fbpx

حين أرسلني أبي الى العلوم الشرعية… فصرتُ ملحداً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سألتُ والدي بإلحاح أن أغادر المدرسة الشرعية، أتركها للتاريخ، أُخلّي منبج كلها لمقبرتها الشهيرة، وأنطلق بعد ذلك لمتابعة دراستي في الثانوية العامة… لكنه رَفض، كان عنيداً جداً

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

حين أنهيت تعليمي الابتدائي مطلع الألفية الثانية، في إحدى البلدات الصغيرة على خاصرة نهر «الفرات» شرق حلب، أخذوني إلى «منبج» لدراسة العلوم الشرعية هناك؛ اجتزتُ اختبار القبول وحللت في المرتبة الخامسة بين المتقدّمين البالغ عددهم 674 طالباً آنذاك، من مختلف أنحاء سوريا. كانت لدى والدي رغبة عارمة في أن أكون «عالماً في الدين» على حد تعبيره، امتثالاً لمطلبٍ كان قد لقّنه إياه أحدهم في رؤيا شهيرة يعرفها كل أفراد العائلة.

يعتقد والدي جازماً أن الشخص الذي أوكل إليه بتلك المهمة هو أحد الأئمة الكبار، ولطالما علّقَ خياره على «عبد القادر الجيلاني» أحد أقطاب أهل التصوّف الإسلامي، مستبعداً أن يكون «الرسول محمد» هو من أشار إليه بذلك، إذ إن له في الرؤى عادةً هالة من النور أكبر من تلك التي لدى من هم سواه… كان قبيل ولادتي بسنوات ماركسياً، إلا أنه لازمَ المسجد بعد زواجه، تزامناً مع بداية انهيار الاتحاد السوفياتي. تقول والدتي وهي من أسرة ذات صلة بـ «الأولياء» إنها السبب في عودة والدي إلى (صوابه).

كان يعاني آلاماً في الظهر (ديسك) في بداية زواجه بوالدتي، وقد حار فيه الأطباء (كما هو حالهم في مثل هذه القصص)، تقول أمي إنه رأى في منامه آنذاك طاولة كُتب على أرجلها آيات من القرآن، ليستفيق وهو معافىً من أوجاعه، ويبدأ بعدها رحلة كنت أنا أحد تجلّياتها؛ ولست أدري إلى الآن في ما لو كانت رؤاه، أم غورباتشوف، أم والدتي نفسها هي السبب في تغييره إلى ذاك الحد؛ اللافت أن قراراته التي اتخذها كانت قد تبلورت في مناماته!

خلال الثلاثة أعوام الأولى التي قضيتها في مدرسة «منبج» الشرعية حفظتُ ربع القرآن، والكثير من الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم، إضافة إلى «مُسند أبي شجاع» عن كتاب «الأم» للشافعي، واجتزت اختبار الشهادة الإعدادية بمجموع (255 من 290) آنذاك، وصرت خطيباً في مسجد صغير في قرية تقع قرب بلدة «مسكنة» بريف حلب تدعى «وضحة والحايط»، يَسخر من اسمها المتعلّمون في البلدة عبر نعتها بـ «وضحة والجدار»… أحبّني كبار أهلها ووجهاؤهم لأنني على حد تعبيرهم «شيخ صغير» يسهل التعامل معه، إذ ما هي إلا محاولة وحيدة قام بها الحاج أبو زكريا (باني المسجد في القرية) طالباً من والدي إقناعي بضرورة العمل في الخطابة، حتى كان له ذلك، أَعانه عليه كثرة شرودي وقلة حيلتي عن إجراء نقاش جاد مع والدي ينتهي لمصلحتي مرّة واحدة على الأقل.

واظب أبو زكريا على رعايتي كأحد أبنائه… عقب كل صلاة جمعة كان يدس يده في جيبي ليفرغ فيه النقود (قرابة الـ 1000 ليرة سورية آنذاك) إلى أن مات بعد عام واحد على تولّي أمر الخطابة في المسجد؛ المثير أن أبا زكريا كان قد أوصى أبناءه بي… في كل مرة دُعينا فيها إلى تناول طعام الغداء في منزل الحاج عقب صلاة الجمعة، سمعت زوجته العجوز تتمتم لإحدى بناتها: «هالشيخ مرتّب… هذا من تركة المرحوم أبو زكريا، هو من أصرَّ على والده ليقبل الخطابة في مسجدنا».

في ذلك العام الذي اجتزتُ فيه اختبار الإعدادية (2004) تجسّدت في مخيلتي بدايات التطلّعات نحو المستقبل، سألتُ والدي بإلحاح أن أغادر المدرسة الشرعية، أتركها للتاريخ، أُخلّي «منبج» كلها لمقبرتها الشهيرة، وأنطلق بعد ذلك لمتابعة دراستي في الثانوية العامة… لكنه رفض، كان عنيداً جداً، علّق بعبارة «نحنا ما عم نلعب»، يعتقد أن التشبّث بالرأي هو أحد أشكال الجدّية في إدارة القضايا العالقة.

من منطق العناد نفسه رسبتُ في الصف العاشر، لم أتخطّ أياً من مواد المنهاج المُقَرّ، لا الأدبيّة منها ولا الشرعية (بالعاميّة: مكسور بـ 24 مادة) تذرّعتُ بالقول «إن الله قدّر ذلك، إنه لم يشأ أن يتركني في منبج هكذا»، إلا أن تلك الحيلة لم تنطلِ على والدي إطلاقاً، لست أدري لماذا، على رغم كونها مُحكَمة وبارعة للغاية؛ وهكذا أعدتُ العاشر في الثانوية الشرعية فاجتزتُه وتابعت حتى تخرّجت منها، ثم اتّجهت إلى «حمص» لدراسة الترجمة الإنكليزية في جامعتها، ثم بلدة «دوما» في جبال لبنان للعمل في برادات الفاكهة، ثم بيروت للعمل في صيانة الكمبيوتر والشبكات اللاسلكية.   

ما أشد طمأنينة المرء إذ يؤمن إيماناً لا شك فيه بأنه ما من قدرة تستطيع أن تضع حداً لما هو فيه إلا هو نفسه؛ إن هذا قاسٍ جداً، لكنها الحقيقة.

حين أنهيت دراستي الشرعية في منبج عام 2008 كنت أعرف كل شيء عن الديانة الإسلامية، كل شيء، أحفظ ثلاثة أرباع القرآن، أعرف تفاسيره، مواضع الاختلاف فيها، الأحاديث، مصادرها، التشريعات وأصولها، قضايا الزواج، الطلاق، الميراث، القضايا المالية، والتاريخ الإسلامي عن «البداية والنهاية» لابن كثير، و«الكامل في التاريخ» لابن الأثير، وتفصيلات أخرى عن «سيرة ابن هشام» وغيره… ثم ألحدت بعدها بأعوام قليلة.

هو هكذا الأمر … ما إن يأخذ المرء بسردهِ حتى يجعل لك من أتفهِ حدثٍ مغامرة، إن الإنسان قاصٌّ للحكايا بطبعه، وهو يعيش حياته محاطاً بقصصه وقصص الآخرين من حوله، وهو إذ يرى من خلال تلك القصص كل ما يَحدث له، يسعى جاهداً إلى أن يعيش حياته كما لو أنه يرويها، لكنه في النهاية لا بد أن يختار، بين أن يعيش، أو أن يحكي.

كنت في «أورفا» التركية مطلع عام 2014 إلى جانب عشرات الفارّين من تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان قد سيطر على «الرقة» آنذاك، بينهم فنانون، سياسيّون، زملاءٌ لي في «لجان التنسيق المحلّية»، ومطلوبون آخرون للنظام السوري وغيره، جمعنا بيت واحد من طبقتين، لكلٍ حياته وحكايته، معظمهم جلس أمام كاميرا كنت أحملها معي لهذا الغرض، القصص، وتحدّث بإسهاب، منهم الغاضبون، والضاحكون، والموجوعون، وآخرون يصعب تحديد كُنه وجوههم من هذا المنحى. حين خشيتُ على ملامحي وسطهم جلست إلى جانب صديق لي ومعلّم يكبرني بثلاثين عاماً، ضغطت على زر التسجيل، وقعدنا نحتسي العرق، ونبكي… لم أجرؤ على مشاهدة ذاك الفيديو حتى الآن.

ما أستطيع قولَه عن «أورفا» أنها المدينة التي قرأت فيها 174 كتاباً من الأدبين الروسي والفرنسي، والمدينة التي شاهدت فيها الكثير من أفلام السينما، واستمعت فيها إلى الكثير الكثير من الحكايا والأقاصيص، والتي بحثت جاهداً بين أزقّتها القديمة عن نفسي، والمدينة التي لم أكن فيها سوى كيس متخم بالذكريات.

تعلّمك الذاكرة أن تصطفيها إذ تختار ما ستفعله في الخطوة المقبلة، وتعلّمك أن المرء إذا ما قال «أنا» إنما يقصد ماضيه، ومستقبله بناءً على ذلك، وأن الشعوب تتقدّم أو تتأخر تبعاً لمدى جودة ما تنتقيه من ذاكرتها الجماعية، ويعلّمك الكتاب أن المكتبة ذاكرة كلّ الذكريات، وتطرح في النفس سؤالاً: ما الذي تتذكره؟ ابن تيمية أم سارتر؟

في الحقيقة، يأخذ بي مثل هكذا سؤال نحو لوحة بعنوان «مشهد من الطوفان»، للرسّام الفرنسي  Joseph-Désiré Court (1797 – 1868) تصوّر سيدة وطفلاً وعجوزاً يغرقون، فيما يهمّ رجل بيده لإنقاذ العجوز، ويترك السيدة والطفل ليلقيا حتفهما غرقاً؛ كان ذلك تعبيراً بليغاً جداً عن حال أوروبا قبل عصر النهضة، إذ تحاول إنقاذ التاريخ على حساب الأرض، الحياة، المستقبل.

كان اليوم الذي قرأت فيه مسرحية «الذباب» للفيلسوف الفرنسي يوماً لا يمكن نسيانه في «أورفا»، لقد أنقذني سارتر حرفياً من مطبّ أشبه باللعنة التاريخية؛ حين كانت معدّلات انتحار الشبان في فرنسا تزداد عقب الاجتياح النازي لباريس، وحين كان البعض يرى أن ما يحصل إنما هو بلاء من «الرب»، ويلقي باللائمة على هذا وذاك، ثمة من كان يحضهم على أن يضربوا بالحظوظ والأقدار المعدّة مسبقاً عرض الحائط، ويملكوا جرأة الاختيار ويكونوا مسؤولين عن النتائج كلها؛ حين قرأت سارتر كنت أشبه بإحدى شخصيات عمله القصصي «الجدار» (عام 1939) في ليلتها الأخيرة إذ تقول: «في هذه الليلة أرى السماء خالية… ما أشد راحتي حين لا توحي لي السماء بشيء» يقصد ما أشد طمأنينة المرء إذ يؤمن إيماناً لا شك فيه بأنه ما من قدرة تستطيع أن تضع حداً لما هو فيه إلا هو نفسه؛ إن هذا قاسٍ جداً، لكنها الحقيقة.