fbpx

أزمة المحروقات اللبنانية:
مأساة متعمّدة بقرارات عبثيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سنكون على موعد مع رفع الدعم كلياً في نهاية أيلول، بعد أن تكون قد مرّت أسابيع من شح المحروقات والمعاناة في طوابير محطات الوقود.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأت محطات الوقود العمل بجداول الأسعار الجديدة، التي رفعت سعر صفيحة البنزين من 77500 ليرة إلى 129000 ليرة، وصفيحة المازوت من 58400 ليرة إلى 101500 ليرة. 

القفزة السريعة والقاسية في الأسعار، والتي نتجت عن تسعير المحروقات على أساس سعر صرف 8000 ليرة للدولار بدل 3900 ليرة، تم تمريرها أمام الرأي العام كحل يعيد المواد إلى السوق، من دون تكبّد صدمة رفع الدعم التام، تماماً كما حصل قبل تمرير الزيادة السابقة في الأسعار بعد رفع سعر الصرف المعمول به من 1507.5 ليرة للدولار إلى 3900. وفي المرّتين، تم التوصّل إلى هذا النوع من التسويات مع مصرف لبنان في اجتماعات القصر الجمهوري، حيث تطغى اللغة الشعبويّة وتقاذف المسؤوليّة على لغة الحلول الاقتصاديّة الرصينة.

وكما كان متوقّعاً، لم تحمل الاتصالات السياسية الأخيرة أي تطوّر إيجابي على مستوى أزمة المحروقات، على رغم المباشرة باعتماد سعر الصرف الجديد لاستيراد المواد وتفريغها من البواخر، وعلى رغم بدء التسعير في المحطات على أساس الجداول الجديدة. الطوابير الطويلة أمام المحطات ظلّت على حالها، والمازوت لم يتوفّر إلا في السوق السوداء حصراً، فيما ارتفعت أسعار المحروقات في السوق السوداء، بالتوازي مع ارتفاع أسعارها في المحطات. التغيّر الوحيد الذي نتج عن مقررات بعبدا كان إضافة سعر صرف جديد، إلى قائمة أسعار الصرف المتعددة التي باتت سمة من سمات سوق القطع الغارق في الفوضى، والتي بات كل سعر صرف فيها يعبّر عن أزمة جديدة تعكس تخبّط القرارات والخطط الرسميّة.

القرار العبثي

من الناحية العمليّة، نص القرار على تغطية دعم استيراد المحروقات بسعر صرف 8000 ليرة للدولار، على أن تتحمّل الميزانيّة العامّة الفارق بين سعر الصرف المدعوم وسعر صرف المنصّة. كما تم الاتفاق على تغطية هذه الآليّة باستيراد مواد بنحو 225 مليون دولار، لتغطية طلب السوق لغاية شهر أيلول/ سبتمبر 2021. 

إشكاليّة القرار الأولى تكمن في أن قيمة المحروقات التي سيتم دعم استيرادها لغاية شهر أيلول، بالكاد تتجاوز ربع قيمة المحروقات التي تم دعم استيرادها خلال شهر تمّوز وحده، في ظل عمليات التخزين والتهريب والاحتكار واسعة النطاق. ولهذا السبب، فمن المؤكد أن قيمة المواد المستوردة لن تكون كافية لتغطية حاجة السوق طوال شهر أيلول، كما قدّر اجتماع بعبدا، حتّى لو قامت الشركات المستوردة بتقنين الكميات التي يتم تسليمها إلى الموزعين إلى أقصى حد كما يحدث الآن. مع العلم أن معرفة الجميع أن هذه التسعيرة مجرّد مرحلة انتقاليّة، سيليها ارتفاع إضافي للأسعار بعد رفع الدعم، يشجّع تلقائيّاً على احتكار المواد المستوردة وتخزينها بانتظار رفع الدعم.

في الوقت نفسه، لم يعالج القرار إشكاليّة الفارق بين سعر المحروقات بالدولار النقدي في سوريا، وسعرها المدعوم في لبنان، ما يعني الحفاظ على فرص الربح التي يمكن أن يجنيها المهربون عبر الحدود. واستمرار الشح في كميّة المحروقات المتوفّرة في السوق المحليّة، نتيجة ضآلة الكميات المدعومة، سيستمر بتغذية أشكال الاحتكار والبيع في السوق السوداء، وهي سوق باتت لها تسعيرتها الخاصّة وشبكات عملها المحميّة. 

علماً أن مادة المازوت بالتحديد، لم تعد متوفّرة إلا في السوق السوداء، بأسعار تتجاوز الـ500 ألف ليرة للصفيحة الواحدة، أي أكثر من 5 أضعاف التسعيرة الرسميّة، بل وضعفي سعر صفيحة المازوت غير المدعوم نفسه. والربح الناتج عن الفارق بين سعر السوق السوداء، والتسعيرة الرسميّة التي يفترض أن يتم البيع بموجبها، فتجنيه شبكة تمتد من الشركات المستوردة والموزّعة إلى عدد لا يُحصى من أصحاب الصهاريج الذين يعملون في هذا المجال من دون أي قيود.

إقرأوا أيضاً:

الاستنزاف المزدوج

أزمة آليات الدعم السابقة كانت ترتبط في قيمة الاستنزاف من احتياطات المصرف المركزي، والتي تمثّل القيمة المتبقية في النظام المصرفي من أموال المودعين. أما التسوية التي تم التوصّل إليها في بعبدا، فتزاوج ما بين استنزاف الاحتياطات وتضخيم الدين العام في الوقت نفسه، في ما يشبه لعبة محاسبيّة غير مفهومة الأسباب. 

فمصرف لبنان سيوفّر الدولارات المطلوبة للاستيراد من خلال منصّته المستحدثة للتداول بالعملات الأجنبيّة، على أن يتقاضى ثمن هذه الدولارات من مصدرين: تسدد الشركات المستوردة قيمة هذه الدولارات على أساس سعر صرف 8000 ليرة مقابل الدولار، فيما تسدد الخزينة العامّة بالليرة الفارق بين سعر الصرف هذا وسعر المنصّة. وبما أن الخزينة لا تملك حكماً الموارد الماليّة اللازمة لتمويل هذه العمليّة، فسيكون على الخزينة اقتراض هذه المبالغ من مصرف لبنان نفسه، ما يعني أن هذه المبالغ ستُضاف محاسبياً على قيمة الدين العام المترتبة على الدولة.

في الخلاصة، ستكون هناك نتيجتان لآليّة استيراد المحروقات الحاليّة: 

– سيستمر استنزاف احتياطات المصرف المركزي، كون المنصّة ما زالت تؤمّن حالياً الدولارات التي تبيعها من الاحتياطات نفسها، ولا تمثّل أداة لشراء الدولار من السوق، هو ما يناقض الحجّة الأولى التي تم على أساسها الشروع بوقف الدعم. وحتى في حال تم وقف الدعم كلياً في نهاية أيلول، وبدأ بيع الدولارات للمستوردين على أساس سعر المنصّة من دون تغطية أي جزء من الكلفة من الميزانيّة العامّة، فمن المرتقب أن يستمر هذا الاستنزاف طالما أن المنصّة ما زالت تعتمد على الاحتياطات لبيع الدولار للمستوردين. 

– وفي الوقت الراهن، سيُضاف شكل آخر من أشكال استنزاف ماليّة الدولة، عبر زيادة العجز المحاسبي في الميزانيّة العامّة، وتغطيته بمراكمة الدين العام، وإن كان هذا الدين سيستحق في المستقبل لمصلحة المصرف المركزي. مع الإشارة إلى أن معالجة مسألة الدين العام في المستقبل، ستكون موضوع مفاوضات لاحقاً بين الحكومة ومصرف لبنان والمصارف والدائنين الأجانب، خصوصاً أن الدولة اللبنانيّة تُعد مديناً متعثّراً في الوقت الحالي، ما يوجب إعادة هيكلة دينه.

رفع الدعم سيُضاعف من أسعار المحروقات ويضرب جزءاً كبيراً من قدرة محدودي الدخل الشرائيّة.

المأساة المتعمّدة 

لا يمكن فصل كل ما يحصل اليوم عن تعمّد جميع الأطراف المعنيّة بالملف تعقيد المشهد إلى أقصى حد، لحسابات تتصل بموقع كل طرف ومصالحه في المعادلات السياسيّة المحليّة. فحكومة تصريف الأعمال، عمدت طوال الأشهر الماضية إلى تفادي التمهيد لمرحلة الخروج من آليات دعم الاستيراد، بخطط تتكامل مع السياسة النقديّة التي يعمل على أساسها المصرف المركزي، بحجة عدم امتلاكها الصلاحيّات الدستوريّة التي تخولها اتخاذ قرار كهذا. مع العلم أن أثر الارتطام المتوقّع عند الوصول إلى هذه المرحلة، كان يبرر التعامل معه كجزء من موجبات تصريف الأعمال، حتى ضمن نطاقها الضيّق. ولعلّ هذا التقاعس عن إدارة المرحلة يعود تحديداً إلى عدم رغبة رئيس الحكومة المستقيل بالتعامل مع ملف رفع الدعم الشائك وغير الشعبي، ومحاولته ترك اللغم للحكومة المقبلة. وفي النتيجة، أعلن المصرف المركزي وقف آليات الدعم السابقة قبل تشكيل الحكومة الجديدة، ما أدخل البلاد في نفق مظلم من دون وجود أي طرف مستعد لإدارة هذه الصدمة. 

أما العهد، فاصطنع مفاجأته من قرار المصرف المركزي “الأحادي”، على رغم علمه المسبق به من خلال العضوين المحسوبين عليه داخل المجلس المركزي لمصرف لبنان، ومفوّضية الحكومة لدى المصرف المحسوبة عليه أيضاً. وبعدها، كانت عراضة لقاء بعبدا التي أراد من خلالها العهد الإيحاء بأن رئيس الجمهوريّة حال دون صدمة رفع الدعم المفاجئة، على رغم أن نتيجة اللقاء لم تخرج عن إطار المقررات العبثيّة التي لم تعالج أي جانب من أزمة انقطاع المحروقات، بدلالة استمرار الأزمة حتّى هذه اللحظة. مع العلم أن عدم مبادرة العهد للتحضير لمرحلة وقف الدعم، بالتنسيق مع الحكومة، ارتبط أيضاً بمصالح تجمع بعض الشركات المستوردة بجبران باسيل، كحالة شركة “كورال” مثلاً، والأرباح الكبيرة التي كانت تحققها تلك الشركات من آليات الدعم السابقة وما تتيحه من أرباح غير مشروعة، من خلال عمليات التهريب والبيع في السوق السوداء.

في هذا الوقت، يتفرّد حاكم مصرف لبنان في صوغ السياسات النقديّة التي تتماشى مع رؤيته الأوسع للأزمة الماليّة، وهي رؤية غالباً ما تنسجم مع مصالح الفئات النافذة في النظام المالي، بدل أن تضع حماية الفئات الأكثر هشاشة، كأولويّة أساسيّة. وبغياب أي سلطة تنفيذيّة مهتمّة بإيجاد معالجات فعليّة، تتخطّى حدود العراضة السياسيّة كما حصل في بعبدا، سيظل الحاكم طليق اليدين ليرسم المشهد على هواه. 

في النتيجة، سنكون على موعد مع رفع الدعم كلياً في نهاية أيلول، بعد أن تكون قد مرّت أسابيع من شح المحروقات والمعاناة في طوابير محطات الوقود. المسألة الأكيدة، هي أن رفع الدعم سيُضاعف من أسعار المحروقات ويضرب جزءاً كبيراً من قدرة محدودي الدخل الشرائيّة. لكن لا شيء يؤكّد أن هذه الخطوة ستنهي ظاهرة استنزاف احتياطات المصرف المركزي، خصوصاً إذا استمرّ الاعتماد على المنصّة لتمويل الاستيراد، واستمرّت المنصّة بالاعتماد على الاحتياطات لتوفير الدولارات المطلوبة لهذا التمويل.

إقرأوا أيضاً: