fbpx

الإجراءات الاستثنائية:
حتى لا تعود تونس إلى الوراء

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قضية حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية في تونس ليست بالترف الفكري بل يمكن القول إنها المكسب الوحيد للثورة التونسية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اتخذت تونس منذ 25 تموز/ يوليو الماضي منعرجاً جديداً في مسار انتقالها نحو الديموقراطية، بدأ بإعلان الرئيس التونسي قيس سعيد تفعيل التدابير الاستثنائية وتجميد اختصاصات مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن جميع أعضائه. هذا المنعرج لم يكن بمنطق “التغيير من الداخل” بقدر ما كان تغييراً من خارج المؤسسات الدستورية، وبطريقة أو بأخرى استهدف هذا المنعرج إحدى أهم مؤسسات النظام الديموقراطي وهو البرلمان الذي اعتبره رئيس الجمهورية “خطراً جاثماً على الدولة”. نحن إذاً إزاء فترة انتقالية أخرى داخل المسار الانتقالي الذي تعيشه تونس منذ ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، مرحلة جديدة يحتفظ فيها الرئيس قيس سعيد بصلاحيات مطلقة ويتحكم فيها لوحده بمصير الدولة، على رغم أن دستور الجمهورية يمنحه صلاحيات محددة في مجالات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية.

منذ إعلان التدابير الاستثنائية بمقتضى الفصل 80 من الدستور، فتح قيس سعيد الباب أمام محاسبة المتسببين في خراب الدولة والفساد الذي يتحكم في مؤسسات الجمهورية، إضافة إلى إصلاح القضاء ليتحول إلى قضاء في خدمة المواطن، لا في خدمة الفاسدين ورؤوس الأموال وغيرها من القضايا التي طرحها الرئيس أثناء خطاب 25 تموز، والتي اعتبرها ضرورية لاستعادة سلطة الدولة ووحدتها. على رغم أنها تدابير استثنائية ضربت مبدأ الفصل بين السلطات وجمعت كل السلطات في يد شخص واحد، وعلى رغم معارضة أحزاب الحكم وأحزاب في المعارضة وشخصيات حقوقية وقانونية إجراءات الرئيس واعتبرتها انقلاباً دستورياً، إلا أن قوى مدنية وسياسية رأت أنها ضرورية لإصلاح ما أفسده “حكم حزب النهضة” (حزب إسلامي ينحدر من فكر الإخوان المسلمين) بعد الثورة، من خلال تكريس سياسة الإفلات من العقاب للفاسدين والتحالف معهم وقمع المحتجين وخدمة اللوبيات المتنفذة في الدولة على حساب استحقاقات الثورة. وبطبيعة الحال، طالبت غالبية القوى السياسية والمدنية بضرورة تحديد سقف زمني وخارطة طريق واضحة لتنفيذ كل ما تعهد به الرئيس (وهو ما لم يتحقق إلى حد كتابة هذه الأسطر) وضمان عدم الانزلاق نحو تأبيد الحكم الفردي المناقض لقيم الجمهورية الديموقراطية.

من الإجحاف القول إن تونس عادت إلى مرحلة تكميم الأفواه والرقابة المسبقة على وسائل الإعلام وسيطرة الرأي الواحد على المشهد

ومن هذا المنطلق، عبرت فعاليات تونسية عن مخاوفها من التراجع عن مكسب الحريات وحرية التعبير والاحتجاج، وهو تقريباً المكسب الوحيد الذي تحقق على الأرض بفضل الثورة، بخاصة مع التدهور الاقتصادي والاجتماعي وحالة الصراع السياسي التي أرهقت الدولة والمجتمع. وانطلقت منذ الأيام الأولى التي أعقبت إجراءات 25 تموز، محاكمات عسكرية لعدد من أعضاء مجلس نواب الشعب (أغلبهم من كتلة ائتلاف الكرامة الموالية للنهضة)، وأغلقت قوات الأمن مكتب قناة “الجزيرة” في تونس من دون إذن، وصدرت قرارات بفرض الإقامة الجبرية في حق بعض المسؤولين السابقين في الحكومة وفي الأجهزة الأمنية وأخضعت شخصيات مالية وسياسية إلى استشارة حدودية قبل السماح لها بمغادرة البلاد. وأصبحت رئاسة الجمهورية هي الفاعل السياسي الرئيس والمصدر الوحيد للمعلومة، والمفارقة أنها لا تضع متحدثاً رسمياً باسمها، ولا مستشاراً إعلامياً يمكن التعامل معه، ما راكم صعوبات كبيرة في النفاذ إلى المعلومة وساهم في انتشار الشائعات والأخبار الزائفة والتسريبات التي زادت الوضع غموضاً. 

المحاسبة لا تتعارض مع الحرية

قضية حقوق الإنسان والحريات العامة والفردية في تونس ليست بالترف الفكري بل يمكن القول إنها المكسب الوحيد للثورة التونسية. وناضل من أجلها تونسيون وتونسيات على مر العقود منذ بناء الدولة الوطنية، لذلك حذرت منظمات وطنية ودولية في تونس من الانحراف بالسلطة نحو التضييق على الإعلام وتكميم الأفواه والإجراءات غير القانونية والمستندة إلى قانون الطوارئ (وهو قانون غير دستوري حسب تصريحات لرئيس الجمهورية نفسه)، وطالبت بأن تكون إجراءات المحاسبة وفقاً للقانون واحترام حق الدفاع بالنسبة إلى المتهمين. لكن رئاسة الجمهورية تتعامل مع الرأي العام بمنطق الصمت من دون أي تفسير وتوضيح للإجراءات المتخذة ووجاهتها وأسبابها. فعلى سبيل الذكر لا الحصر، لا نعلم ما هي الأسباب التي فُرضت بموجبها الإقامة الجبرية على عدد من المسؤولين السابقين، لماذا يُحاكم نواب أمام القضاء العسكري في قضايا لا نجد بينها قضايا فساد؟ لماذا أُغلق مكتب الجزيرة في تونس؟ لماذا لا يخاطب الرئيس شعبه ويعلمهم بتصوره للمرحلة القادمة وأهم معالمها: هل سيعدل الدستور؟ أم أنه سيدعو إلى انتخابات مبكرة؟ هل سيحل البرلمان أم أنه سيبقى معلقاً بقرار تجميد اختصاصه؟ كم ستدوم فترة الانتقال؟ كلها أسئلة تُطرح يومياً في الشارع التونسي ولدى النخب وفي وسائل الإعلام، لكن لا من مجيب. 

إقرأوا أيضاً:

من الخطأ اعتبار حق النفاذ إلى المعلومة وحرية ممارسة العمل الصحافي ترفاً يخص العاملين في الإعلام والمجتمع المدني، بل يتجاوز ذلك باعتباره حقاً دستورياً للمواطنين في المعلومة وفي معرفة مصير بلادهم، هذا دون الحديث عن مناخ الاستثمار الداخلي والخارجي وعلاقة تونس مع الشركاء والمانحين وما يفرضه ذلك من وضوح في الرؤيا واطمئنان لاتجاه البلاد نحو استقرار مؤسساتها الدستورية والديموقراطية.

من الإجحاف القول إن تونس عادت إلى مرحلة تكميم الأفواه والرقابة المسبقة على وسائل الإعلام وسيطرة الرأي الواحد على المشهد، باعتبار مواصلة وسائل الإعلام عملها بطريقة عادية، وتستضيف معارضي “الانقلاب” بصفة دورية وتعبر المنظمات والأحزاب عن مخاوفها بكل حرية. لكن تبقى المخاوف من إمكانية التراجع عن المكتسبات قائمة خاصة وأن القصر الرئاسي منغلق على نفسه ولا يتحاور مع الشعب عبر وسائل الإعلام ولا يفسر قراراته، إضافة إلى أن الإجراءات الاستثنائية لم تتوقف عند بعض المسؤولين السابقين ورجال الأعمال بل شملت عائلات البعض منهم في ما يتعلق بالسفر خارج البلاد. 

ميليشيات إلكترونية لتشويه المنتقدين والمخالفين

تجدر الإشارة إلى أن جزءاً من الإعلام التونسي (بما في ذلك الإعلام العمومي) اصطف إلى جانب الرئيس قيس سعيد واختار مساندة خياراته والترويج لها عبر نقاش حول مواضيع مختلفة يكون فيها الحضور غالبا من مؤيدي الرئيس، فضلاً عن اشتغال ماكينات تشويه في الفضاء الافتراضي (بخاصة “فايسبوك”) مهمتها مهاجمة كل رأي مخالف، وشيطنة الناقدين والمخالفين وتشويههم وهتك أعراضهم بهدف هرسلتهم وثنيهم عن الإدلاء بآرائهم، هي ميليشيات إلكترونية شبيهة بتلك التي استعملها النظام السابق قبل الثورة لضرب خصومه، واستعانت “حركة النهضة” (بمعية حلفائها) بهذه الخطة ذاتها لترهيب معارضيها وناقديها، والآن أنصار الرئيس يتبعون نفس النهج التشويهي عوض الرد الموضوعي والنقاش الحضاري. من الصعب على معارضي الرئيس قيس سعيد قبل مؤيديه أن يصدقوا أن ذلك الأستاذ الزاهد البسيط والمعارض لمنظومة الحكم الفاسدة والداعي إلى تجديد الحياة السياسية هو من يعطي التعليمات لميليشيات إلكترونية لهتك أعراض الناس لمجرد الإدلاء بآرائهم، لكن الأكيد أن جهات داعمة للرئيس تعمل على مهاجمة كل من ينتقد أداء الرئاسة حتى لو كان من المساندين. هي ممارسات فاشية خطيرة تهدد الحريات، فالاستبداد لا يُكرس فجأة بل هو جملة من الممارسات المعادية للحقوق والحريات والحكم الفردي، تجد نفسها مع مرور الزمن تحكم نظاماً استبدادياً، ولا تكفي نيات الرئيس الحسنة، فعادة ما يكون الطريق إلى الجحيم مفروشاً بالنيات الحسنة. 

إن التحدي القائم في تونس هو استثمار الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس، وهي الفرصة الأخيرة لتحقيق استحقاقات ثورة 2011، من أجل إقامة ديموقراطية حقيقية تنهض بالدولة والمجتمع والمواطن، ديموقراطية تقطع مع الفساد والزبونية وتحاسب كل من أجرم في حق تونس، ديموقراطية تضمن العدالة والحرية والكرامة للجميع.

إقرأوا أيضاً: