fbpx

عام على انفجار بيروت:
العدالة ممنوعة وحفرة الحزن لم تردم بعد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مرت سنة.لم تعلن نتائج التحقيق ولم يحاكم مسؤول واحد، وأهل الضحايا والناجون عالقون بذكرى لحظة العصف المرعب والغبار الأحمر الذي قوّض حياتهم إلى الأبد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وكأن بيروت مدينة ناجية.

نجت من الحرب الأهلية (1975-1990)، ومن الاجتياح الإسرائيلي (1982)، ومن أزمات واغتيالات ومعارك. 

لكن ما زلزل بيروت وأهلها في 4 آب/ أغسطس 2020 كان أمراً لم يسبق للمدينة أن اختبرته وهي حتماً لا تزال تئن تحت وطأته، فالهواء الحارق الذي اندفع من نيترات الأمونيوم المخزنة في المرفأ طار مسافات هائلة وجرف كل شيء، وآثاره لا تزال محفورة بقسوة. 

مرت سنة ولم يتم التوافق رسمياً على العدد النهائي للضحايا، ولم يحسم عددهم وهويتهم، فهل هم 214 أم 218؟ 

ليس من سلطة تسأل عمن علمت باحتمال موتهم بسبب تخزين متفجرات بين منازلهم ولم تفعل شيئاً حتى أبيدوا تحت أنقاض المرفأ. بعض الجرحى الـ8 الآف لا يزال في المستشفيات حتى الآن، والـ300 ألف مسكن ومبنى الذين هدموا لا تزال تكابد لإعادة ترميمها.

مرت سنة.

لم ينجُ أحد من الجريمة لكن الأخطر: لم يحاسب أحد.

الحزن والألم والغضب في بيروت، لا تزال حاضرة بقوة. كثر ممن ماتوا كانوا ببساطة يحاولون العيش. البعض مات في مكان عمله، آخرون في السيارات، في المطاعم، على الطريق، في المنزل. أطفال ومراهقون قتلوا وهم في غرف نومهم.

مرت سنة، وُصمت خلالها الحياة في بيروت بأنها ثقيلة مرهقة حافلة بالإهانة اليومية. لقد قالها مرة الرئيس ميشال عون، البلد يتجه الى الجحيم، وتبين فعلاً أن الجحيم حفرة لا نهاية لها. فمع كل أزمة جديدة يعيشها اللبنانيون سواء أزمة تهاوي الليرة أو نقص الدواء أو الفيول، يتكشف مستوى أعمق من البؤس.

فالانفجار ليس من الماضي، هو جزء من الحاضر، جرح ينزف لم يندمل. 

لم يكن 4 آب يوماً مأساوياً فحسب، بل جريمة مستمرة.

مرت سنة.

لم تعلن نتائج التحقيق ولم يحاكم مسؤول واحد، وأهل الضحايا والناجون عالقون بذكرى لحظة العصف المرعب والغبار الأحمر الذي قوّض حياتهم إلى الأبد.

مسار العدالة اصطدم في الأشهر التي أعقبت الانفجار بتدخلات سياسية وطائفية، ورُفع شعار “الحصانات” في وجه أي محاسبة لأي رئيس أو وزير أو نائب أو مسؤول أمني أو زعيم حزبي من الذين ثبت أنهم كانوا على علم بشحنة نيترات الأمونيوم، التي كانت مخزنة في مرفأ بيروت منذ عام 2013 قبل أن يتسبب حريق بانفجارها، ولم يحركوا ساكناً.

وجد أهالي الضحايا أنفسهم في وجه عدالة ممنوعة.

هيام البقاعي والدة الضحية أحمد القعدان

النجاة الثانية 

في شارع شعبي مزدحم في منطقة الملعب البلدي في بيروت، وأمام مبنى صغير بسيط تقف سيارة مهملة مغطاة بقماش اسود. السيارة تعود لأحمد القعدان (30 سنة) وكان يعمل عليها بالأجرة وقتل بها في انفجار مرفأ بيروت. ترفض العائلة إزاحة الغطاء عن السيارة أو حتى تحريكها. 

عمل أحمد طويلاً ليجمع ثمنها ويقسّط قسماً منه، لكنه انتهى ضحية في داخلها. تنظر هيام البقاعي والدة أحمد الى السيارة ودموعها تغالبها، “هيدا شقا إبني، هيدا شغلو لأحمد. حط دم قلبه حتى اشترى هالسيارة، كان يساعد أبوه ويجمع مصاري لحتى اشترى هالسيارة. راتبه كان نصه إله ونصه للقرض ويعطي أبوه مصروف”. 

يطغى الحداد على منزل عائلة القعدان وكأن الجريمة حصلت بالأمس، “ما في يوم بيمرق إلا دموعي على وجهي، حرموني ابني اللي ربيتوا بدموع عيوني علمتو متل ما بقولوا بالقلة والذلة لصار شب… قتلولي ياه بقلب سيارتو شو عم يعمل؟ كان عم يشتغل”، تقول أمه باكيةً.

في يوم 4 آب اتصل أحمد بوالدته طالباً منها أن تطهو له طعاماً من دون لحوم، فالبلاد تعيش ضائقة اقتصادية ولم يكن يريد أن يثقل عليها، فطلب منها طبقاً بالعدس “مدردرة”. كانت هيام القعدان تقف على الغاز تعد الطعام لابنها الوحيد حين دوى الصوت وهزها عصف الانفجار: ” لما طلع الانفجار سمعت الصوت حسيت شي كتير غريب، حسيت قلبي طلع مني”. 

بالكاد تتوقف هيام عن البكاء والأنين. أشهر مرّت وألمها ما زال كما في لحظاته الأولى. تعيش هي وزوجها ابراهيم ومعهما بناتهما الثلاث في بيتهم البسيط يكابدون ضائقة تثقل حياتهم، لكن موت أحمد المفجع كان ضربة لم تقم العائلة منها.

تروي هيام أن ابنها عانى من الأزمة المالية وفقد وظيفته في مطلع عام 2020، وبقي أشهراً بلا عمل إلى أن قرر شراء سيارة أجرة تمهيداً للهجرة.

“أحمد كان بدو يهاجر وقبلوا الطلب واجت الموافقة يسافر على كندا… لكن سافر على دنيا ما رجع منها، ما رح يرجع منها”. 

الانفجار لحظة لا تفارق من عاشها، والأصعب تقبل خسارة الأحبة. كان ابراهيم يمازح ابنه بأن عليه أن يدفنه مع العائلة في مقابر “الشهداء” في بيروت. 

يصعب على الأهل دفن أبنائهم، “يعني بتتمني تكوني محلو وما تتذكري انه هو بالقبر لأنه أنا كنت قايله دير بالك ما تخلي حدا يدفني خارج مقبرة الشهدا. قلي ايه خلص أنا بدفنك حد جدي… ذكرته فيها بالاسعاف لما أخدته وقلتلو ما على أساس بدك تدفني صرت أنا بدي ادفنك!”، يقول ابراهيم والد أحمد بابتسامة حزينة، ويتابع “نحنا طلع عنا انفجار هز العالم كله وما انهزت الدولة ولا سألت عنا ولا واحد اتصل وقال العوض بسلامتكم كأنه ما حدا مات”.

مرارة كبرى يعيشها أهل الضحايا والناجون، فهم منذ لحظة الجريمة شرعوا يشاركون في مسيرات شهرية للمطالبة بمحاسبة المرتكبين.

بدا واضحاً أن مسار التحقيق مطوق بتدخلات وحسابات سياسية وطائفية.

تقول هيام والدة أحمد التي تشارك في كل الاحتجاجات بحرقة، “هيدول المجرمين كانوا بيعرفوا انه في تفجير بالمرفأ ليه سكتوا ليش عملو هيك؟”. 

“كلن كانوا بيعرفوا انه في نيترات أمونيوم موجودة بالمرفأ. مين اللي فوتها ومين اللي سكت عنها ومين اللي فجرها؟ ليش ساكتين؟ نحنا بدنا تحقيق العدل مش أكثر. بس عنا كأنه تحقيق العدل عاجزين انهم يعملوا”.

تأثيرات لا تنتهي

المناطق التي دمرتها الانفجارات والأحداث التي شهدتها بيروت منذ سنوات هائلة وآخرها انفجار المرفأ، تم ترميم جزء منها بمساهمات من منظمات غير حكومية ومبادرات الخاصة، وليس بفضل الدولة الغائبة. لكن أبنية كثيرة تبدو وكأنها دمرت بالأمس. 

التأثير الأكثر عمقاً لما حدث غالباً ما يكون غير مرئي.

من على شرفة منزله في الطبقة الخامسة في حي رباط في مار مخايل والمواجه تماماً لمرفأ بيروت يمضي ليون قره بيديان (62 سنة) ساعات بعد الظهر متأملاً المبنى المقابل لمنزله والذي بات شبه خال من السكان بعد إعادة ترميمه.

ليون نجا بأعجوبة من انفجار المرفأ. تحطم منزله الذي يعيش فيه منذ تزوج قبل نحو 35 سنة. جرحت ساقه في الانفجار، لكن الأفظع كان حين هرع إلى المبنى المقابل ليساعد في إنقاذ من عاش حياته معهم ليكتشف أن آليس جارته الثمانينية التي كانت تدعوه من حين إلى آخر لتذوق طعامها، ماتت تحت الأنقاض، وأن جاكو الشاب الذي كان رفيق أولاده وكان يصطحبه معهم إلى الملجأ خلال فترة الحرب اللبنانية مات أيضاً في الانفجار هو وزوجته.

أبناء ليون خارج لبنان وزوجته رفضت العودة للعيش في المبنى والحي حتى بعد ترميمه.

ليون قره بيديان

يجلس ليون ساعاته وحيداً يحاول بكأس ويسكي أن يخفف من وطأة الوحدة والمرارة، “الحي كلو فاضي هلق. 80 بالمية ما في حدا. زوجتي كانت أوقات تجي، هلق حتى لو بدا تجي ما بتجي على الاوتوستراد بتخاف، بالدكوانة قاعدة”.

المبنى المقابل لمنزل ليون تم ترميمه، لكن نوافذه مغلقة وشرفاته فارغة إلا من صور بعض الضحايا. 

“أنا أول ما جيت تعذبت كتير ابكي بالليل أعز ناس راحوا، عشرة عمر جاكو الله يرحمه، ولد كان لما بلش التقنيص خطوط تماس كان، اركض احملوا ونزلوا عالملجأ ولادي وهني ربيوا مع بعض بالملجأ وكل الجيران كلنا هيك عشنا. الحرب نسيناها الحرب اللي قضيناها كانت لعب ولاد صغار، هلق الحرب عايشينها هيدا الانفجار… اللي راح راح بثانية راح بس نحنا بعدنا عايشين انا هلق أوقات بقوم بضهر عالبرندا بالليل أو بالنهار، قدامي هيدي الاسطوانة اللي براسك كل يوم عم تبرم ما فيك تتناسى أول كلمتين الله يرحمكم، الله يرحمك يا أليس الله يرحمك يا جاكو”.

إقرأوا أيضاً:

مسار الانهيار والانفجار 

انفجار مرفأ بيروت كان جزءاً من مسار تراجيدي يعيشه البلد، ففي خريف عام 2019 شهد لبنان انهياراً مصرفياً مالياً هو الأكبر في التاريخ. فالمصارف ومن خلفها الطبقة السياسية الحاكمة سطت على ودائع اللبنانيين. تدهورت الليرة بشكل جنوني، ورزح اللبنانيون تحت أثقل أزمة اقتصادية وتجاوزت نسبة اللبنانيين الرازحين تحت خط الفقر الـ60 في المئة. 

بالتزامن مع الانهيار كان حوالى نحو 2700 طن من نيترات الامونيوم مخزنة في مرفأ العاصمة منذ عام 2013 بمعرفة معظم الأجهزة الأمنية المعنية والمسؤولين من وزراء وزعماء وحتى رئيس الجمهورية، لكن أحداً لم يحرك ساكناً. 

“جريمة المرفأ كانت منعطفاً أساسياً ضمن منعطف أكبر، أعني الانهيار المالي. بالنسبة إلينا فإن الانفجار هو وجه ثان لعملية الانهيار”، يقول المحامي نزار صاغية وهو المدير التنفيذي لـ”المفكرة القانونية”،”الجميع كان يعلم أن الاقتصاد سينهار وأن أموال المودعين ستحتجز وأن الليرة ستحلق، لكن أحداً لم يفعل شيئاً. الأمر نفسه بالنسبة الى الانفجار، الجميع كان يعلم أن هناك مادة نيترات أمونيوم ستنفجر ويمكن أن تدمر العاصمة، لكن أحداً لم يفعل شيئاً”.

قبل أيام من مرور سنة على جريمة المرفأ، أعلنت وكالة “رويترز” أنها اطلعت على تقرير مكتب التحقيقات الفيديرالي الأميركي FBI، الذي شارك في التحقيقات في الأيام الأولى عقب الانفجار، وفيه أن خمس المواد المخزنة في المرفأ فقط انفجرت، فماذا حلّ بالكمية المتبقية؟

هنا يطرح سؤال كبير لم تتطرق اليه التحقيقات وتحاشته تصريحات المسؤولين، فقد كانت معلومات سابقة كشفت أن آلاف الأطنان من شحنة نيترات الأمونيوم التي انفجرت ربما كانت متجهة إلى الحكومة السورية.

المحامي نزار صاغية

الحكومة اللبنانية تشير في روايتها الرسمية إلى أن وجهة الشحنة كانت الموزمبيق، غير أن تحقيقاً بثته قناة “الجديد”، أثبت وجود صلة بالشحنة بين 3 رجال أعمال سوريين قدموا الدعم لرئيس النظام السوري بشار الأسد في الحرب السورية.

منظمة “هيومان رايتس ووتش” التي أعدت تحقيقاً موسعاً لمناسبة مرور عام على جريمة المرفأ ذكرت أنها سألت المسؤولين اللبنانيين عن مصير باقي الشحنة ولم تلق جواباً.

الصحافي الاستقصائي في قناة “الجديد” رياض قبيسي عمل لسنوات قبل الانفجار على ملفات فساد متعلقة بالمرفأ، وتابع بعد الانفجار كشف الكثير من التفاصيل حول معرفة كبار المسؤولين بوجود شحنة نيترات الأمونيوم. 

“لا تستطيع القوى الحاكمة التنصل من مسؤوليتها بالقول إن هذا الموظف مسؤول عن تقصيره. هؤلاء الأشخاص (في إدارة المرفأ) كانوا يعرفون بالشحنة وهم لم يعينوا بسبب كفاءتهم بل لأنهم مؤهلون لأن يكونوا في مراكزهم وفق معايير من عينهم وليس وفق معايير الكفاءة الفعلية. إنهم يتمتعون بـ(كفاءة) أن يحولوا خزينة الدولة إلى قجة مثقوبة يمررون عبرها ما تريده السلطة منهم”.

بحسب قبيسي فإن النمط الذي تعكسه المراسلات حول وجود الشحنة بين مختلف الاجهزة والوزراء المعنيين توحي بأن أمراً كان ينبغي السكوت عنه.

“هيدا النمط بياخدك للاستنتاج اللي هو أنه كان في حدا يبدو عم يقلهم انسوهم”.

بدلاً من الضغط من أجل الحقيقة والمساءلة، عمدت الطبقة الحاكمة الفاسدة المتجذرة في لبنان الى حماية نفسها، ما أدى إلى إعاقة تحقيق قضائي مستمر من خلال رفض رفع الحصانة عن المسؤولين الذين يريد القضاء استجوابهم. تعاون السياسيون وأعوانهم في القضاء على عزل القاضي الأول الذي كان يحقق في القضية، فادي صوان، بعدما تجرأ على توجيه اتهامات لعدد من الوزراء ورئيس الوزراء، مطالباً إياهم بالمثول أمامه لاستجوابهم كمشتبه بهم. السيناريو تكرر مع القاضي الثاني والتحقيق مقيد ومطوق.

أوليغارشية تقتل البلد

بالنسبة إلى اللبنانيين، الانفجار هو أخطر مظهر لمعاناتهم تحت قيادة مختلة. أساءت الأوليغارشية الحاكمة إدارة الدولة بشدة لدرجة أنها دفعت لبنان إلى ما وصفه البنك الدولي بـ”الكساد المتعمد”، وهي أزمة صنفت وضع لبنان “ضمن العشرة الأوائل، وربما الثلاثة الأوائل في مستوى شدة الأزمات على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر”.

لقد كانت سنة كابوسية في دولة سريعة الانهيار. البلاد بلا دفة منذ استقالة رئيس الوزراء حسان دياب وحكومته بعد الانفجار. لم يتم تشكيل حكومة جديدة بعد بسبب الاقتتال السياسي والخلافات الشخصية التافهة. فقدت العملة أكثر من 90 في المئة من قيمتها، ما أدى إلى إغراق أكثر من نصف اللبنانيين ​في الفقر. فرضت البنوك قيوداً صارمة على السحب الشهري، جعلت المودعين يراقبون قيمة أموالهم المحاصرة وهي تتلاشى. لقد فقد الناس مدخرات حياتهم. انتشر التضخم المفرط، ارتفع سعر الخبز (الذي حددته وزارة الاقتصاد) على الأقل ستة أضعاف هذا العام. وتقول اليونيسف إن ثلث الأطفال في لبنان ينامون وهم جوعى.

أصبحت الخطوط الطويلة المتعرجة في محطات الوقود من المعالم الشائعة بسبب نقص المواد الذي تفاقم بسبب التهريب عبر الحدود إلى سوريا التي تعاني من العقوبات. أصبح انقطاع التيار الكهربائي شديداً لدرجة أن كهرباء الدولة نادراً ما تأتي أكثر من ساعة أو ساعتين في اليوم. المولدات الخاصة التي تملأ الفجوات لا تمكنها مواكبة ذلك. في بعض المناطق، لا توجد طاقة كهربائية (حكومية أو خاصة) لفترات طويلة، أو ببساطة يعيش الناس من دون كهرباء لأنهم لا يستطيعون تحمل الأسعار الباهظة التي يطلبها مشغلو المولدات. 

كما تم إلغاء حملة التطعيم ضد “كوفيد- 19″التابعة لوزارة الصحة بسبب عدم توفر الكهرباء وكذلك انقطاع الإنترنت. الصيدليات تفتقد للأساسيات مثل حليب الأطفال والبنادول، كما غادر آلاف الأطباء والممرضات وغيرهم من المهنيين بينما يبحث آخرون عن أي مخرج. 

لقد فاقم اليأس الجرائم الصغيرة. حتى الجيش اللبناني كان عليه أن يمد يده إلى المجتمع الدولي للمساعدة في إطعام قواته.

وداد حلواني

من الحرب اللبنانية… الى جريمة المرفأ

مشهد أهالي ضحايا جريمة المرفأ وتظاهراتهم ومسيراتهم الشهرية للمطالبة بالمحاسبة والعدالة أحيت بقوة مشهدية أهالي مفقودي الحرب اللبنانية (1975-1990) الذين بدأوا منذ عام 1982 اعتصاماتهم للمطالبة بمعرفة مصير أحبائهم. أمراء الحرب اللبنانية كانوا نجوا من ارتكاباتهم بتسوية سياسية إقليمية عام 1990 أثمرت قانون عفو حال دون محاسبة أحد منهم. 

نادراً ما توافرت العدالة في لبنان، لقد مرت جرائم ومعارك ومآسٍ لا حصر لها على مدى عقود، بما في ذلك التفجيرات والاغتيالات السياسية، من دون حل ولم يعاقب أحد في أرض الإفلات من العقاب. لذا فليس من المستغرب أن يخشى بعض اللبنانيين من أن التحقيق في انفجار بيروت سيفشل هو الآخر في التعرف إلى الجناة أو تحقيق العدالة. 

بعد مرور عام لا يزال الجميع غارقاً في ألم عميق.

بالنسبة الى وداد حلواني رئيسة “جمعية مفقودي الحرب” والتي دأبت منذ عام 1982 على التحرك لمعرفة مصير زوجها المفقود وبقية مفقودي الحرب (يقدر عددهم بـ17000 مفقود)، فإن جريمة انفجار المرفأ تشبه مخلفات الحرب اللبنانية، وكأن شيئاً لم يتغير. تخاف حلواني من أن تتكرر مأساة أهالي مفقودي الحرب الذين مات كثيرون منهم، من دون كشف الحقيقة، بمأساة أهالي ضحايا المرفأ، “ما كان بدي إنو نتكرر نحنا فيهن بعدالة هربانة… وقت الحرب كان في حجة انو كل الناس قاتلت وخطفت هيك كانوا يقولولنا، بدنا نطوي الحرب ونعيش بسلام. طيب هلق تعاد جريمة بهذا الحجم بعد 30 سنة من الحرب وتعامل بنفس الاستلشاق والتهميش وتحقيقات واهية… هيدا يمكن مش بس بيفيق جروحاتنا… هيدا بيقهرك”.

المفارقة الفاقعة في قضية المرفأ، أن الزعماء والمسؤولين الذين تبين أنهم إما يعرفون بوجود شحنة نيترات الأمونيوم أو أن الجهات الادارية المعنية تتبع لهم، هم ذاتهم الزعامات التي نجت من ارتكابات الحرب بعدما شاركت في تمرير قانون عفو عن جرائم الحرب اللبنانية. 

يقول المحامي نزار صاغية وهو مدير “المفكرة القانونية”: “دخلنا في عملية عفو بعد الحرب جعلت القيم الخاصة بالحرب تستمر حتى اليوم لكن بدل السلاح بات هناك سلطة مدنية. تمت السيطرة على كل المؤسسات وبدل إعطاء أوامر عسكرية جعلوا الإدارات على شكل ميليشيات، بمعنى إدخال من يريدون من الموظفين وهؤلاء وظيفتهم إطاعة الأوامر، فلا يعود بإمكان موظف أن يقول لوزير لا وتتحول كل وزارة إلى نوع من الإقطاع وهذا ما حصل على امتداد 30 عاماً”.

بحسب صاغية فإن مسألة الحصانات هي تكريس لمبدأ الإفلات من العقاب الذي حكم الحياة في لبنان ما بعد الحرب، “اللبنانيون يكتشفون كل يوم درساً جديداً في آليات الإفلات من العقاب وفنونه، ورأينا كيف أن موضوع الحصانات حين طرح لاستدعاء عدد من الوزراء، تحولت العملية إلى شيطنة للقاضي، في حين أن أول ما يجب أن يفعله القاضي هو الاستماع إلى الوزير الذي أدخل النيترات الى لبنان، فيخرج الوزير ويقول بئس القضاء وتتحول المسألة وكأنها استهداف سياسي ويتحول السياسيون إلى الضحايا”. 

حسن أمين

الأسئلة المتروكة

أمام منزل إبراهيم أمين في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية، علقت صورتان للشاب الذي كان ضمن المياومين الذين قضوا تحت أنقاض المرفأ. لم يكن تجاوز التاسعة عشرة وهو أصغر إخوته.

عُرفت قصة إبراهيم في الاعلام بأنه الشاب الذي قضى من أجل 5 آلاف ليرة (أقل من ثلث دولار) هي بدل ساعة العمل التي استدعي من أجلها في ذلك اليوم ومات بالانفجار. شقيقه الأكبر حسن يعمل سائق توصيل “ديليفيري”، وكان ممن بحثوا عن جثمان أخيه الذي بقي 4 أيام تحت الأنقاض.

هم أشقاء في عائلة من 7 أبناء يعملون في أشغال بسيطة وعائلة محدودة الدخل. حسن كان يريد السفر والهجرة وهو ترك المدرسة حين كان طفلاً محاولاً مساعدة عائلته، لكن اليوم يقول إن لا هدف لديه سوى معرفة من قتل أخاه.

في منزل آل أمين تبدو فاجعة الخسارة ثقيلة. يقول حسن، “أمي بدا تحط صورة لخيي على الحيط. قلتلها يا امي ما تحطي بلكي فقدتي واحد تاني من ولادك لأنه بهاي البلد معرضة لهيك شي”.

لن تنسى يسرى أبو صالح والدة ابراهيم لحظة غادر ابنها المنزل عائداً إلى عمله الذي استدعي إليه، ” قلو بيو بلا ما تروح هلق، قلو لا كنا عاملين اضراب يا بيي ومشي الحال عطونا متل ما بدنا… قلي يا امي رايح عالشغل قلتلو الله ييسر أمرك يا أمي. بس يوصل عالشغل ويموت صعبة”.

يسرى وعائلتها من المواظبين على التظاهر مع أهالي الضحايا ضد محاولات عرقلة التحقيقات وفرض ما عرف بالحصانات على المسؤولين والوزراء. لا تحيد يسرى أحداً من المسؤولية عما حل بابنها وبكل الضحايا. 

“كلهم مجرمين والله كلهم مجرمين… انا ما واثقة بالدولة لأنهم بيعرفوا الباخرة مين فوتها ومين استلمها. ما مات ولا مسؤول ماتوا بس ولادنا”.

يوافقها ابنها حسن ويقول، “كلهم كذابين منافقين وكل واحد تابع لدولة. يقولولي مين قتل خيي وفللوني من البلد”. 

ريما مستو

غير اللبنانيين… ضحايا مرتين

تفجير المرفأ لم يكن جريمة هزت اللبنانيين فقط، من بين الضحايا كانت هناك 8  جنسيات مختلفة، وهذا ما يجعل مسار العدالة وملاحقة المسؤولين عن الانفجار أكثر تعقيداً.

لم يصدر إحصاء دقيق أو رسميّ عن الضحايا من اللاجئين والعمّال والعاملات والمقيمين غير اللبنانيّين، وعانى كثيرون بحسب شهادات نشرتها مؤسسات حقوقية من تعرضهم للتمييز في العلاج والمعاملة سواء في حرمانهم من المساعدة أو التعويض أو الطبابة.

ثاني أكبر نسبة في عدد الضحايا كانت من الجنسية السورية، فكان هناك عمال وموظفون وسكان في محيط المرفأ. وهؤلاء كان لهم وضع معقد في مسألة الحقوق ومسار العدالة. 

روان مستو، شابة سورية كانت تعمل نادلة في مقهى في الجميزة وقتلت خلال عملها هناك. كانت روان تعيش واخوتها مع أمها المنفصلة عن أبيها منذ التسعينات. كانت تحاول مساعدة والدتها واخوتها مادياً، وتحاول في الوقت ذاته متابعة دراستها، “بتطلع من البيت عم تسلم عليي رايحة على شغلها برجع بسمع انه الدنيا خربت والبنت راحت كيف هيك صار عقلي ما عم يستوعب يعني هيدي السنة اللي عم بمرق فيها كلها دمار. حياتي انقلبت للون أسود بالمختصر المفيد لون أسود”، تقول منى والدة روان.

مفارقة أن روان سورية فرضت على مأساة مقتلها بالانفجار تعقيدات وأثماناً مضاعفة، سواء لصعوبة دفنها بداية ولاحقاً العجز عن تحقيق مسار محاسبة حقيقي.

ريما شقيقة روان والتي عانت من اكتئاب وأزمات حادة بعد مقتل شقيقتها تستذكر كم عانت العائلة بسبب جنسيتها، “لأنها سورية ونحنا ما عنا مدافن بإسمنا. هون بالمدفن كان بدن ياخدوا 19 ألف دولار رجعوا نزلوا السعر للـ11 ألف دولار بس مش نحنا اللي دفعنا رفيق روان هو اللي دفع لو ما عمل هيك يمكن بقيت بالمستشفى أكثر من شهر نحنا وضايعين هيك…

انه نحنا خلقنا هون عشنا هون كبرنا هون، وبعدنا منتعامل بطريقة انه انت مبارح جيتي على لبنان انت منك لبنانية، بس أنا خلقانة هون عايشة هون، أنا شو ذنبي اذا هني خلفوني هون”. 

معظم التعويضات الهزيلة التي وزعت بشكل خجول على بعض المتضررين من انفجار بيروت، لم تلحظ الضحايا من غير اللبنانيين وهم في الغالب من العمال والمياومين والفئات المهمشة. تقول والدة روان: “الدولة السورية بتقلك نحنا ما خصنا، الدولة اللبنانية عملت هيك نحنا ما خصنا، بس اذا بجي بقول هيك بقولولي بنتك وراقها سورية شو بعمل انا بهالحالة من وين باخد حق بنتي… الدولة السورية بتقلك انت عايشة هونيك، البنت هلق حقها بالانفجار ضاع. الدولة اللبنانية بتقلك انها سورية يعني لمين بتطالبي بحقوقها؟”. 

النجاة من الانفجار لا تعني أن الحياة عادت إلى سياق طبيعي. كثر يعيشون حاملين عبء الرابع من آب، بخسارة أحبائهم وبألمهم الجسدي وبانهيار البلد، حتى النجاة تتحول عند البعض إلى شعور عميق بالذنب.

ميراي خوري

نبقى أم نرحل؟ سؤال كثر أجابوا عليه بالرحيل فعلاً من لبنان، أما من بقي فهو يحاول الرحيل ومن لا حيلة له يحاول أن يجد أسباباً للبقاء.

“ما بدي بنتي تبقى بلبنان لأنه هيدا البلد بالنسبة الي صار hopeless case يعني شوفي تاريخنا كل كم سنة في حرب كل كم سنة في شي كل كم سنة في مأساة، انا ما بدي بنتي تبقى”، تقول ميراي خوري التي تعيش قلقاً دائماً حيال ابنتها الجامعية نور.

الهجرة بالنسبة إليها هي محاولة للنجاة بعدما خسرت ابنها الياس خوري الذي لم يكن تجاوز السادسة عشرة لحظة الانفجار.

غرفته كانت مواجهة تماماً لمرفأ بيروت. بقي الياس اسبوعين ما بين الحياة والموت لكن جسده لم يصمد أمام خطورة الاصابة. 

“كنت مفكرة انه رح يوعى، قضيت أسبوعين بالمستشفى مفكرة الياس رح يوعى… رحت بسيارة الاسعاف شفتو قلهم للممرضات هونيك الياس رح يوعى بالليل شي ليلة ما تتركوا لأنه رح يوعى عجيبة رح تصير الياس مش ممكن يتركني…”.

نور نجت بجروح صعبة وكذلك الأم كانت تعاني من كسر في الظهر. منزل العائلة دمر والحياة انقلبت بالكامل. “بتبطلي عايشة بتصيري من قلة الموت بتكفي حياتك. أنا لازم كفي حياتي كرمال بنتي… اوقات بفيق بالليل وبقول لقوم طل عالاولاد. بعدين بنتبه انه اي مزبوط صار انفجار. بعدني مش مستوعبة كل هيدا الوقت أوقات ما منصدق اللي صار”، تقول ميراي وهي ساهمة.

حالياً، تحاول السلطة في لبنان النجاة مرة ثانية من جريمة كبرى، فهل يمكن لمثل هكذا نظام أن يستمر:”تسفيه الخطر العام هو الجريمة الكبرى اللي حصلت وهيدي مسؤوليتها سياسية بدرجة أولى بمعنى انه مش ممكن نتصور انه النظام يكمل بهيدي الطريقة ولازم يعرف أي لبناني انه اي نظام بكمل بهيدي الطريقة رح يرجع ينتج انهيار وانفجار مضاعف ولا يمكن المهادنة مع هيدا النظام أو التفكير جدياً بامكانيته للحياة”، يختم نزار صاغية.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!