fbpx

لبنان 2021: رحلة العودة
من الـ”سوشيل ميديا” إلى جرن الكبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كلّ ما يهمني الآن شراء حمار لنقل المياه من “عين الضيعة”، لأنها بعيدة نسبياً من المنزل وكلما أتذكر سنين طفولتي حاملا “غالون” 20 ليتراً من أسفل القرية إلى المنزل، يؤلمني ظهري.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نحن الجيل الذي ولد في منتصف الحرب الأهلية. تعرضنا للكثير من التهكم ورافقتنا دائماً الجملة الشهيرة: “إنتو شو عشتوا؟” بالإشارة إلى ما عاناه أهلنا خلال الحرب الأهلية، من انهيار الدولة إلى انهيار العملة والبنى التحتية. اليوم مع كلّ الازمات الحاصلة وتفكك الدولة، ندخل مرحلة الانهيار بعدما بنينا حياة في هذا البلد، حلمنا بمستقبل مشرق هنا، وها نحن اليوم ندخل الانهيار ونحن على عتبة الأربعين، بعضنا متزوّج خائف على عائلته الصغيرة وعلى أهله وبعضنا الآخر خائف على مشروع استثمر فيه عمره كله.

نحن الجيل الذي لم يرَ بيروت تدمر بحروب الآخرين على أرضه، كما سمّاها غسان تويني، ولم يرَ المنطقة الشرقية تدمر بحرب الأخوة. كنا أطفالاً يهربون بنا من جحيم القصف إلى ملجأ ما أو إلى قرية بعيدة، ولكن في فترة ما بعد الحرب رأينا بيروت تنزع عنها ثوب الحرب والدمار، رأينا وسط مدينتنا إشعاعاً شبيهاً بما كنا نراه في الأفلام أو كما وصفه لنا أهلنا: شوارع مضاءة ونظيفة يملأها السياح ضجيجاً وتكتظ بآلاف اللبنانيين الذين شكلت لهم شوارع المدينة و كورنيشها متنفساً.  نحن الجيل الذي وصل إلى بيروت مدهوشا بهذه المدينة العصيّة على الموت، استمتعنا بالجلوس في المقاهي وطلب فنجان قهوة وقراءة كتاب أو جريدة  أسوة بالمثقفين الذين كنا نسمع عنهم وعن ركنهم المفضل في القهاوي. أنا من الجيل الذي رفض استعمال مصطلح “شرقية وغربية”، عبرنا خط التماس، على رغم خوف أهالينا فكانت الحمراء الشارع الذي التقيت فيه الكثير من الاصدقاء “لي من هوليك”، وكانت اصطفافات الحرب الأهلية مصدراً للنكات والضحك بالنسبة إلينا. هناك فهمت الحرب الأهلية من وجهة نظر أخرى غير تلك التي قرأتها في مراجع الحرب وكتبها. 

اليوم نحن الجيل الذي يرى بيروت مطفأة، فارغة وكئيبة، شوارع بلا ناس محلات مقفلة يتآكلها الغبار، واجهات مدمرة ومحترقة، أراقب الشوارع التي كنا نسهر فيها وكنا نحلم بإيجاد كرسي شاغر أو حتى موقف للسيارة ولكن لا شيء كما كان، وحدها اغنية فيروز:” وينن، وين صواتن وين وجوهن” تدور في رأسي، يخترق صمت هذه المدينة الصراخ على محطة وقود من هنا او اصوات ابواق السيارات التي تصمّ الآذان من هناك. عادت المدينة مجدداً وكأنها في حرب، المدينة، ومعها الوطن، إذ عادا إلى الحياة بسرعة بعد الحرب. اليوم بيروت تموت أيضاً بسرعة، لا يستطيع عقلنا إدراكها.  

نحن عايشنا كيف تخلت قرانا وبلداتنا عن عادات قديمة متوارثة بسبب التقدم الحاصل واليوم نعود للبحث عن تلك العادات، لعلّها تفلح في مساعدتنا على تخطي هذه الأزمة. عاشت قرانا بلا كهرباء وبلا مولدات طوال الحرب فاستمر أهلها باعتماد العادات القديمة، من السهر أمام المنازل لتمضية الوقت والهروب من الحرّ  أو النوم على السطوح في أكواخ كنا نصنعها من القصب واغصان شجر الدفلى ونستعين “بالناموسية” للحماية من البرغش والذباب والحشرات، ولكن مع دخول المولدات وتحسن التغذية الكهربائية بتنا نفضل النوم في غرف مكيّفة، ونستعين بالات كهربائية للحماية من البرغش. وبدل السهر أمام المنازل بتنا نفضل مشاهدة التلفزيون أو الأفلام بواسطة صحن لاقط ثبتناه في المكان الذي كنا نبني عليه الكوخ. اليوم لا كهرباء والحرّ شديد لكننا نسينا كيف تصنع الأكواخ ولم نعد نملك “ناموسية”. كنا نمضي الليالي بلا كهرباء، لا أتذكر كيف كان الوقت يمضي أو ما هي نوعية الأحاديث التي كنا نتبادلها، يومها لم تكن هناك وسائل تواصل اجتماعي لنعرف أخبار الناس، لكننا بالتأكيد كنا نعرف كيف نتواصل مع بعضنا بعضاً. اليوم يمضي الليل ثقيلاً بلا كهرباء، الجميع يتأفف، الحديث الوحيد هو “أيّ ساعة راح تجي الكهربا؟” أو “كم ساعة انقطعت اليوم؟”. عندما تأتي الكهرباء نركض باتجاه “فيش الكهرباء” طمعاً بشحن هواتفنا قليلاً لعلنا نعود إلى التواصل مجدداً.

جيل النساء أيضاً تخلّى عن عادات كثيرة، الكهرباء والمولدات التي غذت المنازل بشكل متواصل دفعت بالنساء الى الاعتماد على البرادات والتجليد،  فنسين التقديد والمونة وأصبح شعارهن الشهير  “شرايتو ولا تربايتو”، نظراً إلى التعب الجسدي الذي تتطلبه صناعة المونة. اليوم عادت نساء قريتي الى استذكار كيفية حفظ الخضروات بالطرق التقليدية فتراهم يسألون من هم أكبر سنّا عن طريق حفظ “اللوبية بالمسلات” أو تجفيف التين، أو صناعة الكشك حتى “جرن الكبة” و”جرن الجريش”، الذي كنا نستعمله للزينة في السنوات العشرين المنصرمة، عادت أختي لاستعماله، لأن لا كهرباء لاستعمال “المولينكس”. حتى بعض أصناف المونة التي لم تتوقف نساء قريتي عن صنعها ولكنهن أدخلن إليها بعض التعديلات مثل استعمال الغاز لأنه يسهل العملية، تخلين عنه أيضاً وعدن لاستعمال الحطب لأن “الغاز مقطوع”.

جيل الأطفال الذي لا يعرف شيئاً عن الحرب وولد بعد انتهائها بسنين، تراه ضائعاً لا يدري كيف يمضي وقته في ظل هذه الأزمة. هذا الجيل الذي اعتاد على التلفزيون والهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية، لم يعرف طوال حياته ألعاباً لا تحتاج إلى الكهرباء. أحاول أن أتذكر بعض الألعاب وقواعدها الأساسية لعلنا نرتاح لساعة واحدة من “النق المتواصل”. أشرح لهم لعبة الغميضة وأعلمهم بعض المصطلحات:”سملحتك” تقولها عندما ترى أحد المختبئين، يجب ان تصرخ “تخبى منيح اجاك الريح”، عندما تقترب من أحدهم. يرمقونني بنظرة: “ما هذا الغباء؟”. احاول تعليمهم قواعد لعبة “السبع طوابق”، أرى الحماسة في أعينهم، يصرخ احدهم:” اجت الكهربا” فيتركون كلّ شيء ويركضون باتجاه “فيش الكهرباء” بحثاً عن ألعابهم المفضلة على شاشة هواتفهم.

لا أعرف كم ستطول الأزمة، البعض يقول إنها ظرفيّة والبعض الآخر يقول، علينا الاعتياد لأنها طويلة وستدوم من عشرة إلى عشرين سنة، كلّ ما يهمني الآن شراء حمار لنقل المياه من “عين الضيعة”، لأنها بعيدة نسبياً من المنزل وكلما أتذكر سنين طفولتي حاملا “غالون” 20 ليتراً من أسفل القرية إلى المنزل، يؤلمني ظهري.

إقرأوا أيضاً: