fbpx

اختناق بذكريات تفجير المرفأ: “أنا فاتشيه… أنا فاتشيه”!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتأمل بيت جوني بخشوع… وأنين سيارات الإسعاف أسمعه الآن! أنظر إلى السماء الزرقاء الصافية ولكنني أرى تلك الغيمة الحمراء التي ظلّلت طريقنا يومها. نظرت من حولي وتداركت أنني أسعفت فاتشيه في هذا الشارع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يوم الأحد في منطقة الكرنتينا، في قلب بيروت، يشبه الآحاد في القرى البعيدة النائية. هي قرية صغيرة ترسو على حافة بحر المدينة. لا يزال أثر الدمار الهائل الذي تعرّضت له المنطقة واضحاً في المنازل المهجورة والممتلكات التالفة المرمية إلى جوانب الطرقات، تمامًا كوضوح التهشيم التي تعرضت له نفوس أهل المنطقة. الجميع هنا في حالة عزاء منذ الرابع من آب، فمن لم يخسر فرداً من عائلته خسر صديقاً أو جاراً أو أنيساً.

“الكرنتينا قرية في قلب المدينة” يقول جوني، 39 عاماً، متطوع في الصليب الأحمر اللبناني وأحد سكان المنطقة. يسكن أقرب البيوت مسافة من المرفأ الذي يبعد حوالي 400 متر. مطبخ بيته مفتوح على حديقة خلفية صغيرة تطل بشكل مباشر على إهراءات القمح.

 تدمع عيناه وهو يحدّثني عن جارته كلوديت، “أمه الثانية” كما يسميها. يشير إلى تلّة من الركام ملاصقة لحديقته: “هنا كانت تسكن كلوديت… بقيت أسمع صراخها لساعات يخرج من تحت ركام منزلها الذي تدمر بالكامل وسقط فيما كنت عاجزاً عن مساعدتها أو إخراجها. أنا نفسي نجوت بأعجوبة ورحت أركض في كل الاتجاهات لمساعدة وإسعاف من يمكن مساعدتهم، لكن حجم الدمار والإصابات كان هائلاً وفوق قدرة فرق الإسعاف كلها التي بالكاد تمكنت من الوصول إلى المنطقة. كنت أصلي وأنا أسعف بعض المصابين أن لا يكون الصوت الذي أسمعه هو صوت كلوديت، إلى أن اختفى الصوت، ومرّت ساعات طويلة قبل أن تتمكن فرق الإنقاذ من رفع الركام والعثور على كلوديت وقد خنقها سقف منزلها.”

يقضي جوني ليلته الأولى في بيته بعد ترميمه. أمضى السنة الماضية في المدرسة التي يعمل فيها في قسم تكنولوجيا المعلومات. نام في المدرسة: “أنا متحمس وسعيد جداً بعودتي إلى منزلي فأنا أعشق هذا المكان وكل ذكرياتي فيه. لكن بقدر سعادتي أنا خائف ومتوتر من أن لا أنام أو أن تقلق نومي مشاهد وأصوات يوم الانفجار المشؤوم”.

على مسافة أمتار مقابل مبنى فوج حرس مدينة بيروت، ثمة من يؤرق نوم الحرّاس. عشرات المتطوعات والمتطوعين من مختلف الجنسيات يشكلون سلسلة بشرية لرفع ركام أحد أقدم بيوت الحيّ، حوّله شباب جمعية “فرح العطاء” إلى ما يشبه خلية نحل. لا يهدأ العمل في المنزل إلا لساعة واحدة وسط في فترة الظهيرة، يتجمعون خلالها في باحة الكنيسة المجاورة لتناول وجبة الغذاء. في مقابل الكنيسة يتعكّز أحد أقدم بيوت الكرنتينا على دماره. أعاد لي ذكريات مؤلمة من غروب الرابع من آب 2020 المشؤوم. 

كنت برفقة زوجتي في محل تجاري في منطقة مجاورة للمرفأ. وظنّا منّا أن المنطقة حيث كنا تتعرض للقصف، ركضنا إلى السيارة وسارعنا لمغادرة المكان سالكين الطريق المؤدي إلى وسط بيروت. كانت زوجتي تمسك بهاتفها وتحاول أن توثق قليلا مما أصاب المدينة. نحاول أن نفهم ما حصل. ولكن لا اجابة، والغيمة الحمراء تتخذ شكل علامة استفهام كبيرة فوق المدينة. نتابع سيرنا. الاتصالات مقطوعة. نقترب أكثر فأكثر من مكان الانفجار. ثم نصل إلى منطقة الكرنتينا. إلى حيث أقف اليوم على الأطلال. شرفات على الأرض، جرحى في كل مكان، سيارات مدمرة. دخان ودماء في كل مكان. ننظر حولنا عاجزين عن الكلام.  

في الزحمة الخانقة نتشارك النظرات مع أحد الجرحى المضرّج بدمه. ينظر إلينا طالبًا العون. أنزل من السيارة وأقدم له الإسعافات الأولية. يركب معنا في السيارة ونتوجه إلى أقرب مشفى. أخبرني في الطريق أن اسمه “فاتشيه” وأنه سقط من شرفة بيته في الطابق الأول لحظة الانفجار. 

كلما اقتربنا من موقع الانفجار ازداد المشهد سوءا. حاولنا أن نصل إلى مستشفى الروم ومستشفى رزق في منطقة الأشرفية لكن قوى الأمن منعتنا. تابعنا سيرنا نحو الحمرا باتجاه الجامعة الأميركية لكنها رفضت استقبالنا لعدم قدرتها على تحمل المزيد من الجرحى. توجهنا إلى مستشفى نجار التي استقبلت فاتشيه مع عشرات الجرحى في قسم الطوارئ الذي غصّ بالجرحى حتى بلغوا الدرج الخارجي عند مدخل المسستشفى. 

أتأمل البيت بخشوع. أصوات سيارات الإسعاف، أسمعها الآن تئنّ في أذنيّ كما لو انها آلام الجرحى كلهم دفعة واحدة. أنظر إلى السماء الزرقاء الصافية، لكنني أرى طيف الغيمة الحمراء لا يزال يغطي المدينة. نظرت من حولي وتداركت أنني أسعفت “فاتشيه” في هذا الشارع. هنا، تماماً.

للحظة اختنقت. شعرت انني غير قادر على التنفّس. عيناي تبحثان عن مخرج من هذا الاختناق. أنظر إلى أعلى فأرى عينيّ رجل ينظر إليّ من شرفة منزله في الطابق الأول. لا تزوغ عيناه عني. ينظر مباشرة في عينيّ. ثم اختفى فجأة، تاركاً الشرفة، وسرعان ما ظهر وهو يركض من مدخل المبنى الذي يسكنه، في اتجاهي.  ثم صرخ بوجهي حينما بات على بعد خطوات قليلة: “أنا فاتشيه… أنا فاتشيه”. 

عادت إليّ أنفاسي. 

إقرأوا أيضاً: