fbpx

خذلان الأميركيين لحلفائهم: تجربة 1958 في لبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في 1958وصلت قوات “المارينز” إلى لبنان. تقدّم الجنود، نازعين قمصانهم، رافعين بنادقهم، في الماء، في دهشة من المتشمسين على الشواطئ قرب بيروت. ساعدهم بعض الفتية في رفع معداتهم إلى الشاطئ، محاولين بيعهم شراباً ومثلجات. “جاك، أتريد مشروباً غازياً؟”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

وصلت قوات “المارينز” إلى لبنان. تقدّم الجنود، نازعين قمصانهم، رافعين بنادقهم، في الماء، في دهشة من المتشمّسين على الشواطئ قرب بيروت. ساعدهم بعض الفتية في رفع معدّاتهم إلى الشاطئ، محاولين بيعهم شراباً ومثلجات. “جاك، أتريد مشروباً غازياً؟”.

التحق بهم في بضعة أيام عشرات آلاف رجالات الجيش الأميركي في شمال المدينة وجنوبها، ومع الوقت الذي رحلوا فيه عن أرض العسل واللبن، كانت قوّات المارينز قد أنهت حرباً أهلية وأوقفت السوفيات، وأنقذت حليفاً أميركياً.

هكذا تروى قصة الخامس عشر من تموز/ يوليو من عام 1958 “أروع ساعات” الرئيس دوايت أيزنهاور كما يسمّيها البعض. إلا أن قمة المجد الأميركي حوصرت بسنوات من الفشل والأساليب السياسية التي ستقود مسؤولين إلى الإحباط، وإلى كوارث في العقود التالية.

اعتبرت إدارة أيزنهاور، وهي لم تكد تستقر بعد في السلطة، الشرق الأوسط ساحةً “ذات أهمية سياسية واستراتيجية واقتصادية عظيمة للعالم الحر”. أرسل أيزنهاور بعدها وزير الخارجية الجديد، جون فوستر دالاس، في جولة إلى المنطقة. لم تكن تلك أبداً زيارةً من النوع الذي تحتسي فيه الشاي ثم تمضي إلى سبيلك، فقد صرح وزير الخارجية دالاس بأن المصالح الأميركية “ستواجه خطراً محدقاً إذا ما وقع (الشرق الأوسط) تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي”.

ومع دخول المسؤولين الأميركيين إلى المنطقة، دعاهم القادة اللبنانيون إلى دراماتهم السياسية المعقّدة. كان الرئيس اللبناني كميل شمعون، وقيصر السياسة الخارجية، الدكتور شارل مالك، رائدي إصلاح متعطّشين للأمركة، ومتحمّسين للعمل مع الولايات المتحدة.

الرئيس اللبناني كميل شمعون مع الملك العراقي فيصل عام 1957

أكد شمعون لوزير الخارجية الأميركي دالاس أثناء زيارته بيروت، أنه “في حالة الحرب مع السوفيات، سيقف لبنان مئة في المئة بجانب الغرب، وستفتح موانئنا لسفنكم، وستفتح مطاراتنا لطائراتكم”. وصرّح مالك بأن الشرق الأوسط “مستعد نفسياً لقيادة أميركية”، وأن اللبنانيين متحمّسون بشدة لاستعادة دورهم “كجسور سياسية وثقافية بين الشرق والغرب”.

وعلى رغم أنهما كانا رجلي دولة مخلصين، إلا أن شمعون ومالك لم يكونا ممثلين لكل اللبنانيين. لم يتمكّنا حتى من التوصل إلى إجماع بين النخب. لكن شمعون تحالف مع الولايات المتحدة في كل حال، وساعد في إنشاء ائتلاف من المحافظين في المنطقة، الذين رأوا في الولايات المتّحدة حامياً محتملاً من الشقاق الداخلي والعدوان الخارجي. سمح شمعون لسفن البحرية الأميركية بالرسو في الموانئ اللبنانية، واعتمد على المساعدة الأميركية لتطوير المطار الدولي، والطرق، والمرافق التجارية، وسمح للاستخبارات الأميركية بإنشاء شبكات واسعة انطلاقاً من عاصمته.

أراد شمعون المزيد من التعاون مع الأميركيين، فطالب بتحالف كالناتو في الشرق الأوسط: منظمة دفاعية مستندة إلى معاهدة بقيادة الولايات المتحدة، كانت وفقاً لحساباته ستصمد أمام تغير الأنظمة والعواصف السياسية. كان أيزنهاور، أيضاً في البداية يميل إلى ترتيبات مماثلة، إلا أن وزير الخارجية دالاس رأى أن تحالفاً كهذا سيكون “معقداً” و”مبالغاً فيه” أكثر من اللازم بالنسبة إلى منطقة مضطربة كالشرق الأوسط. بدلاً من ذلك، حث المسؤولون الأميركيون قادة المنطقة الشمالية في تركيا والعراق وإيران وباكستان لتشكيل جبهة ضد الاتحاد السوفيتي.

وحين شكل هؤلاء القادة “ميثاق بغداد” مع بريطانيا، رفض أيزنهاور الانضمام إلى الحلف. في المقابل، توقف شمعون عن اتخاذ خطوات كفتح قاعدة أميركية في بيروت، أو ضمان حرية جوية، أو التنغيص على قادة سوريين، خطوات ربما أحالت علاقته الناشئة مع الولايات المتحدة إلى شراكة دائمة.

على هذه الخلفية، أمضى القادة الأميركيون واللّبنانيون حقبة خمسينات القرن الماضي محصورين في سجال ديبلوماسي، حيث أصبحوا الأوائل في صفّ طويل من القادة، يدعون إلى تدخل أجنبي على أسس غير واضحة في لبنان، ويكافحون من أجل إرساء توازن بين المصالح والمُثل، في الولايات المتّحدة. كان شمعون ومالك يتوسلّان لمساعدة أكبر، ودعم أقوى، أو لضمانات أوضح، وكان الأميركيون يرفضون، أو يترددون، أو يتأخرون. ما كان للمسؤولين الأميركيين أن يلتزموا التزاماً كاملاً أمام رجل لا يستطيع أن يفي بما يُتوقع منه. وشمعون لم يرد، أو لم يستطع أن يفعل ذلك بغير التزام الأميركيين أمامه بشكل كامل.

مناصرون لجمال عبد الناصر في طرابلس شمال لبنان 1958

استولى الرئيس المصري جمال عبد الناصر، عام 1956 على قناة السويس، ليصبح رمزاً لمقاومة الشرق الأوسط للقوة الغربية. وبينما كانت بريطانيا، وإسرائيل، وفرنسا، والولايات المتحدة تتشارك مخططات كبيرة، كان شمعون يضايق ناصر إقليمياً، ويطارد اليساريين محلياً. رفض قطع علاقاته مع الدول الغربية، وعين حكومة محافظة، وأبقى على بيروت مركزاً مفتوحاً للوجود الغربي.

حين أعلن أيزنهاور عام 1957 أن الولايات المتحدة “ستحمي وحدة واستقلال الدول التي ستطلب العون ضد أي عدوان مسلح صريح من أي دولة تسيطر عليها الشيوعية الدولية”، تشابكت مواقف الرجلين مجدداً، ففي حين رفض ناصر مبدأ أيزنهاور الجديد واعتبره “أداةً” استعمارية، أيدها شمعون بحماسة واعتبارها رمزاً لصحوة أميركية طال انتظارها.

وفي الوقت الذي اشتبك ناصر وشمعون في المنطقة، هاجم قادة اليسار اللبناني شمعون من الداخل. بدأ شمعون يبذل قصارى جهده ليفوز بأغلبية ساحقة في البرلمان ليتمكن من هندسة تمديد فترة رئاسته. وعلى رغم أن المسؤولين الأميركيين كانوا مذبذبين (بين مرشحي السلطة)، فقد قرروا أن يدعموا رجلهم في انتخابات لبنان البرلمانية عام 1957 قبل أن يقلقوا بشأن ما إن كان سيسعى إلى البقاء في السلطة بعد عام 1958.

بعد أن زاد شعوره “بعدم الأمان”، طلب مالك في أوائل عام 1958، وكان يشغل منصب وزير الخارجية آنذاك، من الولايات المتحدة  التزاماً أكبر. إلا أن السفير الأميركي بعد أن سئم مما سماها “شخصيات بيرانديلو” في بيروت، قال بشكل مقتضب للبنانيين “إن الله يساعد أولئك الذين يساعدون أنفسهم”.

ضرب ناصر بعدها مجدداً، وأقام الجمهورية العربية المتحدة باتحاد مصر وسوريا تحت قيادته في القاهرة. ذهب عشرات آلاف اللبنانيين وغيرهم إلى دمشق للاحتفال بالدولة الجديدة في قلب بلاد الشام، وهتفوا مطالبين بالانضمام إليها. طالب قادة يساريون لبنانيون من شمعون بأن يبتعد من الغرب وأن يعلن أنه لن يحاول تخليد نفسه على عرش لبنان. إلا أن شمعون شرع في تعديل الدستور ليبقى في السلطة، ما دعا اليساريين إلى مطالبته بالتنحي فوراً.

يدعم الأميركيون حلفاءهم إلى أن يتفقوا مع خصومهم. ظل الأميركيون لأسابيع يلحّون على شمعون لعزل شهاب من منصبه وإقحام الجيش في العمليات العسكرية. بعد ذلك، أرسل الأميركيون عشرات آلاف الجنود من الجيش ليساندوا شمعون، ويوقفوا السوفيات وعبد الناصر من التقرّب إلى لبنان

بدأت الفصائل في الاقتتال عام 1958. أمن الجيش بنى تحتية مهمة، لكنه بخلاف ذلك بقي خارج الصراع. وخلال مناوشة جاوزت الحد المعهود في عنفها، وضع شمعون قميصاً أصفر، وصعد إلى سطح قصره يطلق النار على المتمردين من بندقية صيده القديمة.

ظل صناع القرار الأميركيون متردّدين. وحاول شمعون ومالك استصدار قرار أميركي للتدخل تحت قانون أيزنهاور. وعلى رغم أن قانون أيزنهاور “ما زال عرضاً قائماً”، إلا أن المسؤولين الأميركيين تهربوا من شمعون لأشهر، يحيلونه تارةً إلى الأمم المتحدة، وتارةً أخرى يحاولون التفاوض مع عبد الناصر في القاهرة للوصول إلى مخرج من الأزمة.

في نهاية المطاف، ذهب الأميركيون فجأة إلى بيروت بسبب بغداد. في 14 تموز/ يوليو 1958، قامت مجموعة ممن يسمون أنفسهم الضباط الأحرار على غرار ثورة عبد الناصر في مصر، بإعدام الملك فيصل الثاني وجروا رئيس الحكومة الموالي للغرب في شوارع بغداد. شعر شمعون بالغضب والخوف وسارع إلى مطالبة الأميركيين بالتدخل “خلال 48 ساعة” من دون قيد أو شرط.

أرسل أيزنهاور قوات البحرية الأميركية “المارينز” إلى لبنان في اليوم التالي. على رغم أنهم كانوا يفكرون في التدخل منذ سنوات، إلا أن الأميركيين دخلوا لبنان من دون استراتيجية شاملة أو حتى خطة سياسية محدودة للقيام بعمل عسكري.

مقاتلون في المختارة في جبل لبنان خلال حرب عام 1958

ومع انتهاء فترة شمعون الرئاسية وتصارع الفصائل، قرر مبعوث أيزنهاور، روبرت مورفي أن قائد الجيش اللبناني فؤاد شهاب يجب أن يخلف شمعون، على رغم أن الأميركيين كانوا يعتبرونه رجلاً ضعيفاً لا يعول عليه. وبالفعل لم تنجح جهود شهاب في حل الأزمة.

كان شمعون وحلفاؤه الأميركيون في البداية ينتقدونه لضعفه وتردده، قبل أن يبدأوا في التساؤل عما إذا كان شهاب يلعب لعبة سلبية من أجل السلطة. في الوقت ذاته، رأى اليساريون اللبنانيون في شهاب رجلاً حصيفاً وربما زعيماً. واقترح عبد الناصر، خلال لقائه بوفد أميركي في القاهرة، أن شهاب يمكنه المساهمة في انتقال السلطة بعيداً من شمعون.

يدعم الأميركيون حلفاءهم إلى أن يتفقوا مع خصومهم. ظل الأميركيون لأسابيع يلحون على شمعون لعزل شهاب من منصبه وإقحام الجيش في العمليات العسكرية. بعد ذلك، أرسل الأميركيون عشرات آلاف الجنود من الجيش ليساندوا شمعون، ويوقفوا السوفيات وعبد الناصر من التقرب إلى لبنان. وعند وصولهم إلى لبنان، أمر الأميركيون حليفهم بالتنحي ليخلي الطريق للرجل ذاته الذي أراده عبد ناصر منذ البداية.

حاول المسؤولون الأميركيون استخدام الحل العسكري لتحقيق ما فشلوا فيه سياسياً. أنفقوا قدراً هائلاً من الطاقة والمال والوقت ليحققوا بعض النجاحات: حيث سمحوا لشمعون باستكمال فترته الرئاسية، واستعادوا صدقيتهم التي ضاعت في السنوات الأخيرة، وأصلحوا علاقاتهم مع دول الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، التي ساءت أثناء أزمة السويس. لكنهم لم يأمنوا، فضلاً عن أنه كان عليهم أن يحافظوا على نجاحاتهم، بالاستثمار في حلفائهم أثناء التدخل وبعده. بعد إنزال القوات، قطع المسؤولون الأميركيون المساعدات المالية والعسكرية، ورفضوا تقديم الدعم السنوي، ولم يضعوا خطة سياسية لما بعد الصراع لدعم القادة المؤيدين لأميركا في لبنان.

حتى أيزنهاور لم يستطع أن يرى المشهد بوضوح، على رغم أنه أصر على التخطيط “طويل المدى” وعلى تقديم الأهم على العاجل، أمضى خمس سنوات يترنح بين نهج وآخر وتحالفات واتفاقيات وحملات سرية ودعم دعائي وحملات عسكرية. رفض أيزنهاور اقتراحاً ضمنياً من رئيس وزراء بريطانيا بتوسيع العمليات في الشام والخليج العربي، وليس فقط البقاء في مواقعهم. على رغم ذلك، رأى لبنان كآخر فرصة له لفعل شيء ما، معتقداً بأن الولايات المتحدة يجب أن تتحرك أو تخرج من اللعبة نهائياً.

قرر الأميركيون التدخل في النهاية، ثم أُجبروا على الخروج. وعلى المدى البعيد عادوا إلى الأنماط السياسية ذاتها التي أدخلتهم في مغامرتهم السخيفة في لبنان. أخطأ الأميركيون في تصوراتهم وأساءوا فهم أفعال الآخرين وحتى أولئك الذين لم يحركوا ساكناً، قبل أن يُساء فهمهم في النهاية من قبل الآخرين.

عندما وصل الأميركيون إلى لبنان منذ ستين عاماً، حققوا نجاحاتهم مصادفةً، ثم تسببوا من دون قصد لأنفسهم في خيبة أمل مستقبلية. شاركت قوات “المارينز” في حرب لبنان الأهلية بصفتها قوات حفظ سلام، محاولة استخدام الحل العسكري لإنقاذ ما خسرته سياسياً، بينما تراودها أحلام الرقص على شواطئ بيروت. لكنها اصطدمت بكارثة أخرى: تفجيرات وصراع آخر في الشام.

هذا المقال مترجم عن موقع the New Republic ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي