fbpx

كلب مسعور يعضّ بيروت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

شهر آب. قبل يوم واحد من ذكرى تفجير المرفأ. كان عقرباً هائلاً ذلك الذي لدغ المدينة. كان كلباً مسعوراً وعملاقاً الذي عضّ وجهها الجميل.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فرنسا، عام 1885

ربما كان الوقت في آب/ أغسطس. يحمل لويس باستور حقنة ويشكّها في ذراع طفل عمره تسع سنوات تعرّض لعضّة كلب مسعور. ذلك الفتى صار أول إنسان ينجو من الموت بعد اصابته بداء الكلب. أنقذ باستور الطفل عبر اكتشافه حينذاك لقاح مرض الكَلَب، قبل 136 عاماً. 

لبنان، عام 2021

في شهر آب، وعلى بعد يوم واحد من ذكرى جريمة انفجار مرفأ بيروت. أقرأ على “فايسبوك” هذا النداء من صديقة: “صبي عمره 8 سنوات عضّه كلب، أكل من يده شقفة. بدنا طعم كَلَب ضروري. حياته في خطر. لمن يستطيع المساعدة الاتصال على الرقم…”. ينقبض قلبي. أسمع نباحه في صدري، وألهث مثل كلب. شيء أشبه بنوبة هلع. لا أعرف ماذا أصابني، لكن مخاوفي كلّها قفزت فجأة لتحاصرني كقطيع كلاب في العتمة. تذكّرت الطفلة التي توفيت قبل أيام قليلة. اسمها زهراء. وعمرها تسع سنوات. لدغها عقرب. في العام 2021. في لبنان. مجرّد عقرب، والعقارب اللبنانية التي تعيش في البريّة لا تقتل. فقط تلك التي تعيش في المقرات الرسمية تقتل بلدغاتها المتواصلة. ماتت الطفلة الصغيرة، بعد تعذّر تأمين ترياق مضاد للسم الذي تسرّب إلى جسدها. اللدغة تكفّل بها العقرب البرّي، الذي لا يقتل عادة. لكنها ماتت متأثرة بلدغات السلطة بكل مستوياتها. تكالبوا جميعاً على لدغها. عضّوا طفلاً آخر بأنيابهم التي تنزّ دماً. وذبحوا طفلة عمرها سبع سنوات برصاصهم الطائش. كل أدوات القتل المتوحشة هذه من صنع السلطة. 

ألمانيا، عام 2021

منتصف شهر تموز/ يوليو. فياضانات مفاجئة تجتاح غرب البلاد. تغضب الطبيعة فجأة وتقذف بماء الأنهار دفعة واحدة إلى التجمّعات السكنية، فتغرقها بمن فيها. 80 قتيلاً، وآلاف الجرحى. بقيت السلطات تبحث عن المفقودين لأيام. دمار، كأنه الطوفان الكبير. لكن غضب الطبيعة كان قاسياً على مدن مكتظة بالسكان. ومع كل الإجراءات والإمكانات سقط كثر. غرق العشرات وانهارت بيوت فوق رؤوس قاطنيها بفعل المياه. إنها “كارثة”. هكذا وصفتها المستشارة الألمانية. كارثة، لكنها “طبيعية”. لم تقل أنجيلا ميركل ذلك، لكننا جميعاً نعلم أنها “طبيعية”. من صنع الطبيعة. يحدث ذلك كثيراً في كوكب الأرض. تهتزّ الأرض وتحدث زلزالاً. تدمّر الأرض ما عليها. يبتلع تسونامي شطآناً بأسرها. يُغرق مدناً. تثور براكين وتقذف بحممها على قرى وبلدات. تلتهم النار غابات بأسرها. يحدث ذلك في الطبيعة، وبشكل “طبيعي”. تفجّر الطبيعة الأم غضبها بأبنائها في كثير من مناطق العالم. هذا “طبيعي”.

شهر آب. يضرب زلزال البلاد. أطنان من نيترات الأمونيوم تنفجر بالمدينة. تدمّر آلاف المنازل. وتقتل أكثر من 200 ضحية. لم يكن زلزالاً “طبيعياً”. كانت كارثة حقيقية تحلّ ببيروت. لكنها لم تكن كارثة “طبيعية”.

لبنان، عام 1956

شهر آذار/ مارس. يضرب زلزال البلاد، مركزه في منطقة الشوف. يدمّر آلاف المنازل. ويقتل 136 شخصاً. كان هذا آخر زلزال مدمّر يضرب لبنان. لم يتكرر. حدثت هزّات خفيفة. لكن منذ 65 عاماً لم تغضب الطبيعة على لبنان غضباً مميتاً لا تمكن مواجهته. لم يجرؤ البحر المتوسط على رفع يده لصفع شاطئنا. ظلّ دائماً لطيفاً يداعب بأمواجه صخور بلادنا. لم تضربنا صواعق حارقة. ولا التهمتنا نيران غير مقدور على محاصرتها، في حال توفر الحد الأدنى من الإمكانيات. كانت أمنا الطبيعة حنونة معنا. قلّما رفعت صوتها في وجهنا. قلّما أنّبتنا أو عاقبتنا أو طردتنا من دائرة أمانها. 

لبنان، عام 2020

شهر آب. يضرب زلزال البلاد. أطنان من نيترات الأمونيوم تنفجر بالمدينة. تدمّر آلاف المنازل. وتقتل أكثر من 200 ضحية. لم يكن زلزالاً “طبيعياً”. كانت كارثة حقيقية تحلّ ببيروت. لكنها لم تكن كارثة “طبيعية”. كان حادثاً مدبّراً. كان قتلاً متعمّداً من عصابة حاكمة. كانت كارثة بفعل فاعل. جريمة موصوفة، قتلت ودمّرت أكثر بكثير مما فعل زلزال عام 1956. جريمة مشهودة. القاتل واضح، تماماً كقاتل الطفلة التي لدغها العقرب، وتماماً كالمسعور الذي تسبب بإصابة طفل بداء الكَلَب بعدما عضّه كلب مسعور، وتماماً كالوحش الذي قصف برصاصه الطائش وردة في ربيع عمرها في عكّار. القاتل واحد في هذه الحالات كلها. وهو معروف. بوجوه كثيرة وأسماء كثيرة وأنياب كثيرة ولدغات كثيرة. 

لبنان، عام 2021

شهر آب. قبل يوم واحد من ذكرى تفجير المرفأ. كان عقرباً هائلاً ذلك الذي لدغ المدينة. كان كلباً مسعوراً وعملاقاً الذي عضّ وجهها الجميل. تهدأ نوبة الذعر. عيناي مفتوحتان. أنتظر أن تلدغني عقارب الساعة في هذا الوقت المتأخر من بعد منتصف الليل. أن تغرس إبَرها في دمي وتضخّ فيه سمّ النعاس. أسمع نباح كلب يأتي من ظلام المدينة المعتمة. 

القمر في البعيد…عظمة. 

إقرأوا أيضاً: