fbpx

الحياة غير ممكنة مع هؤلاء الأوغاد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا مفر من أن نعترف بأننا منهكون ومتعبون إلى حد الاستسلام، لكن في فعل الاستسلام فعل تسليم لحقيقة أننا نأتمن حياتنا، لدى هؤلاء الأوغاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مرت سنة وبضعة أيام على تفجير 4 آب/ أغسطس، هذا ما أدركه بالمنطق فيما حتى وأنا أكتب هذه الجملة تناسيت، ولا يبدو سهواً  قبل مراجعة النص كلمة “سنة”، فلا يبدو لي أنها أكثر من بضعة أيام كأنها تتكرر وتستمر أبداً. يصعب علي قول ذكرى 4 آب ففي الذكرى يقين بأننا قد نجونا على نحو ما، وفي سردية النجاة تلك ما يشبه تلخيصاً لسيرة حياتنا. فمذ ولدنا يقص علينا أهلنا سيرة النجاة تلك ثم كبرنا وبتنا نقصها هي ذاتها على أنفسنا وواصلنا النجاة، من حرب إلى أخرى،  من اغتيال إلى آخر، من انفجار إلى آخر.  وفي كل مرة كنا نحمل  ذنب كل هؤلاء الموتى الذين بادلونا الأماكن والحيوات، حتى بتنا لا نعرف سبيلاً للنجاة من هذه النجاة. 

لا أذكر  تقريباً من لحظة الانفجار سوى ذلك الهدير الغريب الذي سبق الضربة، كانت الأرض والجدران كلها تهدر ، لم يكن ارتجاجاً يشبه الهزة بل أدق وصف وجدته له هو الهدير كأنما الأرض ستنفجر بنا. تبين لاحقاً أن تلك لم تكن استعارة بل ذلك ما حدث بالفعل، تلتها  بعد فترة ضربة فعلاً  لا أعرف تشبيهها إلا بموجة حملت معها عصفاً من الشظايا، فهمت في ما بعد أنه زجاج المباني المقابلة. سمعت صراخ الجارة التي نزلت حافية تدوس الزجاج وهي تبحث عن ابنها. نظرت من الشرفة كان ركام ما سقط من المباني والزجاج يملأ الشارع ، وفيما رفعت رأسي إلى أعلى، كانت غيمة كغزل البنات لونها يتدرج من الزهري إلى البرتقالي  تجتاح السماء، وكأن  الدنيا صار لونها بامبي كما تقول أغنية سعاد حسني. لم أكن أعرف حتى اللحظة أن تلك الغيمة الزهرية التي بدت لي فريدة لم تكن سوى سم نيترات الأمونيوم الذي كان ينتشر في الهواء. لا أظنني سأنظر إلى  الغيوم بالطريقة ذاتها بعد اليوم. بعد أيام قليلة على الانفجار، وإذ كنت ذات فجر أمام  البحر، بدا لي في كامل انتعاشه وبهائه، وكأن شيئاً لم يكن،كانت جمالية المشهد موجعة، وكأنني على نحو ما أحسست بحقد  أو ضغينة تجاه هذه الطبيعة التي دائماً ما تجد طريقة لتصلح بها نفسها، على عكسنا. لكن هو  البحر أيضاً الذي حضن المدينة لحظة الانفجار فامتص قوة الصدمة وحماها من الزوال الكلي كما قيل، فلم يرأف بنا سواه أو أن في ذلك قصة طفولية لطيفة أخبرها لنفسي قبل النوم.

مرفأ بيروت

لا أدري لماذا يصعب علي إدراك كم الوقت الذي مر على 4 آب. يبدو لي الوقت هلامياً، كأنما بات كالموجات الارتدادية التي خلفها انفجار بيروت، كلما لملم المرء جسده من أثر الموجة السابقة، باغتته أخرى قبل أن يتسنى له أن يرفع رأسه حتى. الوقت في هذا المقياس هو مجرد ضربات متتالية ننجو منها أو لا ننجو وبدل الدقائق والساعات والأيام لا ندرك من الوقت سوى كم الإنهاك والتعب الذي أصابنا. كل يوم ننطلق في رحلة البحث اليومي عن أساسيات الحياة، النور، الماء، الدواء، الغذاء، البنزين ثم نعود إلى غرفنا المعتمة وننتظر. 

حتى وأنا أكتب في هذه اللحظات، أفكّر بجدوى ما أفعل. ولكي أريح ضميري أود أن أؤكد أن هذا النص وإن وجدت فيه منفعة فهي ليست إلا  ذاتية، أكتب لأطرد هواجسي وكوابيسي الخاصة، وما دفعني لاقتراف هذا النص ليس اقتناعي بإمكان فعل شيء ما، بل كل هذا الاقتتال الدائر حول ما يمكن فعله، لا أراه عبثياً بالكامل، فهذا الاقتتال يوحي بأن هنالك نقاشاً فعلياً. والنقاش يوحي بأن هنالك حلولاً ممكنة فيما الحقيقة التي تلمع كالشمس فوق تمثال الصفيح الذي زرعوه في مسرح الجريمة، أننا في اللادراية تماماً. فهم لم يستولوا على حياتنا وأماكننا وذاكرة هذه المدينة وحسب، بل ها هم يتقبلون العزاء في الجريمة التي هم اقترفوها. ومرة أخرى نحن الغرباء في مدينتنا التي لا نستطيع بكاءها، حتى بلا أن يطالعنا المارد أبو تنكة وطائر الفينيق الأشبه بمروحة في يده.

هذا المارد الذي تصفق له المافيا الحاكمة وحاشيتها وجوقة فن الصالونات التي تدعمهم برعاية النظام نفسه، الذي ارتأى أنه من المناسب أن يزين مكان جريمته بدل التحقيق فيها. هو استفزاز غير محتمل كما الجريمة والمتسترين عليها. مبادرات  أخرى مختلفة تستذكر 4 أب لم يولد اغلبها فينا سوى الارتباك. أما وسائل الإعلام المرئية فانشغلت بإعادة مسرحة جريمة 4 آب بالأسلوب الذي اعتادته في تناول مآسي هذا البلد، وتأكيد صمود المدينة  المنكوبة “بيروت ما بتموت”، العالقة هي الأخرى في سردية نجاتها الأبدية. بالطبع حرية التعبير حق أساسي، لكن أي عمل يستذكر 4 آب ويتخذ من الفضاء العام منطلقاً له، لا يمكن الحكم عليه بمعزل عن الشارع الذي يُخَاطَب، بخاصة إذا خرج من الحيز الشخصي إلى العام، ودخل في إطار ما تمكن تسميته الفن السياسي، والذي لأسباب كثيرة أراه إشكالياً، لكن ذلك ليس موضع النقاش.

الصمود لا ضرورة فعلاً لإثباته، فهو فعل يفرضه الوجود في بلد مثل لبنان.

  قد تكون الأزمة الحقيقية أننا كأفراد ومهما كانت وسائلنا للتعبير، لا ندرك حالياً ما العمل وقد لا يكون الحل في بناء سرديات مختلفة تنقذنا من هذه الحيرة. فالصمود لا ضرورة فعلاً لإثباته، فهو فعل يفرضه الوجود في بلد مثل لبنان. لا نستطيع بالطبع إلا أن نتذكر ما حدث، لكن فعل التذكر بحد ذاته يوحي بفعل التخطي أو تجاوز الفاجعة، على رغم أن ذلك طبعاً حق مشروع ولا مفر منه مع مرور الوقت. لكن ذلك يبدو إشكالياً أيضاً، فكأننا بفعل التجاوز نقبل بموتنا أو بهزيمتنا، ولا يعني ذلك أن لنا  أي خيار فعلي في هذا الشأن، فمن استباح دماءنا سيستبيحها مرة تلو الأخرى، لكننا بحاجة ولو مجازياً إلى رفض هذا الموت السابق والآتي.

ارتباط الفن والأدب اللبناني بالتاريخ الدموي لهذا البلد منذ الحرب الأهلية وما تبعها هو أمر مفروغ منه ولو أنه، بفرط اجترار هذه المآسي تحول إلى مأساة بحد ذاته، لكن الكارثة الأكبر أننا وكلما بادرنا للانعتاق من هذه القضايا، عادت هي لترتبط بنا. لكن الفرق أن العمل الذي يمثله المارد بخلاف أنه فنياً عجيب، هو احتلال فعلي لمسرح  مجزرة 4 آب، فليس في ذلك فعل أي تجاوز أو تخط للمأساة بل هو إعادة تكريس للسردية المتخيلة لوطن بأكمله. فلا وقت لوطن مشغول دائماً بقيامته ومقاومته الأبدية، ليرثي أبناءه، ناهيك بأن يحاكم قتلتهم. وقد يكون طائر الفينيق العجيب المتبول في يد التمثال شاهداً على هذه السردية الرثة، التي حتى صانعوها لم يعد يسعفهم خيالهم للتستر على ابتذالها. فمفهوم القيامة المرتبط بطائر الفينيق يعني وللأسف شيئاً واحداً في بلد مثل لبنان، لا تحدث القيامة سوى على جثث أبنائه وأشلائهم.

لبنان ومن كثرة قيامته بات كالزومبي الذي لا يعتاش سوى على دم أهله. لسان حالنا يقول لن ننسى جريمة 4 آب، نرفض ذلك وفي الرفض قطيعة  نهائية مع هذه السردية القاتلة. في بلد نخاف فيه يومياً على حياتنا وحياة أحبائنا، ونقاوم من أجل الحصول على أبسط شروط العيش المحتمل، لا تشغلنا صور القيامة ولا الأمجاد الوهمية بل جل ما نطمح إليه حياة بشرية عادية، باتت غير ممكنة مع هؤلاء السفلة. لا وسيلة مادية للتخلص من هذا المارد الذي وكما ذكر  أحد الرفاق مثبت بأطنان من الباطون، لكن قد يكون سبيل المواجهة للحفاظ على ما تبقى لنا من سلامة عقلية، كامناً في رفض هذه السرديات المتخيلة التي على اختلافها لم تسعفنا للخروج من بؤسنا. 

في بشاعة المارد أبو تنكة ما هو بالغ الاستفزاز. ولا سبيل للنجاة من هذه البشاعة إلا عبر التمسك بجمالية ما، مهما بدت مستعصية في هذا الوقت حتى وإن عنى ذلك تشبثاً بحزننا. وجنة الطفلة يارا التي بعينيها السوداوين وملامحها المحببة تشبه كل أطفالنا، وهذا السواد الذي علق بخدها من الانفجار  ستحمله معها إلى مستقبل لا ندري ما هو. نظرات أهالي الضحايا وما  فيها من  شعور بالخذلان، والألم إذ بلغ حداً يستحيل معه أن نشيح بنظرنا عنه وأن نعود لسردية نجاتنا. 

لا مفر من أن نعترف بأننا منهكون ومتعبون إلى حد الاستسلام، لكن في فعل الاستسلام فعل تسليم لحقيقة أننا نأتمن حياتنا، لدى هؤلاء الأوغاد.

إقرأوا أيضاً: