fbpx

أنياب الانهيار تمتد إلى الموسيقى…
الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية تنازع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليست المرة الأولى التي تواجه فيها الأوركسترا اللبنانية أزمة تضع مصيرها على المحك.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نتيجة للانهيار الاقتصادي الكارثي الحاصل في لبنان والمُستمر تصاعدياً منذ سنتين، وكما كل المؤسسات الثقافية، تعاني مؤسسة الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية وضعاً صعباً يطاول ديمومتها، ويهدد استمرارية تقديم حفلاتها الموسيقية للجمهور. تواجه إدارتها تحديات صعبة وكبيرة، فيما يواجه العازفون العاملون فيها مستقبلاً مجهولاً ومحفوفاً بالمخاطر، لا يختلف عما يواجهه مُجمل العاملين في مختلف المهن والقطاعات.

ويتمثّل هذا الوضع الصعب بالنزف الحاصل في أفراد هذه الأوركسترا المؤلفة من موسيقيين لبنانيين مُقيمين، إضافة الى عدد لا بأس به من الموسيقيين الأجانب الذين بدورهم بدأوا تدريجاً، ومنذ الموسم المنصرم، بالعودة إلى بلادهم، غير راغبين في تجديد عقودهم التي على أساسها يتقاضون أجوراً مالية وبدلات أكلاف، خسرت 80 في المئة من قيمتها الشرائية كما حال كل الشعب اللبناني.

الأوركسترا إنجاز حضاري وحاجة ثقافية  

 وجود الأوركسترات السيمفونية في العالم كان وما زال يُعَدُّ من أهم الظواهر الثقافية في المجتمع وأكثرها تطوراً وديناميةً وارتباطاً بالحداثة، بحيث ساهم انتشارها في خلق مساحات ثقافية واسعة وحيوية للتفاعل والتشارك بين مختلف الشعوب والأمم، وهي على هذا إنجاز حضاري وثقافي تملكه البشرية جمعاء وإنْ كان الفضل يعود في نشوئها وانتشارها لشعوب القارة الأوروبية تحديداً.

ظاهرة الاوركسترا السيمفونية نمت وتطورت ببطء، وعلى مدى ثلاثة قرون من الزمن في أوروپا، لتصل في القرن العشرين الى الذروة شكلاً ومضموناً. 

ففي بداية القرن المنصرم أصبح وجودها واقعاً فنياً ضرورياً لأي نشاط ثقافي- فني ومصدر فخر واعتزاز للدول وشعوبها. أمّا مهمتها الأساس فتتركز على إنتاج وعي ثقافي مرتبط بالسماع الموسيقي الذي تطورت حاجة الإنسان المعاصر إليه. وقد أخذ هذا السماع الموسيقي يتطور ليصبح مجالاً خصباً في تفاعل الفرد والجماعة مع قيم إنسانية وجمالية عالمية.

الأوركسترا السيمفونية تحوّلت بالنسبة إلى المؤلفين الموسيقيين إلى مصنعٍ للإبداع والتعبير عن الأفكار والمشاعر الإيجابية والحالات البشرية جميعها، السطحية منها والعميقة، المُعقّدة والبسيطة. أمّا بالنسبة إلى العازفين العاملين فيها فأصبحت مكاناً للتعاون الإبداعي، وإطاراً معنوياً ومِهنيّاً ينتمون إليه ليصنعوا من مهاراتهم الفنية عيشاً كريماً متواضعاً. 

تاريخ موجز 

يعود استعمال كلمة أوركسترا إلى الحضارة اليونانية القديمة، ويُقصد بها المكان العام المُخصص لأداء جوقة الغناء والرقص، إلّا أن هذا المعنى تغيّر ليصبح في القرون الوسطى منوطاً حصراً بأداء مجموعة العازفين الموسيقيين الذين يعزفون في قصور الملوك والأمراء. إذْ تنافس أصحاب هذه القصور على اجتذاب أمهر العازفين ليشكلوا فرقاً موسيقية تعيش معهم لإحياء مناسباتهم والترويح عنهم. ولكن هؤلاء الموسيقيين عومِلوا من قِبل رُعاتهم الارستقراطيين معاملة الخدم في قصورهم.

عصر الأنوار والنهضة الذي مهّد لنشوء المدينة الأوروبية متبوعاً بحدث الثورة الفرنسية التي أرسىت نظام الجمهورية بعد القضاء على الملكية، أدى إلى تحرّر الموسيقيين من “استعباد” الأرستقراطيين، ليؤلفوا بعدها أطراً مِهنية جديدة أكثر تقدميةً واحتراماً لدورهم الثقافي في المجتمع. ساعد في هذا الأمر إنشاء المعاهد الموسيقية والمسارح ودور الأوبرا، التي تأسست بفعل ظهور طبقة برجوازية مدينية شجعت على ممارسة الفن الموسيقي، وأتاحته لعموم هذه الطبقة بعد ربطه بالسوق كسلعة ربحية ونمطاً لحياتها الجديدة. هكذا وباختصار شديد بدأت الأوركسترا السيمفونية بالتمأسس تحت رعاية البرجوازية الجديدة المتمركزة في المدن الناشئة حديثاً

إقرأوا أيضاً:

الأوركسترا تشكيلاً 

يتراوح عدد العازفين في الأوركسترا السيمفونية الكبيرة من 60 إلى 80 عازفاً، وهو ما كان سائداً أثناء عصر الرومنطيقية في الموسيقى، وقد تصل إلى حدود المئة عازف أو أكثر في بعض المؤلَّفات الموسيقية الحديثة. أما إذا كان عدد أفرادها 40 عازفاً، وما دون ذلك، فعندها تصبح أوركسترا لموسيقى الحُجرة التي كانت سائدة في العصريْن الباروكي والكلاسيكي.

يتوزع الموسيقيون على أربعة تشكيلات أساسية تبعاً لنوع الآلات والألوان الصوتية الصادرة عنها: قسم الآلات الوترية، قسم الآلات الهوائية/ الخشبية، قسم آلات النفخ (الآلات النحاسية)، وأخيراً قسم آلات القرع (الإيقاعية). وثمة توازن دقيق يتحكّم بالعدد المطلوب من العازفين لكل من هذه التشكيلات، ويختلف هذا العدد باختلاف المرحلة الموسيقية وتطورها أو وفق طبيعة العمل الموسيقي المنْوي تنفيذه.

التمويل المالي للأوركسترا

كثيرة هي الأوركسترات في أرجاء العالم ومتنوعة من حيث الحجم والأهمية والقدرة على التمويل. فثمة أوركسترات عريقة لا تزال تعمل منذ أكثر من مئة عام، فيما قد يتوقف بعضها بعد سنوات معدودة، والسبب في ذلك يعود الى مشكلة التمويل المالي من حيث الملاءة والديمومة.

والمعلوم أنّ النتاج الصافي لعمل الأوركسترات السيمفونية في العالم لا يتمحور حول رأس المال وتراكم أرباحه الفائضة كالتجارة بالسلع مثلاً، بل يتكثف في مُحصِّلته النهائية كنتاج للوعي الفني والثقافي، بهدف تحقيق مستوى أفضل في العيش للفرد والمجتمع. لذا تبذل المؤسسات الأوركسترالية في العالم جهوداً جبارة في الإبقاء على وجودها فاعلة من خلال موازنة مداخيلها التمويلية مع مصاريفها الضرورية.                 

فتكاليف الأوركسترات غالباً ما تكون عالية جداً تبعاً، أولاً لأجور العازفين المهرة فيها والذين يتم التنافس على جذبهم، وثانياً لأثمان الآلات الموسيقية وكلفة صيانتها، إضافة إلى تكاليف مالية كثيرة تحيط بعملية إنتاج الحفلات الموسيقية كاستئجار أماكن مجهزة للتمرين اليومي وتكاليف التسويق والتنقلات والسفر والمدونات الموسيقية باهظة الثمن.

هناك ثلاثة أنواع من الأوركسترات تبعاً لطريقة تمويلها المالي:

النوع الأول، ويعتمد على تمويل ثابت ومستدام يأتي عبر قنوات حكومية كوزارة الثقافة أو بلديات المدن الكبرى، بحيث يُخصص جزء من ضرائب المُكلّفين كموازنة سنوية من أجل هذا التمويل، على أن تكون حفلات هذه الأوركسترا مجانية ومتاحة للجميع. عادة ما تنعم هذه الأوركسترات بديمومة عملها ولكن مع أجور متوسطة للعاملين فيها. 

النوع الثاني، يعتمد في تمويله على عطاءات سخية من القطاع الخاص كالشركات الصناعية العملاقة أو المصارف الغنية برأسمالها، التي تستفيد بدورها من قوانين الإعفاءات الضريبة المشروطة عبر هذه العطاءات. ويشترط هذا النوع من التمويل، الإشراف الإداري والتدقيق المالي على أعمال الأوركسترا وقد يصل حتى إلى فرض معايير وخيارات غير ملائمة، كتعيين أشخاص غير جديرين إدارياً أو فنياً. وعلى رغم كون أجور العاملين في هكذا أوركسترا تكون عالية جداً، إلا أن تقلبات الأرباح والأزمات الاقتصادية التي يمكن ان تحصل للشركة المُموِّلة، تجعل الوضع المالي فيها غير مستقر وعرضة لاهتزازات عنيفة.

أمّا النوع الثالث في التمويل، فيرتكز على شكل الشركة التعاونية التي يُنشئها الموسيقيون في الأوركسترا، متعاقدين مع مجموعة صغيرة من المتخصصين في الإدارة والتسويق، ومستعينين بتبرعات صغيرة وموسمية من أشخاص أثرياء يشجعون الموسيقى، أو من مؤسسات غير حكومية تهتم بدعم الفن والثقافة. في الوقت الذي تتكون أجور العاملين في هذا النوع من الأوركسترا بشكل أساسي من عوائد بيع بطاقات الدخول للحفلة، التي تكون مرتفعة الثمن. ولذلك تعيش هكذا أوركسترا حياة غير مستقرة، بينما أجور العاملين فيها تتغيّر تبعاً لانخفاض حركة المبيع على شباك التذاكر أو ارتفاعها.

عودة إلى الأوركسترا السيمفونية اللبنانية 

ليست المرة الأولى التي تواجه فيها الأوركسترا اللبنانية أزمة تضع مصيرها على المحك. فقد سبق أن استطاع المعهد الوطني الموسيقي في منتصف القرن الماضي إنجاز التأسيس الأول لأوركسترا متواضعة من حيث عددها وبرامجها الموسيقية. إلا أن اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، أوقف نشاطها بعدما هرب جميع العازفين الأجانب العاملين فيها، وهاجر معظم العازفين اللبنانيين المنتمين إليها من دون رجعة. الأعمال الحربية التي امتدت على مدى 15 عاماً أجهضت نهضة فنية موسيقية كان يضطلع بها المعهد الوطني للموسيقى- الكونسرفاتوار الذي كان مُشرفاً آنذاك على إدارة هذه الأوركسترا الصغيرة والتي لم تكن قد أخذت شكل المؤسسة بعد، بيد أنها كانت بمثابة المحرك الأساس للحياة الموسيقية في لبنان.       

اليوم وفي ظل الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة في التاريخ البشري، تواجه مؤسسة الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية، والتي يُشرف عليها مجلس إدارة المعهد الوطني العالي للموسيقى- الكونسرڤاتوار، الظروف ذاتها والمصير ذاته. والتحدي الكبير والصعب يتلخص بكيفية الحصول على عطاءات مالية إضافية من خارج موازنة الكونسرفاتوار، لتعويض ما خسرته أجور العازفين فيها بحيث يتم رفعها إلى الحد الأدنى الممكن لجذب العازف الموسيقي الأجنبي المُستقدم من الخارج كما للعازف اللبناني المُقيم.

ويطرح هذا التحدي أسئلة وهواجس كثيرة، منها ما يتعلق بهوية الجهة الراعية والشروط التي على أساسها يمكن أن تُقدَّم هذه العطاءات المالية، وإذا كانت قيمتها تُلبي حاجات جميع العاملين فيها لأمد طويل، من دون تمييز بين لبناني وأجنبي. ومن الهواجس أيضاً ما يتصل بإدارة هذه العطاءات المالية لناحية تأمين حُسن استعمالاتها وشروط الشفافية، لا سيما أن إدارة الكونسرفاتوار كمؤسسة عامة لا يحق لها استقطاب التبرعات وتجميع والعطاءات المالية من دون إشراف وزارة المالية ومراقبتها. وتنبثق أسئلة مُلحّة تتعلق بحجم هذه الأوركسترا السمفونية في هذه المرحلة الصعبة، والتي لا شك في أنها ستتطلّب تنازلات كبيرة على أكثر من صعيد وتقشفاً صارماً لميزانيتها. ما يفرض على الموسيقيين اللبنانيين بذل الجهد والطاقة لاستعادة دورهم التأسيسي فيها. كما تُطرح أسئلة حول قدرة إدارتها الفنية على استشراف رؤية جديدة لبرمجة حفلات موسيقية، لا تهدف إلى الحفاظ على المؤسسة وموقعها الثقافي المميز، وحسب، بل والأهم أن تأتي منسجمة مع إعادة هيكلة حجمها، فتكون قادرة على استعادة جمهورها المتابع وجذب جمهور أوسع مُبْقِية حفلاتها مجانية ومُتاحة للجميع.                                    

 ما أشبه اليوم بالأمس، وكأنه قدر ملعون يلاحق هذا “اللبنان” الصغير بمساحته، والمُتنوِّع بشعبه وثقافته. قدر ينتجه أهله المُتحاربون دوماً ونظامه السياسي المأزوم أبداً، فيواجه في كل فترة زمنية قصيرة دورة دمار بعد كل إعمار… إنها تراجيديا التدمير الذاتي لكل شيء جيد وإيجابي. قدر ملعون لا يُشبه سوى  الانتحار.

ومن على تخوم هذا القدر يُواجِهُ موسيقيون لبنانيون في الأوركسترا الفلهارمونية كما في الأوركسترا الشرق- عربية، الأزمة الطاحنة، مُتمسكين بآلاتهم الموسيقية كفلذات أكبادهم، رافضين التخلي عن دورهم الريادي في نشر الثقافة الموسيقية ورافضين الهجرة أو التحول الى مهن أُخرى، مطالبين مجلس إدارتهم بالسعي الحثيث إلى إيجاد الحلول الناجعة لتخطّي الأزمة، وداعين جمهورهم الكبير والمتنوع الذي استمع إلى حفلاتهم مُستمتعاً بها طيلة عشرين عاماً، إلى التضامن المعنوي معهم أقلّه، إذا لم يكن التضامن المادي متوافراً.         

إقرأوا أيضاً: