fbpx

من دمشق: ما زلنا على قيد الحياة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ما أجملها ونحن نحاول أن نوفر الغاز على حساب الكهرباء والكهرباء على حساب وقود التدفئة. ثم وقود التدفئة على حساب الغاز. وذلك بالتناوب بحسب توافر مصدر الطاقة وبحسب اشتداد الأزمات!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ خمس سنوات وبعد عودتي إلى “حضن الوطن”، بشكل طوعي، عشت مرحلة  الحرب و الفترة الفاصلة بين الحرب والسلم وفترة انتهاء العمليات العسكرية ضد العصابات الإرهابية، بحسب التعبير المتداول هنا، وبين رعب القذائف الإرهابية في المرحلة الأولى ورعب النصابين والسرقات وعمليات الخطف والعصابات والخوّات في ما بعد… ورعب الغارات الإسرائيلية التي تضرب قبل منتصف الليل أو بعده لتزيد من وحشته… وممارسة أساليب النفاق المتنوعة للتأقلم مع مجتمعي الذي يضمّ بشكل عشوائي  جماعات منغلقة على تعصّب ديني وأخرى منفتحة على تعصّب عرقي وثالثة متعصّبة لنسبها العريق.

عشت المماهاة مع قانون صارم لا ينطبق على الجميع.

اكتشفت أن كثيرين لا يريدون الاعتراف بالخطأ.

صارت ذاكرتي محتقنة تماماً. فعندما أحاول أن أجمع شتات تجاربي أتوصل إلى أن العمر لا يحتمل في الحقيقة أي استنتاجات جديدة وعليّ أن أعترف بأنني ارتكبت أفدح أخطائي بعودتي إلى هذا الجنون.

ومع ذلك أجد أن علي في الصباح أن أتسلّح بقهوتي وأناضل من جديد.

 أحياناً تفاجئني نسمات معطّرة برائحة الغابة. فأتوقف قليلاً لأتذكّر ما كان يربطني بدمشق سابقاً. وأسألها: ماذا تريدين مني؟

وقد يعود الحنين على شكل لحن متسرّب من نافذة الجيران. لحن قديم لم أكن أعي في طفولتي معنى كلماته أصلاً. 

أو أتلقّى اتّصالاً من صديقة قديمة فنتبادل سرد الهموم ونضحك بلا سبب.

في دمشق اليوم تختبئ مفاجآت جديدة وراء كل ركن. مفاجآت محزنة ومعيبة. كأننا نكفّر عن كل أخطاء البشرية التي مرّت على هذه الأرض وأفلتت من دون عقاب. كأننا نعيش كابوساً لا يريدنا أن نصحو منه. وعلى رغم كل شيء نحن ماضون في الحياة باستسلام وصمت. 

لن يؤدي حنق الشعب السوري من هذا الحصار إلى أكثر من مرحلة الدعاء بـ”الله يفرج”.

تدهشني تماماً درجة الإيمان العميقة لشعب عاش عشر سنوات من الرعب اليومي وتلقى طعنات الغدر ممن كان يعتبرهم جيرانه وأهله ثم عاش مرحلة التجويع اليومي وفقدان معالم الحياة بشكلها المعقول. وحرم نفسه عن قناعة تامّة من الاستمتاع بأولاده وبناته دافعاً مدخّراته ليؤمن لهم فرص الإقامة خارج سوريا.

يدهشني تمسكه بعد كل هذه الأهوال بقناعاته الأساسية: دينه وبيته وممتلكاته ولن أقول وطنه.

 يدهشني تعلّقه بإرثه المتمثل ببعض العادات… الوجبات… الأمكنة… التي لم تعد بأي حال  تشبههه.

يدهشني أكثر انعدام الحد الأدنى من المنطق في تقييم الأمور السياسية والاقتصادية.

وقناعتي أخيراً أن الرهان على إخراجه عن صمته بهذا التجويع… الترويع… التدهور اليومي في نوعية الحياة… لن يفلح.

كنا مجموعة من صديقات المدرسة نجلس بالأمس في قهوة رصيف في دمشق.

 قالت الكندية إنها تحسدنا على الطقس.

وقالت الإماراتية، ما أجمل دمشق ونحن متحرّرون من قيود الحظر.

وقالت اللبنانية أتمنى ألّا أعود إلى باريس.

أما نحن ، نحن اللاتي بقين في دمشق كنا نسكت ونوزّع ابتسامات حسن الضيافة البلهاء.

نعم، وافقنا جميعاً… البساطة هي الجمال.

ما أجمل دمشق في النهار!

 ونحن نصارع الدقائق المتبقية من فترة وجود الكهرباء لأن الغسالة لم تنهِ بعد برنامجها، والماء في السخان لم يعد يكفي لأخذ حمام فاتر!

ما أجملها ونحن نهرب من طلبات المتسولين ونصمّ آذاننا عما يقولون كلما خرجنا من المنزل لقضاء أشغالنا!

ما أجملها ونحن نصارع المرض، أي مرض، لوحدنا لأن المستشفيات تخيفنا، والأطباء نادرون، والدواء غير متوفر!

ما أجملها ونحن نحاول أن نوفر الغاز على حساب الكهرباء والكهرباء على حساب وقود التدفئة. ثم وقود التدفئة على حساب الغاز. وذلك بالتناوب بحسب توافر مصدر الطاقة وبحسب اشتداد الأزمات!

ما أجملها ونحن نفكر في بنزين السيارة إذا طرأ طارئ واضطررنا إلى رحلة أبعد من حدود مدينتا التليدة!

ما أجملها ونحن نخوض مع الخائضين غير آبهين بوباء فتك بأكثر من مليوني شخص حول العالم ونحن نعلم أنه لا مكان ولا إمكانية للمستشفيات لاستقبالنا!

وما أجملنا عندما نأوي إلى أسرّتنا بعد يومنا الحافل بالشموخ لتوقظنا بعد منتصف الليل انفجارات الصواريخ الإسرائيلية التي يرد عليها الدفاع الجوي ويسقطها كلها على ذمة الرواة أو تصيب مواقعها على ذمة رواة آخرين، فنحن لا ندقّق، لأننا لا نتدخّل في شؤون لا تعنينا!

ما أجملنا ونحن نبتلع تفاهاتكم لأننا نريد أن نحافظ على ماء وجهنا…

قد يتغيّر الزمن الرديء، لأننا قدّمنا الكثير. ولكن أتمنّى ألّا تتغير ابتسامات حسن الضيافة البلهاء.

الشمس في دمشق مجانية، والموت مجاني، والابتسامات البلهاء مجانية، وكل ما عدا ذلك غالٍ جداً.

وما زلنا على قيد حياة مختلفة كثيراً عن الحياة.

إقرأوا أيضاً: