fbpx

آلاف اللبنانيات واللبنانيين يُهاجرون لمكافحة العوز وإعانة عائلاتهم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعتاش النظام المتآكل على أموال المغتربين الذين يرسلون لعائلاتهم بعض الدولارات كي يعيشوا بكرامة في دولة تنتزع يوميًا كرامة الأفراد وتهدّدهم بلقمة عيشهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سيلين خليل، طالبة طب في الجامعة اليسوعية، تغادر لبنان الأسبوع المقبل لتكمل دراستها في بلجيكا بعدما تقدّمت عائلتها بطلب هجرة إلى بلادٍ بعيدة عن المشاكل المعيشية الصعبة في لبنان. سيلين ليست الوحيدة، بل هي واحدة من بين عشرين طالبًا في السنة الثالثة سيهاجرون إلى بلجيكا تحديدًا لإكمال دراسة الطب. وهكذا، يخسر لبنان اليوم كوادره وعقوله الهاربة من الأزمات المتتالية التي لم تخفّ وطأتها عليهم منذ تشرين الأول/أكتوبر2019 ، عندما احتجزت المصارف جنى أعمار أهلهم، وبدأ فعليًا مسار الانهيار الاقتصادي اللبناني.

ليس الحديث عن الهجرة موضوعًا جديدًا للبنانيين، بل عمرها من عمر هذا البلد حتى قبل أن ينال استقلاله واسمه بكثير. فقُبيل إنشاء متصرفية جبل لبنان في العام 1864، غادرت موجة كبيرة من قاطني جبل لبنان إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية، قُدّرت أعدادهم بحوالى 330 ألف مهاجر. أمّا في تاريخ لبنان الحديث، أي خلال الحرب الأهلية اللبنانية، غادر الكثير من اللبنانيين إلى أوروبا وأميركا هربًا من الحرب والبطش إلى بلاد أكثر أمانًا، وقُدّر عددهم بنحو 990 ألفًا. ولا بد من الإشارة إلى أن الجالية اللبنانية المنتشرة في بلاد أوروبا والأميركيتين الشمالية والجنوبية تعتبر أكثر تعدادًا من اللبنانيين المقيمين على الأراضي اللبنانية، إذ تشير بعض الإحصاءات إلى أن عدد المهاجرين المتحدّرين من أصول لبنانية في العالم بلغ حوالى سبعة ملايين نسمة، وفقًا لدراسة نُشرت في العام 2018.

هذه الخسارة البشريّة هي خسارةٌ عائليّة ومجتمعية بحتة، ولكنها ليست سوى ربح لطبقةٍ سياسية اعتادت أن تستفيد من المصائب وأن تصبّها نحو “حنفيات الدولة” لتسرق جنى اللبنانيين بشتى الطرق الممكنة.

ويمكن في هذا الصدد الحديث عن نوع من الهجرة الممنهجة التي استفادت منها المنظومة السياسية الحالية منذ استيلائها على السلطة بعد اتفاق الطائف في العام 1989. فهذا الاتفاق أعاد تشكيل النظام على قاعدة ثلاثية (سنة-شيعة-موارنة) على أنقاض نظام الـ43 (سنة-موارنة)، فكانت “الترويكا”، وهي بدعة ابتكرها الحاكم السوري غازي كنعان حينذاك لإدارة الحكم من خلال الرؤساء الثلاثة للجمهورية والحكومة ومجلس النواب. ولتحقيق التوافق في ما بينهم، ابتدع رفيق الحريري المعروف خلال مفاوضات الطائف بالوسيط السعودي، والذي وصل إلى سُدة الحكم من موقع مالي ضخم ودعم سعودي أضخم، مفهوم شراء السلم الأهلي. وهذه الفكرة باختصار هي شراء ذمم قادة الطوائف على شكل رشىً متكررة تكون الحل لكل خلاف ينشب بين هذه المكونات الطائفية، فضلًا عن افتعال خلافات لتقاضي المزيد من الأموال. لذلك، وافق رفيق الحريري المسؤول عن الشق الاقتصادي للنظام (وفق التوزيع السوري-السعودي آنذاك) على تفعيل دور مجالس طائفية تعطي الشرعية غطاءً لرشىً دائمة هي حصص الطوائف من الدولة الناشئة.

وهكذا، أسست الطوائف صناديق مؤسساتية لتقاسم أموال وأتاوى الدولة. فأسس الدروز مجلسهم (وزارة المهجّرين)، وكان مجلس الجنوب من حصّة الشيعة، ومجلس الإنماء والإعمار من حصة السُنة، وما إلى ذلك. وفي هذا الصدد أيضًا، أُنشئ الصندوق الوطني للمهجّرين الذي يُعنى بالعمل على تمويل مشاريع لإعادة مهجّري الحرب إلى لبنان وإسكانهم فيه. تناوب وليد جنبلاط أو محازبوه الذين يسميهم على وزارة المهجّرين التي حظيت بميزانية ضخمة، ووصل حجم الصرف فيها إلى حوالى 7 مليارات دولار.

وبذلك، استفاد النظام من المهجّرين قسرًا بسبب الحرب الأهلية والذين لم يعودوا إلى وطنهم، لتُسلب أملاكهم ويسرقها أمراء الطوائف كي يبنوا دولتهم الفاشلة التي سقط عنها القناع، فبانت على حقيقتها اليوم، إذ تجلّت دولة الميليشيات المتعفّنة المنهارة على جميع المقاييس. وها نحن نشهد اليوم الموجة الثالثة من الهجرة هربًا من الظروف الصعبة والخانقة التي يعيشها اللبنانيون في وطنهم الذي لم يعد سوى كابوس يومي و”جهنم” يتمنون الرحيل عنه بأسرع وقتٍ.

إقرأوا أيضاً:

وعلى ضوء آخر المؤشرات والاستبيانات التي تتناول الحركة الديمغرافية الحالية ونُشرت في تقرير صادر عن مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت الذي وصفها بـ”موجة الهجرة الثالثة”، أظهر تقرير “استطلاع الشباب العربي” الصادر العام المنصرم أن 77 في المئة من الشباب اللبناني ينوي الرحيل ويسعى إلى الهجرة. تُعزى رغبة الشباب في الرحيل إلى انهيار العملة الوطنية التي سجّلت 20 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وإلى نسب البطالة المرتفعة التي سجّلت 45 في المئة. في غضون ذلك، يفقد لبنان نتيجة هذه الموجة كوادره المتخصصة والمهنية. فقد خسر القطاع الصحّي 1600 ممرّض وممرضة على الأقل، ووفقًا لنقيب الأطباء شرف أبو شرف، هاجر حوالى 15 ألف طبيب مسجّل منذ أوائل العام 2020. أمّا في ما يتعلّق بالقطاع التعليمي، فقد صرّح فضلو خوري رئيس الجامعة الأميركية في بيروت، إحدى أكبر جامعات لبنان والمنطقة، عن خسارة 120 أستاذًا جامعيًا من أصل 1220، أي 12 في المئة من كوادرها التعليمية. بالإضافة الى ذلك، صرّح نقيب المهندسين السابق جاد تابت عن أن نصف المهندسين المسجّلين في النقابة والذين يبلغ عددهم 72 ألف مهندس يعملون حاليًا في الخارج. إذًا، يكاد لبنان يخلو من عقوله ونخبه العاملة. أما الأرقام فمجهولة في أوساط العاملين غير المتخصصين الذين تبدو فرص رحيلهم عن هذا البلد شبه مستحيلة بعد أن ساءت أحوالهم الاقتصادية مثلهم مثل كل العاملين المقيمين في لبنان الذين يتقاضون رواتب متواضعة بالليرة اللبنانية.

ما زال النظام الحالي مع كل الضرر الذي سببته سياساته المالية والتحاصصية على مدى أكثر من 30 عامًا يستفيد من الهجرة القسرية التي يعيشها اللبنانيون اليوم. فالعقول والأيدي العاملة المتخصصة والكوادر الشبابية هي السلعة الوحيدة التي يصنّعها ويصدّرها لبنان بـ”العملة الصعبة”، لذا يعتاش النظام المتآكل على أموال المغتربين الذين يرسلون لعائلاتهم بعض الدولارات كي يعيشوا بكرامة في دولة تنتزع يوميًا كرامة الأفراد وتهدّدهم بلقمة عيشهم. هذه السلعة تعني اليوم عدم توافر قوى شابّة تنخرط في العمل السياسي لتخلق بديلاً للنظام الحالي وتشترك في الأطر التنظيمية من أجل النهوض بدولة لبنانيّة هي دولة المواطن ذي الحقوق والواجبات. لذلك، فإنّ هذه الخسارة البشريّة هي خسارةٌ عائليّة ومجتمعية بحتة، ولكنها ليست سوى ربح لطبقةٍ سياسية اعتادت أن تستفيد من المصائب وأن تصبّها نحو “حنفيات الدولة” لتسرق جنى اللبنانيين بشتى الطرق الممكنة. ومع أنَّ المغتربين اللبنانيين اليوم يؤدّون دورهم السياسي من خلال الضغط على حكومات الدول التي يقطنونها للتدخّل في حلّ الأزمة اللبنانية، يبقى الأمل الأكبر في صناعة التغيير من خلال الانتخابات النيابية التي حدّدت وزارة الداخلية تاريخها، ومن خلال تصويت المغتربين في سفارات بلادهم.

يبقى أملٌ شحيح لدى هؤلاء الذين تركوا لبنان والذين يعتبرون أنفسهم ضحايا هذا النظام المسؤول بشكلٍ مباشر وغير مباشر عن انفجارَي المرفأ وعكار. وهذا الأمل في عودة ضحايا نظام الطوابير وانعدام الإنسانية أينما كانوا، يومًا ما إلى وطنهم الحاضن الآمن، كأمل الذين غادروا من قبلهم منذ سنين خلت. ويبقى هذا النظام بالنسبة إليهم أشبه بكابوس يطاردهم، ويسرع خلفهم كلّما هربوا بعيدًا عن جهنهم الأم، وليس لهم مفر منه سوى بمواجهته.


هذه المادة نشرت في موقع كارنيغي التابع لمؤسسة كارينغي للشرق الأوسط


إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!