fbpx

الزمن هنا أبطأ مما تظن…
حكايتي داخل سجن مصري انفرادي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حين كنت في التاسعة عشرة من عمري وجدت نفسي أواجه تجربة جديدة عليّ، اختطفت من بيتي وعائلتي وجامعتي ليزج بي في عالم السجون والأقسام. وكانت عليّ مواجهة هذا العالم، وأنا لا أعرف كم من الوقت سأمضي في هذا المكان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في هذا المقال يستعيد محسن محمد تجربة سجنه في مصر التي استمرت خمس سنوات. ومحسن اعتقل عام 2014 عندما كان في التاسعة عشر من عمره. قبض عليه من حرم الجامعة بعد تظاهرة مناهضة للحكم العسكري وخرج من السجن في عام 2019.

في غرفة التأديب الانفرادي كنت أرصدُ الزمن. لم أكن أستحثهُ على المضي قُدماً لانتهاء فترةِ عقوبتي، فذلك شيء مؤلمٌ ولا جدوى منه عملياً، ولأن التعود سكونٌ لحاسةِ الزمن، فقد تعودت منذ فترةٍ على هذه الحالة. لم أكن أستحثُ الزمن على الجريان. إنما كنتُ أراقبهُ. ألعبُ معهُ لُعبةً انفرادية. الزمن شيءٌ مخيف، لكنه أيضاً لُعبة ممتعة. أحجية مثيرةٌ للذهنِ ومحيرة.

الزمن  في لحظات معينة، من فرط نشاطه وخفته لا نكاد نشعر بأن له وجوداً. إدراكنا الحسي للزمن يتغير. وبتغيير الأمكنة أيضاً، لكن يبدو أن ثمة خللاً يعتري العلاقة بين السجن والزمن لأن المكان هنا محدود جداً ومحدد جداً، والزمان غير محدود وغير محدد، وخارج بالكامل عن السيطرة. 

الزمن يكتسب هذه الخاصية الهائلة من ضيق المكان نفسه. إنه يتغول في الأماكن الضحلة. وكلما ازدادت ضحالة المكان ازداد تغول الزمن باطّراد. وهكذا تعرقل جريانه وتكبح تدفقه حوائطُ السجن وجدرانه الضيقة. وتزداد كثافة الشعور بالزمن على السجين في زنزانته الانفرادية، أكثر من الزنزانة العادية، بأن يصبح الزمن أكثر ثقلاً وكثافة،حتى يكاد المسجون الانفرادي يشم رائحته ويلمسه بيده في الأشياء القليلة الموجودة في محيطه.

الزمن بين الزنزانة والحبس الانفرادي

حين كنت في التاسعة عشرة من عمري وجدت نفسي أواجه تجربة جديدة عليّ، اختطفت من بيتي وعائلتي وجامعتي ليزج بي في عالم السجون والأقسام. وكانت عليّ مواجهة هذا العالم، وأنا لا أعرف كم من الوقت سأمضي في هذا المكان. في البداية، كانت الأيام تمر ببطء وتثاقل لا مثيل لهما، كعملية نحت في الجبل، أو كأن هناك قوة جبارة تصد الأيام بيدها. وكان هذا البطء الهائل يرجع في الأساس إلى الصدمة من وجودي في هذا العالم الموازي بهذه البساطة وهذه السرعة، وكون هذا العالم موجوداً بهذا الاقتراب. وأيضاً يرجع إلى أن المسجون عادةً كلما كان أكثر توقعاً وتعلقاً بالحرية وأكثر توقاً لها، كان الزمن أكثرَ تكاسلاً وبطءاً. 

في البداية كنت أحسب فترة اعتقالي بالساعة، ثم باليوم، وتحولَ هذا المعيار الحسابي الصغير للزمن بعدها إلى مواعيد الزيارات الثابتة كل أسبوعين، ثم بعد ذلك إلى المناسبات السنوية والأعياد. إن الحلقة دائماً ما كانت تتسع منتقلةً من الوحدات الزمنية الصغرى إلى الوحدات الأكبر. وكنت أسأل نفسي، هل معنى ذلك أن تعاقب الزمن وتواليه في المكان يجمدنا؟ أكلما تمادى في المرور يسكن ويخمدُ حواسنا الملتهبة؟ ثم سؤال آخر وهو الأهم٬ هل هذا التسكين لحاسة الزمن والاعتياد على السجن يعدّ شيئاً سلبياً أم إيجابياً؟

ذات مرة، بعد مضي السنوات الأولى في السجن، سألت صديقاً مثقفاً ذا أيديولوجية، كيف ترى سجنك الآن؟ قال إنه لا يجد غضاضة في النظر إلى المرآة مرتدياً بذلة السجن. يقصد بذلك أنه قد تصالح كلياً مع صورته تجاه نفسه “كسجين”. لذلك فهو يعرف كيف يستخدم الزمن لمصلحته كما أخبرني، عبر تعلم أشياء جديدة مع الوقت. واكتساب خبرات من الصعب اكتسابها خارج هذا المكان، وأكد أن ذلك يعد بمثابة عملية خضوع متبادل بينه وبين الزمن. ثمة اتفاق. أو إذا استخدمنا تعبير الكاتب ياسين الحاج صالح الذي سجن 16 عاماً في معتقلات سوريا، يعدّ نجاحاً في “ترويض الزمن”.

سألت نفسي بعد ذلك ملياً، هل نجح هذا الشخص فعلاً في ترويض الزمن أم أن الزمان قد ابتلعه بالتعود؟ على رغم محاولة استخدامه الأمثل لمحتوى الزمن كنت أشعر بالأسف وقلة الحيلة، لأنه حتى في أفضل الحالات يظل التأقلم مع السجن تأقلماً على وضع غير طبيعي وغير سوي. 

لكنه التعود، ذلك الوحش الكاسر الذي يبتلع كل شيء في طريقه ببطء ومثابرة، ويجعل كل شيء اعتيادياً ومألوفاً. إنه يبدو كذلك في السجن أيضاً للأسف، أو ليس للأسف، لست أعرف إذا كان من الأفضل التأقلم على السجن من عدمه. فالتأقلم قد يعني بشكل ما الاستسلام أو فقدان الأمل، ولكنني أستطيع أن أحاجج في هذا بأن لا أحد يتأقلم على السجن في الحقيقة إنما هو تأقلم على عدم التأقلم. 

الزمانَ في السجن إن لم تُعلّمه  ابتلعك، لذلك كنت أبحث دائماً عن طريقة في الأشياء تخرجني من الوتيرة من دون أن أتورط في صدمات التعلق بالحرية. في الزنزانة الكبيرة مثلاً، كنت كلما أقترب من الفقدان التام للشعور بالزمن الطبيي، أرقب دورة نمو الشعر والأظافر. كتذكرة جسدية بأن ثمة أشياء طبيعية ما زالت في هذا العالم.

بالنسبة إلي، كنت أعتبر المحافظة على شعري طويلاً نوعاً من المقاومة. مقاومة المكان والزمن. من دون مبالغة. لقد بكيت مرة بحرقة بعدما ساقوني إلى الزنزانة الانفرادية، حين استندت إلى الحائط ووضعت يدي على رأسي لأجده حليقاً، بعد سنتين كاملتين من حرصي على التخفّي وإيجاد سبل ديبلوماسية وملتوية للتعايش من دون إثارة مشكلات، فقط، حتى لا يتم جز شعري.

في غرفة التأديب الانفراد، كنت أكتب الشعر كرفيق مثالي ودائم. كطريقة فعالة لخلق مساحة من المقاومة تتحرك نحو الفعل الموازي للزمن الانفرادي، بالتصوير والشخصنة، في مكان لا أشخاص فيه ولا صور. كانت القصائد وحدها تتحرك في ذهني، كأنها شخوص وأحداث ترافقني في الوحدة والظلام، وتجتاز بي وحدات الزمن. ويجدر ذكر دور هذه الحالة في تعزيز الذاكرة، فمنذ ذلك اليوم الذي كتبت فيه هذه القصائد بلا ورقة ولا قلم، لم تدونها يدي قط، ألقيها هكذا دائماً على أصدقائي عن ظهر قلب، إنها محفورة في الذاكرة.

وهكذا كنت أنبّه جسدي وقصائدي إلى المكان لكي أشعر بأنني ما زلت حياً أخلق القصائد وأمتلك جسداً، وأنه ما زال هناك زمن.

لعبة انفرادية مع الزمن

في غرفة التأديب الانفرادي كنت أرصدُ الزمن. لم أكن أستحثهُ على المضي قُدماً لانتهاء فترةِ عقوبتي، فذلك شيء مؤلمٌ جداً ولا جدوى منه عملياً، ولأن التعود سكونٌ لحاسةِ الزمن، فقد تعودت منذ فترةٍ على هذه الحالة. لم أكن أستحثُ الزمن على الجريان. إنما كنتُ أراقبهُ. ألعبُ معهُ لُعبةً انفرادية. الزمن شيءٌ مخيف، لكنه أيضاً لُعبة ممتعة. أحجيةٌ مثيرةٌ للذهنِ ومحيرة. حركة مقترنة بالأشخاص في المكان. هذا المكان الذي أمضيت فيه أسابيع متفرقة من سنوات سجني الخمس. علمني كيف أقوم بعملية ترتيب اليوم، كيف أدرك الزمن وكيف أصطاده، باصطياد بعض العلامات الخارجية الشحيحة، كنت أعلم يومي وأميّزه من وتيرة الضياع. بانتظار موعد تقديم الطعام وتتبع صوت المؤذن في المسجد القريب على مدار اليوم، متشبثاً بهذا الخيط الدقيق حتى لا يهرب اليوم إلى الفوضى. 

في غرفة تحت الأرض، تنام فيها وتستيقظ على ظلام فارغ ورتيب كالصحراء، سوف تتعلم عندما تتوه في اليوم بعد نوم عميق كيف تكون معرفة الوقت من دون علامات أو مقاييس، سوى إحساسك بالجوع الذي تستخدمه كظل قديم أو كحركة شمسية، في أزمنة غابرة كانوا يحددون بها الوقت أو حتى كساعة حائط.

في غرفةِ التأديب الانفرادي، كنتُ أحركُ جسدي في العتمةِ كي أشعرَ بتدفقِ الزمن. إنه يتحكَّمُ بالعالمِ الخارجي. لا حركة، لولا الزمن. كنت أشكُّ في وجودي الجسدي أحياناً وفي حركته، وسط هذا الفراغ والرتابةِ المطلقين، فكنت أستشعرُ دفء جسدي بملامسةِ أعضائه، وأشعرُ بجريان الزمن البطيء وكثافته مع هذه الحركة.

من المفاهيم الخاطئة نسبياً أن المحتوى الجيد والممتع للزمن يجعلانه ينقضي”بينما الرتابةُ والفراغ يعوقان جريانه” إن هذا يبدو صحيحاً تماماً، إذا كنت في غرفةٍ كغرفةِ التأديب الانفرادي، ولكنك إذا خرجت من هذه الغرفة، أو حتى لو لم تخرجْ ومرت عليك فترة طويلة (وحدة زمنية كبرى) ستجدُ أن الانتظام التام يجعل أطولَ فترةٍ تبدو قصيرة. وهنا تكمن المفارقة. فمثلاً إذا نظرت إلى الوراء، بطول حياتك الممتدة ووجدتها تعج بالأحداثِ والحركة ستشعر بأن هذه اللحظات لم تنقضِ بالسرعةِ التي انقضت بها الحياةُ الروتينية، بينما كانت هذه اللحظاتُ في حينها تشعرك بعكس ذلك. وربما هذا ما جعل العالِمُ الشهير فيكتور فرانكل يقول عبارته الغامضة “إن اليوم في السجن يبدو أطولَ من الأسبوع في السجن”. 

الإدراك الحسي هنا يميل فيشعر فيكتور فرانكل بالضجر وثقل يوم السجن الكئيب. يقول توماس مان في كتاب “الجبل السحري” إن الفراغ، الرتابة، لهما في الواقع سمة جعل اللحظة والساعة تتباطآن أكثر مما ينبغي وجعلهما مملتين. لكنهما قادران على تقصير الوحدات الزمنية الأكبر.

لم تكن لديّ مشكلة مع النوم، بل على العكس كنت أفضل أن أكون يقظاً، لأُطيلَ فترةَ اختبارِ إدراكاتي الحسية. وكان لديّ هاجسٌ تشكُّكي جداً في ما يخص “حساب الزمن”، ربما كان ناتجاً عن نظامٍ يتخذه العقل كوسيلةٍ ذاتيةٍ للدفاعِ في مثل هذه الحالات.

كنت أقول مثلاً أمضيتُ “يومين” إِذَاً، تبقى “خمسةُ أيامٍ”، ثم وبتشككيةٍ عجيبة أُعيدُ هذه الحسبةَ البسيطةَ طوالَ اليوم، غيرَ متأكدٍ من صحتِها تماماً، مستغرباً من تأثير الزمن والمكان على الادراكات الحسيةِ والقوى الذهنية.

وكثيراً ما كنتُ أكلِّم نفسي لأنّ اللُغة من أفضلِ وسائلِ المعاقَبينَ بالعزلةِ التامة للإحساسِ بالزمن.

وبخلاف ذلك كان لديّ شغفٌ بمعرفة الساعة. حتى إنني اقترحتُ على أحد الزملاء في إحدى الغرف المجاورة، من دون أن أراهُ بالطبع، ومن دون معرفة حقيقية منّا بالساعة، “ما رأيُك يا صديقي بأن نظلَّ يَقِظَيْن حتى الصباح؟”.

قال إنها فكرةٌ جيدة، ولكن عندما نصل كيف سنعرفُ أننا وصلنا؟ كم من المدةِ علينا أن نمشي في هذه الصحراءِ لنصلَ إلى هدف لا نملك له أيّ علامة مميزة؟ ذلك أن زنازيننا لم تكن بها أيّ فتحةٍ في الباب، وكانت تحت الأرضِ تقريباً.

بينماكنا نميَّزُ اليومَ بستِ علاماتٍ. كانت العلامةُ السادسة، بخلافِ مواقيتِ الأذان الذي كنا بالكاد نسمعُهُ، هي الساعةُ الواحدةُ والنصف، عندما يقدمون لنا الطعامَ، رغيفَ خبزٍ وقطعةً صغيرةً من الجبنِ.

لم تكنْ لديّ مشكلةٌ مع الجوع، ولكن المشكلة كانت في التجويع. إحساسُكَ بالامتهانِ الجسدي، حينَ يقدمونَ لك هذا الطعامَ السيئ والقليل. لكنني كنتُ أتقبل هذا أيضاً، لأنه كان بمثابةِ علامةٍ مميزةٍ جداً للنهار، تساعدني على اكتساب جزء من وتيرةِ اليوم، وخيطٍ أحاولُ أن أتتبّعهُ بدقةٍ إلى العلامة التالية، واليوم التالي.

انتهت فترة عقوبتي أخيراً. لم أستطع أن أجزمَ ببطء جريان هذه الفترة أو سرعته. لكنني بينما كنت عائداً إلى زنزانتي الكبيرة، حيثُ ينتظرني أناس وأحداث وحركة، وزمنٌ آخر بالطبع، أخذت أردد هذه الأبيات ارتجالياً للمرة الأولى:

دخل عنده عشرين سنة

خرج عنده عشرين سنة

تسألني طيب قضى كام في المعتقل؟

ياااه عُمْر اتسجن!

دخل عنده عشرين سنة

خرج عنده عشرين سنة

وعنده أفكار جديدة عن الزمن!

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!