوق الإنسان فقط، بل على منظمات البيئة والتنمية أيضاً، والجهات الدولية المانحة”.

قالت مصر الرسمية إنّ القانون يسهل عملية تسجيل المنظمات الأهلية، لكن العملية طبقاً للقانون، معقدة وملتوية وتتضمّن تقديم قائمة طويلة من الوثائق والتقارير تصل إلى مئات الصفحات عن أنشطتها السابقة ومجالات عملها ونطاقها الجغرافي ومصادر تمويلها، وأي عقود أبرمتها مع منظمات أخرى ومستندات تتعلق بأهداف الجمعية أو المنظمة وطبيعة نشاطها ومهمتها وطرق تنفيذ تلك المهمة وتصاريح مالية وحسابات وميزانية سنوية وسجلات سوابق جنائية للمؤسسين “فيش وتشبيه”. ولا يحق للمنظمات أن تعمل إلا بعد أن تصدر وزارة التضامن الاجتماعي قراراً تنشره في موقعها الإلكتروني بالموافقة على تسجيل المنظمة، ويمكن أن تتذرع الوزارة بغياب أي وثيقة لرفض التسجيل في غضون 60 يوماً، واستئناف الرفض لدى المحكمة الإدارية يستغرقُ سنوات… ورأى مراقبون أن تلك الإجراءات “تهدف إلى إنكار جوهر الحق في حرية تكوين الجمعيات والقدرة على العمل دون إذن حكومي”.

ويسمح القانون للحكومة بإغلاق أي منظمة تنشط من دون تصريح وتجميد أصولها بالقوة، وحلها، وملاحقة العاملين بها قضائياً وتوقيع غرامات وصدور أحكام بالسجن.

أمّا المنظمات التي نجحت في إعداد هذا الملف المتخم بالوثائق، والتسجيل وبدء العمل، فلها قائمة ممنوعات.

يحظر القانون عليها أي نشاط سياسي، ولا يحدِّد تفصيلاً ما المقصود بالأنشطة السياسية، وتقول “هيومان رايتس ووتش” إن هذا البند تستطيع الحكومة استخدامه “لمعاقبة المنظمات التي تعالج قضايا تتعلق بالسياسات العامة والانتخابات وغيرها من الحقوق المدنية”، ولا يسمح بأي أنشطة تعتبرها السلطات “مخالفة لأغراضها”، أو الأنشطة التي تنتقد مفاهيم “الأمن القومي” و”النظام العام” و”الآداب العامة”، وهي مفاهيم من دون تعريفات قانونية أو حضور في الدستور، لكن السلطات المصرية تستخدمها لتجريم أعمال عاديّة كفيديوات “تيك توك”، وممارسة الجنس بالتراضي خارج نطاق الزواج، والاحتجاجات السلمية.

ويسمح القانون ببعض الأنشطة، ولكن “بعد الحصول على موافقة أمنية”، وهي: إجراء أي استطلاعات رأي أو بحوث ميدانية أو إصدار أي تقارير أو كتب أو منشورات، والتعاون مع أي جهة أجنبية “داخل أو خارج مصر” بما في ذلك استشارة أو توظيف أو إشراك متطوعين أو موظفين أجانب، وإرسال أي أموال خارج مصر أو فتح أي مكاتب أو فروع في دول أخرى.

يحوّل القانون مؤسسي منظمات المجتمع المدني ومديريها إلى مخبرين ومجرمين وجواسيس “محتملين”، يبلغون عن أنفسهم قبل خطو خطوة في أي اتجاه، وإلا فُرضت عليهم غرامات كبيرة تصل إلى مليون جنيه (65 ألف دولار تقريباً) وعقوبة الإيقاف لمدة عام، أو الإغلاق، أو الحل وتجميد الأصول.

إقرأوا أيضاً:

كلمة السر “احتجاجات سبتمبر”

احتجاجات أيلول/ سبتمبر 2019، التي دعا إليها المقاول المصري محمد علي، المقيم في إسبانيا، دفعت إلى تطور جديد في “القضية 173″، إذ بدأ تطوير أساليب وأنماط الانتهاكات بحق المتهمين، فالقضية بالكامل، في المخيلة الشعبية هي “عقاب جماعي” للقائمين على حماية الديموقراطية من المجتمع المدني، وهو ما تأكّد بعد احتجاجات أيلول، التي أدّت منظمات حقوقية دورها برصد وتوثيق الانتهاكات والاعتقالات العشوائية خلالها ونشرها على أصعدة دولية، لتكشفَ رغبة السلطات المصرية المستمرة في اتخاذ تلك القضية ذريعة لـ”استهداف النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان المتهمين على ذمة القضية بأي شكل، حتى إذا كان ذلك خارج إطار المحاكم وقبل الفصل في القضية، التي يبدو أن السلطان محجة عن حسمها قضائياً”، طبقاً للجبهة المصرية لحقوق الإنسان.

تنوّعت الأساليب الجديدة ما بين الاستهداف القانوني وإلقاء القبض على البعض على ذمة قضايا جديدة، ومن بين هؤلاء إسراء عبد الفتاح (التي أطلق سراحها استجابة لضغوط دولية)، والاستهداف الإعلامي بالتحريض والتشويه وتوجيه الاتهامات، والإيذاء البدني كما حدث للحقوقي جمال عيد، ليخرج الأمر من ساحات المحاكم إلى التنكيل بالمتهمين وملاحقتهم في الشوارع.

لماذا لا تحسم السلطات القضية؟

في 14 تموز/ يوليو 2021، عبرت الولايات المتحدة عن قلقها من “تردي حالة حقوق الإنسان” واستهداف نشطاء حقوقيين وصحافيين في مصر، وأبرز المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، اعتقال ومضايقة قادة المنظمات غير الحكومية والأكاديميين والصحافيين، وقال: أبلغنا الحكومة المصرية بإيماننا الراسخ بأنه لا ينبغي استهداف أفراد مثل حسام بهجت بسبب تعبيرهم عن آرائهم بشكل سلمي.

وبعد هجمة 2016، علق المقرر الخاص بحرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات بأن “تجميد أموال المنظمات ورؤسائها هجوم ممنهج من الحكومة على المدافعين عن حقوق الإنسان بهدف قمع حريتهم في التعبير السلمي”.

وفي بيان آخر، عبر خبراء في الأمم المتحدة عن قلقهم مما تتعرض له المدافعات عن حقوق المرأة المتهمات في القضية 173 من ملاحقة من قبل قوات الأمن، وطالبوا بوقف جميع الإجراءات القمعية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان بما فيها المنع من السفر.

وطالب البرلمان الأوروبي الحكومة المصرية بإسقاط جميع الاتهامات من المنظمات غير الحكومية، ووصفها بـ”اتهامات لا أساس لها”.

“التعليقات والبيانات الأجنبية” هي طوق الأمان للمجتمع المدني المصري، إذ إنه ما إن يشتدّ الخناق، حتى يصدر احتجاج أو تنديد أممي أو دولي بالحالة الحقوقية المصرية ليتمَّ التراجع، وضبط النفس، والاكتفاء بالمضايقات عبر ذراعي القضاء والأمن، ففي أيار 2020، اعتُقل 3 صحافيين من موقع “مدى مصر”، المهتم بالشأن الحقوقي المصري، من بينهم رئيسة تحريره، لينا عطالله، وقبل أن تصلَ إلى مقر النيابة العامة، عادت سيارة الشرطة إلى قسم شرطة الدقي القريب من مقر “مدى مصر” لإطلاق سراحهم. بحسب معلومات متداولة، تدخلت رئاسة الجمهورية- مباشرة- للإفراج عنهم، لعدم استفزاز الرأي العام الأوروبي، بعدما شهد صحافيون من 3 جنسيات أجنبية يعملون في المواقع ما حصل، إلى جانب فريق عمل قناة “فرانس 24” الذي كان يقوم بتغطية داخل “مدى مصر”، وحضور مندوبين من السفارة الفرنسية والأميركية والبريطانية لمتابعة التحقيقات. وهكذا، يعيش المجتمع المدني المصري على كف عفريت، في معركة قط وفأر، فما إن يصاب بأذى “متعمَّد” حتى تتدخَّل جهة أجنبية لتخفيف الضرر عنه.

وهو ما حصل أيضاً مع ثلاثة مسؤولين في “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، هم محمد بشير وكريم عنارة وجاسر عبد الرازق، إذ تم اعتقالهم في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، على خلفية استضافة سفراء دول أوروبية في مقرها في القاهرة، ومع اشتداد النبرة المطالبة بالإفراج عنهم، أطلق سراحهم في آذار/ مارس 2021.

قبل الجولة الثانية من قضية “التمويل الأجنبي”، التي انطلقت عام 2016، ادّعت الحكومة المصرية أن هذه المنظمات تعمل بشكلٍ غير قانوني، حتى تبرِّر الحملة الممنهجة ضد قياداتها، إلا أن الادعاء لم يكن حقيقياً. 

البراءة للجميع ما عدا الحقوقيين!

تحمل قضية “التمويل الأجنبي” تاريخاً مميزاً، اعتبره متابعون نهاية لـ”القضية 173″: 6 أيار 2021.

قرر قاضي التحقيق المنتدب في القضية حفظ التحقيقات مع 18 مؤسسة وكياناً من المجتمع المدني لأنه “لا وجه لإقامة الدعوى لعدم كفاية الأدلة”. 

مدحت حيثيات الحكم دور المجتمع المدني في مصر، ووصفته بعامل أساسي “في تقدم الأوطان ودعم المجتمعات”. وذلك بعدما انتهت التحقيقات مع 20 منظمة أخرى في القضية ذاتها بحكمٍ قضائي في آذار الماضي، وصدر حكم آخر شمل حفظ التحقيقات مع 20 مؤسسة وكياناً في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، ليصلَ عددُ المنظمات التي تم حفظ التحقيقات معها في القضية إلى 58 مؤسسة ثبتت براءتها.

أرادت السلطات المصرية أن تقدم دليلاً على تسامحها وعدم تربصها بالمجتمع المدني بالعفو عن تلك المؤسسات، وحفظ التحقيقات معها، ومدح دورها.

من بعيد يبدو الأمر تغيّراً كبيراً في رؤية مصر لها، وموقفها منها، فظاهرياً، يغلق هذا التطور ملف واحدة من أطول القضايا في القضاء المصري، بعدما طال عمرها لـ10 سنوات، فحصد ترحيباً دولياً ومحلياً وكأن المجتمع المدني عاد إلى العمل، إلا أن تلك القرارات تخفي وراءها وجهاً قبيحاً، وخداعاً للجميع، واعترافاً صريحاً بالعداء للمنظمات الحقوقية. 

حُفظت التحقيقات مع منظمات مجتمع مدني “تنموية” لا حقوقية، ولا علاقة لها بالجانب السياسي في القضية، فلن تجد في المنظمات التي حفظت التحقيقات معها مركز “الأندلس” أو “القاهرة”، أو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أو أي منظمة ترصد الانتهاكات وتحقق في قضايا التعذيب والحريات الشخصية، فالقضية لا تزال سارية معها حتى الآن، والدليل استدعاء جمال عيد للتحقيق ضمن “القضية 173” في تموز 2021,

ومن الذين حُفظت معهم التحقيقات؟.. توحي أسماء منظمات المجتمع المدني بدورِها ونطاق عملها، كـ”الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية” و”مؤسسة محمد علاء مبارك الخيرية”، و”جمعية النهضة الريفية بشبين الكوم”، و”جمعية رواد البيئة”. وأخيراً، عثرنا على منظمة حقوقية من بين المنظمات التي أغلقت التحقيقات معها… وهي “الجمعية الوطنية للدفاع عن الحقوق والحريات”.

وخلال بحثنا على موقعها، لم نجد سوى إدانة لبيانات “منظمة العفو الدولية” للحالة الحقوقية في مصر، وتنظيم مؤتمر لدعم القوات المسلحة والشرطة المصريين، واستفتاء لشخصية العام النسائية، ودعوة لترشيح شيخ الأزهر وبابا المسيحيين في مصر لجائزة نوبل للسلام. وعلى رغم ذلك، توقفت عن أعمالها نهاية عام 2018.

خدع وقوانين وتصريحات وقرارات ومعركة بلا نهاية ستشهدُ موجة عنيفة مطلع عام 2022، الموعد النهائي لتسجيل جميع جمعيات ومنظمات المجتمع المدني، ومن يتخلف يصبح في مواجهة مباشرة مع الدولة والقانون والقضاء… لنشهد الفصل الثالث من المعركة المشتعلة منذ 10 سنوات.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!