fbpx

رسائل الموت… الاستهداف الممنهج
يتسبب بحملة هجرة لنشطاء العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ الاحتجاجات الشعبية التي خلفت وراءها 565 قتيلاً وفقاً لإحصاءات الحكومة العراقية وآلاف الجرحى، لم تتوقف عمليات الاغتيال والاستهداف المباشر لنشطاء ومنتقدين في أنحاء البلاد…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“اليوم الميليشيات أقوى من الأمن، أقوى من الدولة. ترى بس العلم موجود، العلم العراقي. اليوم الميليشيات أعلى سلطة، ويمتلكون قوة السلاح. يمتلكون ألوية تابعة للحشد الشعبي”.

هذه النتيجة التي توصل إليها جاسب حطاب بعد مرور فترة عام ونصف العام تقريباً أمضاها بالسعي وراء معرفة مصير ابنه الناشط والمحامي العراقي المختطف علي جاسب، في مدينة العمارة  (320 كلم جنوب شرقي بغداد). تحوّل أبو علي في هذه المدّة من شاعرٍ شعبي إلى ناشطٍ وأيقونةٍ شعبية لذوي المختطفين والمغيبين قسراً والمُغتالين في البلاد.

ظهر أبو علي في مختلف القنوات التلفزيونية وطرق جميع أنواع الأبواب الممكنة الرسمية منها وغير الرسمية، وكان ينقل للمنصات الإعلامية كل خيطٍ جديد توصل إليه، مطالباً على الدوام بأيّ معلومة تخصّ ابنه وإن كانت موضع القبر، وفق تعبيره.

قبل اختطافه، كان علي جاسب حقوقياً متطوعاً للدفاع عن المعتقلين من المتظاهرين لدى السلطات العراقية، وشارك في التظاهرات التي خرجت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وهي الأسباب التي كان أبو علي يقول إنها وراء اختطاف ابنه. سعى الوالد في رحلةِ بحثٍ دؤوبة لمعرفة الجهة التي اختطفت ابنه، وصرّح لجهات إعلامية عن توصله إلى أن جماعة “أنصار الله الأوفياء” هي المسؤولة، مضيفاً أن حياته نفسها صارت في خطر.  

يتزعم حيدر الغراوي ميليشيا “أنصار الله الأوفياء”، إحدى تشكيلات ميليشيات “الحشد الشعبي” الموالية لإيران، والتي تأسست عام 2014 بعد فتوى من المرجع الشيعي العراقي آية الله علي السيستاني بهدف محاربة “داعش”، ومن ثم صارت تعد تشكيلاً أمنياً رسمياً يخضع لأمرة القائد العام للقوات المسلحة العراقية بموجب قانونٍ أقره البرلمان العراقي عام 2016. 

التقى جاسب رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في أيلول/ سبتمبر 2020 وسلمه ملف ابنه وأسماء المتهمين وما توصل إليه حتى تلك اللحظة، وأتبع ذلك لاحقاً بتحويل الملف إلى بغداد ومتابعة تحريك الرأي العام، حتى إنه لجأ إلى مناشدة البابا فرانسيس عند زيارته العراق للنظر في قضية ابنه. 

في 10 آذار/ مارس 2021، اغتيل الوالد أبو علي على يد شخصين مسلحين يستقلان دراجة نارية في منطقة المعارض التابعة لمدينة العمارة، منهيين بذلك أيقونة عراقية استثنائية وقضيّة مُعلّقة وابناً مُختطفاً لا خبر عنه حتى الآن وعائلتين مفجوعتين.


والدة أبو علي تتحدث لنا عن فقدها وحالها بعد حادثة الاغتيال.
والدة أبو علي تتحدث لنا عن فقدها وحالها بعد حادثة الاغتيال.

كان آخر ما فعله الوالد قبل سويعات من اغتياله، المشاركة في مراسم الذكرى السنوية لمقتل الناشط في التظاهرات عبد القدوس قاسم، والذي قُتل بعد فترة من اختطاف علي جاسب على يد مسلّحين مجهولين أيضاً.

اغتيل الناشط والفنان عبد القدوس قاسم والمحامي كرار عادل الناشط في تظاهرات محافظة ميسان في واقعةٍ واحدة على مقربةٍ من المنطقة الصناعية في مدينة العمارة، وتداول عراقيون بعد مقتلهما صوراً ومحادثات تبين صداقتهما مع مُغتالين آخرين مثل الناشط المدني والكاتب أمجد الدهامات (اغتيل في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019 برصاص سلاح كاتم للصوت) والناشط وأيقونة الحراك الاحتجاجي صفاء السراي (قُتل على يد قوات الأمن العراقية في 29 تشرين الأول 2019 قرب ساحة التحرير في العاصمة بغداد). 

هكذا تبدو عيّنة من المشهد العراقي الحاليّ، حيث يُغتال والد ناشطٍ مختطفٍ وهو عائدٍ من عزاءٍ نشطاء آخرين. تختلف وقائع الاغتيالات وأزمنتها ومواقعها لكن ما يجمع الأسماء المذكورة وسواها، نشاطها المدنيّ ومجاهرتها بمعارضة الوضع السائد في العراق وتحكم الميليشيات بالمشهد الأمني.


عائلة أبو جاسب التي فُجِعت بفقدِ عزيزين وما تزال تسعى نحو تحقيق العدالة ومعرفة المسؤولين

منذ الاحتجاجات الشعبية التي خلفت وراءها 565 قتيلاً وفقاً لإحصاءات الحكومة العراقية وآلاف الجرحى، لم تتوقف عمليات الاغتيال والاستهداف المباشر لنشطاء ومنتقدين في أنحاء البلاد، وهو ما دفع بكثيرين إلى الفرار من العراق أو اللجوء إلى كردستان العراق التي تتمتع بحكم ذاتي في شمال البلاد، إلا أن لا أرقام رسمية حتى الآن في هذا المجال. 

وكانت بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي) وثقت 48 محاولة أو حادثة اغتيال لمحتجين أو منتقدين من 1 تشرين الأول 2019 لغاية 15 أيار/ مايو 2021، وهي “في الغالب حوادث إطلاق نار يقوم بها عناصر مسلحة مجهولة الهوية”، وفقاً لتقرير البعثة المعنيّ بتطورات التظاهرات في العراق والمنشور في أيار 2021. 

وتقول البعثة إن هذه المحاولات أسفرت عن وفاة ما لا يقلّ عن 32 شخصاً وإصابة 21 آخرين، مضيفةً أنه “وعلى رغم عمليات إلقاء القبض في ما يخص الاغتيالات، لكن لا يبدو أن أي قضية قد تجاوزت مرحلة التحقيقات”. 

 يضاف ذلك إلى بقاء ما لا يقل عن 20 ممن اختطفتهم “عناصر مسلحة مجهولة الهوية” في عداد المفقودين، في غياب أيّ جهد واضح لمعرفة مكانهم وإطلاق سراحهم أو الإقرار بمصيرهم. 

وكانت “مفوضية حقوق الإنسان العراقية” أعلنت في كانون الثاني/ يناير 2020- أي خلال أربعة أشهر من الاحتجاجات فقط- عن توثيقها “72 حالة ومحاولة اختطاف طاولت متظاهرين وناشطين ومدونين، منذ اليوم الأول للتظاهرات”، وذلك وفقاً لما أورده عضو المفوضية فاضل الغراوي في البيان المذكور.

رسول جاسب ابن أبو علي يلخص ما جرى مع العائلة حتى الآن.

رسول جاسب ابن أبو علي يلخص ما جرى مع العائلة حتى الآن.

قتلةٌ طلقاء

مع اقتراب السنة الثالثة على اختطافه، بالكاد يستطيع أبو عباس الهليجي- أخ الوالد المغدور به- أن يحدثنا عن آخر مجريات ملف اختفاء ابن أخيه علي جاسب: “قضية علي حسرة كبيرة، لأن دمعة أبو علي لم تنشف إلى يوم موته. عندما يتعلق الأمر بقضية علي، لا أعرف ماذا أقول، لا أملك جواباً، الجواب لدى الكاظمي. تتم السنة الثالثة على اختطاف علي في يوم 10/8، ومصيره مجهول”، مناشداً وزير الداخلية فتح ملف علي وإيجاد المسؤولين عن اختطافه.

وعلى صعيد ملف اغتيال الوالد، حملت عائلة جاسب على عاتقها مهمة السعي وراء تحقيق العدالة وإيجاد المسؤولين، على رغم معرفتها بنوعية الخطر الذي يتهددها في بلدٍ “القتلة طلقاء يتجولون بحريّة فيه” وفقاً لأبو عباس.  

كشف لنا أبو عباس عن آخر مجريات القضية، قائلاً إن السلطات الأمنية ألقت القبض على متّهمٍ أول أدلى باعترافاته بتنفيذ العملية وإطلاق النار بنفسه، مضيفاً أن العائلة توصلت ببحثها ومتابعة الكاميرات وشهود عيان بما في ذلك ابن جاسب نفسه الذي كان مع والده عند اغتياله ،إلى وجود دراجة نارية استقلها المتهم الأول بعد إطلاقه النار.

حملت عائلة جاسب على عاتقها مهمة السعي وراء تحقيق العدالة وإيجاد المسؤولين، على رغم معرفتها بنوعية الخطر الذي يتهددها في بلدٍ “القتلة طلقاء يتجولون بحريّة فيه”

وقال أبو عباس إن العائلة رفعت دعوى قضائية على ثلاثة أشخاص لهم صلة مشبوهة بالمتهم الأول منذ وقت الحادث: “ظللنا نبحث حتى وصل بنا الأمر بجهدنا الذاتي إلى تحديد أماكنهم وبلغنا مركز الشرطة وقبضوا عليهم، وهو ما يترادف مع بيان صادر عن شرطة ميسان في 24/7/2021 أكدت فيه إلقاءها القبض على “اثنين من المتهمين في قتل المجني عليه أبو أحمد الهليجي. وذلك بعد تقديم شكوى بحقهما من قبل المدعين بالحق الشخصي واتهامهما بالضلوع في عملية القتل واشتراكهما مع القاتل الموقوف بتهمة القتل العمد منذ تنفيذه للجريمة”.

شرح لنا أبو عباس كيف أصبحت العائلة الآن تتلقى التهديدات بالقتل والمضايقات من “المتهمين الباقين” وكذلك من ذوي المتهمين الذين أُلقي القبض عليهم سابقاً، مضيفاً: “وصل الحال بنا لفترةٍ أصبح فيها المتهمون طلقاء ويرسلون لنا تهديدات مباشرة بالقتل عبر البعض، وكذلك الشتائم والمضايقات المستمرة”، سائلاً عن جهود الدولة لحماية العائلة من هذه التهديدات. 


شرح أبو عباس أخ أبو علي للتهديدات التي يتلقونها.

وفقاً لتقرير بعثة الأمم المتحدة في العراق، تُعتبر قضية اغتيال جاسب حطاب من القضايا القليلة التي وصلت إلى مرحلة المحاكمة. تقول البعثة إن “استجابة السلطات العراقية للجرائم التي ارتكبتها قوات الأمن العراقية والعناصر المسلحين مجهولو الهوية في الفترة الممتدة من تشرين الأول 2019 حتى أيار 2021، اقتصرت بشكل كبير على بيانات شجب وتشكيل هيئات ولجان تحقيقية دون تحقيق نتائج واضحة”.

وتتحدث البعثة عن “بيئة الخوف والترهيب” التي تواجه الضحايا وذويهم والمحامين الذين قد يقدمون المشورة القضائية لهم، وحالة الإفلات من العقاب التي تعمّ البلد و”تكرّس بيئة مؤاتية لتكرار تلك الجرائم”. 

وتؤكد البعثة في نهاية التقرير أن “الهجمات ضد المتظاهرين والمنتقدين لم تحدث بشكل عشوائي، وفي كثير من الحالات يتمثل الهدف بشكل واضح وهو إسكات الأصوات المنتقدة والمتذمرة”، مضيفةً أن الغياب المستمر للمساءلة يثير القلق الشديد من أن “البيئة السياسية والأمنية قد تكون هي التي تعيق السعي إلى محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا”، فضلاً عن “استمرار مناخ الخوف والترهيب الذي يفاقم نتيجة تصور الناس بأن مثل هذه الجهات يمكنها ارتكاب أفعالها والإفلات دون عقاب واضمحلال المجال المتاح للنقد والتعبير النقدي”.

إقرأوا أيضاً:

بلد الموت المجاني

خوفاً من أن يلقيا المصير ذاته، وجد الناشطان مبين الخشاني (23 سنة) وباقر ماجد (25 سنة) نفسيهما مضطرين لاتخاذ قرار الهجرة إلى تركيا باعتبارها الخيار المتاح الأقرب للنجاة. قابلنا الخشاني وماجد في بيتهما الجديد الذي جمعهما في مدينة اسطنبول بعدما نجحا في الوصول إليها لبدء حياةٍ جديدة بعيداً من “بلد الموت المجاني” كما يسمّيه مبين، وكان نشاطهما وتعبيرهما عن الرأي هو سبب اضطرارهما إلى هذه الخيار. 


صورة يظهر بها مبين الخشاني أثناء مشاركته في احتجاجات تشرين

كان لمبين الخشاني نشاطات كتابية وتدوينيّة ترافقت بنشاطات ميدانية مع بدء احتجاجات تشرين، ومن ذلك مفيشاركته تأسيس مجلة “مسقى” المعنيّة بالشعر العراقي، لا سيما الشعر الشبابي، ومساهمته في توزيع صحيفة “تكتك” الناطقة بيوميات المحتجين في ساحة التحرير والتي أتت بمثابة رد فعل على قطع الحكومة خدمات الإنترنت آنذاك وانخفاض تغطية أخبار الاحتجاجات. 

حدّثنا الخشاني عن تلقيه تهديدات وتحذيرات في فترة وجوده في العراق بسبب آراء عبّر عنها أو نشاطات ميدانية ساهم فيها: “خلال احتجاجات 2018 في البصرة، كتبتُ منشوراً على فايسبوك، انتقدت فيه القمع الذي مارسته قوى الأمن ضد المحتجين. شارك الكثير من رواد المواقع منشوري ووصل لعدد كبير من الناس، بعدها بساعات أبلغني أخي بأن علي مسح المنشور لأن هناك من حذّره منه، وأن مثل هذه المنشورات تهدد عائلتنا بالخطر”. 

ينتقل الخشاني تالياً إلى يوم 27 تشرين الأول 2019 عند بوابة جامعة واسط، حيث يستذكر: “كان المطر غزيراً وليس لدي سوى علم عراقي صغير. بقيتُ واقفاً أمام باب الجامعة حتى حضرت حافلات نقل الطلاب. أخبرتهم أن هناك مسيرة طالبية ستنطلق فترجّل بعضهم للوقوف معي، ومن ثم حضر بعض أساتذتي في الكلية وانضم آخرون حتى صار العدد كبيراً. وضعنا العلم العراقي على بوابة الجامعة ونظمنا المسيرة منطلقين حتى ساحة الاحتجاجات”.

يوضح الخشاني أن تلك المسيرة كانت سبباً آخر في وقوعه تحت دائرة جهر إحدى الميليشيات: “بعد انتهاء المسيرة رجعتُ إلى البيت مساءً فوجدت رسالة من صديق يخبرني أن هناك مجموعة في واتساب لأتباع إحدى الجماعات المسلحة نشرت صورتي عند بوابة الجامعة، وكتبت عليها أنني شخص مأجور ولست حتى طالباً في الجامعة وأنني حرضت الطلاب على الإضراب”.

كانت أول رسالة تهديد مباشرة يتلقاها الخشاني في تشرين الثاني 2019، حين عاد لفترة قصيرة إلى بيته في النعمانية (جنوب شرقي بغداد): “صورت خلال تلك الأيام حركة الاحتجاجات في مدينتي الكوت والنعمانية، ووصلتني حينها رسالة تهديد مباشرة، وصلت إلى بيتي من طريق حجارة حيث وجدت ظرفاً، تضمن رسالة التهديد لكنني لم أعرها في ذلك الوقت أي اهتمام وواصلت نشاطاتي الاحتجاجية”.


رسالة التهديد التي تلقاها مبين من فصيل عصائب أهل الحقّ بسبب مشاركته في الاحتجاجات.

إضافة إلى ما سبق، تحدث الخشاني عن تنظيمه مع أصدقائه من “اتحاد طلبة العراق”، مسيرة طلابية في 24 تشرين الثاني 2019، وعن تعرضه هناك لتهديد من جماعة تابعة لجهة سياسية كانت تحاول فرض أجندتها على المسيرة: “حاصرني أكثر من عشرة أشخاص منهم في خيمة صغيرة بالقرب من نصب الحرية، وهددوني أمام الجميع بأنهم إذا رأوني هنا ثانية سيكسرون ظهري لأنني مخرب. بقيتُ صامتاً وبجانبي صديقتي، تدخل أحد المتظاهرين وحاول أن يخلصني منهم لكنهم دفعوه وضربوه وطردوه من الساحة. كان أكثر من شخص من الجماعة المهاجمة يحاول ضربي وسحبي من ياقتي، لكن البعض كان يمنعهم من ذلك. أخبروني أن علي أن أعود إلى بيتنا حالاً وأنني ممنوع من المجيء إلى ساحة التحرير”. 

قرر الخشاني ترك العراق بعد تعرضه لسلسلة تهديدات وتعرض أصدقاء له للقتل، وبسبب ظروف جائحة “كوفيد- 19″، التي أثرت في حركة السفر الدولية وصعوبات الهجرة نفسها فقد احتاج مبين وقتاً لتنفيذ قراره وهو وقت يتذكّر مدى حساسيته وارتفاع الشعور بالتهديد خلاله: “الفترة الأخيرة كانت صعبة وتقيدت حركتي في العراق كثيراً، خصوصاً مع تنفيذ عدد من الفصائل المسلحة عمليات اغتيال كثيرة لنشطاء. صار بقائي في العراق صعباً. كنتُ أخاف من المارّة، أخاف من الدراجات النارية، من السيارات التي تقف بقربي، أخاف من الاتصالات، ولم أستطع الكتابة إلا باسمٍ مستعار”.  

جزء من حديث مبين الخشاني في موطن إقامته الجديد في اسطنبول

ويصنف العراق ضمن أخطر الدول على العاملين في الصحافة، إذ سجل 286 حالة انتهاك ضد صحافيين بين أيار 2020 وأيار 2021، وفقاً لدراسةٍ أعدتها “جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق”، وهي منظمة غير حكومية تتخذ من العراق مقراً لها، وتتوزع الانتهاكات “بين تهديد صحافيين وملاحقتهم، واحتجازهم واعتقالهم، ودعاوى كيدية، واعتداء بالضرب، ومنع تغطيات، وإغلاق وسائل إعلام، وتسريح عاملين”. 


باقر ماجد أمام إحدى الجداريات التي رسمها في شوارع بغداد أثناء الاحتجاجات

الناشط والفنان الشاب باقر ماجد تعرّض أيضاً لمضايقات وتهديدات قبل اتخاذه القرار بترك العراق إلى الأبد. تخرج ماجد من معهد الفنون الجميلة في بغداد أثناء الاحتجاجات العراقية الأخيرة 2019-2020، وكانت لديه هواجسه وطموحاته الفنية الخاصة، ولأجلها حاول تأسيس ورشة فنية وثقافية بالتعاون مع مجموعة من الشباب: “قررنا إنشاء ورشة فنية تهتم بالفنون البصرية والأدبية في مدينة الثورة (الصدر حالياً)، لكن مشروعنا سرعان ما أجهض بسبب موقعه، ومن ثم نقلناه إلى مدينة الكرادة ظناً منا أنها مدينة تمتاز بهامش من الحرية والتنوع الإثني، لكن ظننا خاب. فبعدما أقمنا بعض الحفلات الموسيقية والأنشطة الأدبية والسينمائية، تذمّر أصحاب المحلات والبيوت المجاورة ورفضوا وجودنا، وتحول المشروع إلى مكان عادي نتبادل فيه الآراء والحوارات”.

في الاحتجاجات العراقية الأخيرة، رسم ماجد جداريته الفنية الأولى في نفق السعدون في منطقة باب الشرجي وفي ساحة التحرير، وهو ما شجع فنانين آخرين على النزول إلى هذا النفق ورسم جداريات أخرى تناصر الاحتجاجات، وجعل ماجد من بيته ملجأ للمحتجين الآتين من محافظات أخرى، خلال فترة الاحتجاجات. يشير ماجد إلى أن هذه النشاطات عرّضته للخطر والتهديد المباشر: “بدأ السؤال عن وضعي داخل المنطقة وخارجها، حتى وصل الأمر بإحدى الميليشيات إلى رمي ورقة تهديد مباشرة في بيتي، قال مرسلوها إنهم على علم بوضعي ونشاطي وتوعدوا بقصاصي إذا ما استمررت في النشاط نفسه”.

ويضيف ماجد: “دفعني هذا الأمر إلى الانسحاب من الساحة حفاظاً على نفسي وعلى عائلتي، إذ كان من السهل الوصول إلى بيتنا، مثلما تمّ الوصول إلى عائلات الكثير من المحتجين، إضافة إلى خطف كثيرين وتغييبهم”.


رسالة التهديد التي تلقاها باقر من فصيل عصائب أهل الحق بسبب نشاطاته وآرائه.

يقول ماجد إن شعور التهديد كان يلازمه في العراق، وأنه حاول مقاومة هذا الشعور من خلال الأنشطة الثقافية والفنية التي يبرع فيها، لكن التهديدات المباشرة تسببت في اتخاذه قرار الخروج: “عندما تلقيت أول تهديد مكتوب ومن جهةٍ معروفة ومتنفذة قررت السفر. كانت الوجهة الوحيدة المتاحة لي هي تركيا”، ويضيف ماجد أنه تقدم بطلب للحصول على التأشيرة التركية مرتين: “رفض الطلب في المرة الأولى، وانتهت آمال الخروج. أغلقت مواقع التواصل حينها ومكثت في البيت لأشهر طويلة، كنتُ منكبّاً على الرسم لأنه الفعل الوحيد الذي كان متاحاً لي. مرّ عام كامل على هذا الوضع”. 


باقر مع بعض من لوحاته التي أخرجها من العراق في موطن الإقامة الجديد

حصل ماجد على التأشيرة بعد المحاولة الثانية، وسافر إلى تركيا في أيار 2021 تاركاً العراق وراءه لا يلوي على شيء: “العراق بلد خطر، ليس الآن فقط، بل في كل وقت. تركتُ أرضاً لا أعرفها، أرضاً ليست للعراقيين، أرضاً محتلة لا يستطيع أي شخص محبّ للحياة العيش فيها. تركت ذكريات وأهلاً وتحديات ومغامرات، كان يمكن أن تنهي حياتي هناك، لكن كان هذا القرار هو الأسلم”.

جزء من حديث باقر ماجد

يرى ماجد أن العراق لم يعد بلداً آمناً لأيّ شخصٍ يُعبّر عن رأيه على أيّ منصة، وأن أيّ شخصٍ يحمل فكراً حرّاً سيضطر للتفكير في الهجرة أو مواجهة الخطر: “أعرف أصدقاء كثراً تعرضوا لتهديدات وهم منتشرون الآن في دول عدة. لا وجود لحرية الرأي داخل العراق على الإطلاق وتزداد القيود يوماً بعد يوم، الكثير من أصدقائنا خُطفوا وقُتلوا بسبب مقالات أو منشورات على فايسبوك، وكان يمكن أن أكون واحداً منهم، لذلك خرجت حين سنحت لي الفرصة. ما يحدث الآن من قتل وخطف وتغييب لأيّ شخصٍ يقول رأيه، يُنذر بمآل مروّع”.

  أنجز التحقيق بدعم من “أضواء”. 

إقرأوا أيضاً: