fbpx

قبل أن أخلد الى النوم…

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أتقلب منزعجة من الحر والضجيج والأفكار التي، فتحت النافذة طالبة الهواء، فعُصفت بها. أحاول أن أفكر بالغد او بالأمس فأكتشف أنهما يشبهان اليوم بقتامتهما. أهرب من التفكير إلى التطلع على الشارع المزدحم بشؤمه…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أرق بعد نهار طويل من تحمل العمل و”النق” والوقوف بطابور الخبز ثم الغاز ثم الوقود، يقودني الى الفراش ليلاً، فأستلقي مستمتعة بساعات الكهرباء الأخيرة، متنعمة بالتكييف قبل اللجوء مجبرةً إلى فتح النافذة. تمر ساعات الرخاء الهادئ بسرعة ثم تعود الحياة الصاخبة فور تحريكي مزلاج النافذة الحديدي باتجاه عقارب الساعة التي تضطجع فوق بعضها معلنة انقطاع الكهرباء اليومي. مؤشرة الى السقف الناقل لتحركات العالم الخارجي الذي يقتحم الغرفة كمتنصت يتكئ على باب  فُتح عليه أثناء تنصته، عندما تُفتح النافذة سامحة للحياة بالدخول وللغرفة بأن تعجّ بتسمّر الجيران على الشرفات منتظرين جود الحياة عليهم بنسيم عليل. 

تدخل الشخصيات واحدة تلو الأخرى في التراجيديا المسموعة. تفتتح المسرحية الطفلة القاطنة في البناية المقابلة بصوتها العالي الذي أفكر كل يوم بالتذمر منه لأمها، قبل أن أفكّر بما تعانيه الطفلة من ضيق المساحات العامة المخصصة للأطفال في الصيف وثقل النظام التعليمي الإلكتروني في الشتاء وتفشي الوباء في السنتين الأخيرتين. وبذلك اعتدت النوم على رغم الضجيج كي لا أكون نسخة بشرية من الانهيار الذي لا يفرق بين طفل وراشد وكهل. 

ثم تدخل الشخصية الثانية بمؤثرات صوتية. فأسمع نشرة اخبار، كسائر سكان الحي خلال الفترة الأخيرة بعدما أضاع العم سماعاته وزبائن دكانه المتواضع، وأصغي لتأففه وذهوله لمعرفة قدرة الانهيار على جعل حواسه هاجساً أمام تأدية عمله وقدرته على تقليص معاشه وزيادة مصروفه. ليعود ويتذكر أن الحياة قبل الانهيار لم تكن أحسن بكثير على عكس ما تقوله المذيعة على شاشة هاتفه المكسورة. فيصارع الاعلامية التي لا تسمعه من على كرسيه الذي يكاد لا يحمله، ناهياً وسائل الإعلام عن تكذيب ذاكرته التي، على رغم تقدمه بالسن، تعي أن ضمان الشيخوخة كان حلماً بعيد المنال في “الأوقات الأقل صعوبة”. والتي تعي أيضاً أن من هم بالقاع ما زالوا يمكثون هناك، بل رحبوا برفاق جدد انضموا إلى النكبة، لتخفيف وطأتها.

الجميع ينصت إلى الخبراء الذين يقولون إن الأزمة تنتهي بسبع سنوات ثم يقولون بعشرين سنة ثم يحددون شروطاً تعجيزية للبلد المتنامي ليرجع الى وقت ما قبل الازمة.

فيتقاسم شخص وجاره فاتورة الانترنت السيئ وفاتورة الكهرباء التي اصبحت تطرق الباب مرة كل ثلاثة اشهر لان الدولة تقتصد الأوراق ورواتب الموظفين وبدل النقل. يسهران مع عائلتيهما حول شمعة واحدة. يستعينان ببعضهما كمعالجين نفسيين لأن ثقافة زيارة معالج نفسي وكلفة الذهاب اليه مفقودتان لديهما. فتنفرج اساريرهما بحالتين: الأولى عندما يحاول أحد منهم التخفيف عن الآخر، بتذكيره بأن الجميع يعاني من المشكلات ذاتها (كأنه أمر طبيعي) فيرتاح الآخر لتطبيع المعاناة التاريخية وغير الطبيعية للطبقات المهمشة. والثانية عندما يسمع عن مستجدات البطاقة التموينية أو إمكانية حصوله على العملة الخضراء من إحدى الجمعيات غير الحكومية، بدلاً من المساعدات العينية الرثة التي لا تأخذ في الاعتبار اختلاف الاحتياجات بين شخص وآخر. فأبتسم بشفقة لبهجته الساذجة قبل أن أتذكر أن الغريق يتعلق بقشة. 

ينضم الى الشخصيات ناطور البناية، الذي بترت رجله خلال الحرب الأهلية. يحاول الرجل جعل الوقت يمر أسرع، ودائماً يفشل. ينهي كلامه القليل عن امل وبحبوحة  (أو ما يظنه هو بحبوحة) وجدا خلال الحرب وفقدا الآن. بحبوحته تعني قدرته على تأمين حاجاته الأساسية من عمل يتيح له بضع ساعات من الراحة خلال النهار. وبذلك يقارن وضعه اليوم بوضعه آنذاك. مشككاً بمعنى السلم المكرر والملقن الذي يستنكره بظل الفراغ الروتيني … الوقت كان أسرع في زمن كان له خلاله وجود وهدف فقد أهميته في أيام “السلم المخترع”. الوقت كان أسلس عندما كان موعوداً.

الجميع ينصت إلى الخبراء الذين يقولون إن الأزمة تنتهي بسبع سنوات ثم يقولون بعشرين سنة ثم يحددون شروطاً تعجيزية للبلد المتنامي ليرجع الى وقت ما قبل الازمة. ويؤثر سكان الحي أن يصدقوا وينتظروا ناسين، أو متناسين، أن حقبة “ما قبل الأزمة” هذه ليست حقبة وردية كما يصورها الإعلام أو الخبراء. ربما كانت وردية لكن ليس تجاههم.

ينسى جيراني أن الضمان الصحي الشامل حلم من زمن “ما قبل الانهيار”. وينسون أن مجانية التعليم، أو شبه مجانيته، تصاحبها هشاشة النظام التعليم الرسمي وسوء إدارته وتدني مستوى خدماته. كما يتجاهلون كون تمضية عطلة نهاية الأسبوع في أحد المنتجعات السياحية أو السفر أو حتى الترفيه الأسبوعي أو الشهري مستحيلة بلا استدانة على الأرجح قد لا يجدون إليها سبيلاً. ناهيك عن السفر وامتلاك أحدث الإلكترونيات وشراء ثياب من ماركات أجنبية، عوضاً عن البالة التي يسترون أنفسهم بها وعمليات التجميل التي لطالما فقدت من حياتهم اليومية. فابتسم مرة ثانية بشفقة ثم أعود وأتذكر أن الغريق يتعلق بقشة. 

إقرأوا أيضاً:

أتقلب منزعجة من الحر والضجيج والأفكار التي، فتحت النافذة طالبة الهواء، فعُصفت بها. أحاول أن أفكر بالغد او بالأمس فأكتشف أنهما يشبهان اليوم بقتامتهما. أهرب من التفكير إلى التطلع على الشارع المزدحم بشؤمه، فإذا بثلاث شمعات وعيون صابرة وبعض من الأمل. آمل أن القشة التي يتعلقون بها ستقسم ظهر البعير فيطلعون من عتمة الضواحي إلى حرية الساحات مستبدلين الشموع بشعلات النار والامل بالغضب والصبر بالنضال.

وتتحول التؤدة إلى شرارة تنير طريق المهمَشين لترشدهم إلى غد أفضل وتخيف المهمِشين. وبين ميم مكسورة وأخرى مفتوحة مستقبل يقلب الموازين لمصلحة حركة، الفتحة والمقاومة معاً، ضد أخرى، الكسرة والطغيان فعادة ما تولد الثانية كسرة في النفس فلا تحل إلا بزوال الطغيان. 

تتحرك هذه الخلجات في نفسي بقليل من السرور وكثير من التوجس والقلق، فتعثرات التاريخ على طريق الاقتصاد تعلمنا أن كثيراً ما كان أحدهم يحترق لينير درب الآخرين، بينما دُهشوا بنور شاشة تزف من خلالها المذيعة نبأ استقدام بواخر كهرباء، قبل انقطاع آخر للتيار الكهربائي وتدغش الدنيا من جديد. يسود السكوت وبهذه الفكرة أخلد إلى النوم. 

إقرأوا أيضاً: