fbpx

تحرير العمل الرعائي من سلطة الدين:
قضية منصور لبكي نموذجاً

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إعادة الحديث عن جريمة منصور لبكي، مع قرب المباشرة في محاكمته في فرنسا، يشكل امتحاناً كبيراً لنا في لبنان فإما ننتصر للضحايا أو نسقط مجدداً في وحول الطوائف والحرمات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شكل الإعلان عن قرب بدء محاكمة الأب منصور لبكي في 8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 في محكمة جنايات كالفادوس في فرنسا صدمة لكثر من الذين ظنوا أن القضية لا تعدو عن كونها تلفيقاً بهدف النيل من رجل الدين اللبناني الذي أمضى حياته في فعل “الخير”. وكانت مذكرة توقيف دولية قد صدرت في حق لبكي عام 2016، لكن لبنان رفض تسليمه إلى فرنسا وتزامن ذلك مع منح أعلى سلطة كنسية في لبنان لبكي غطاء إلهياً حال بينه وبين العدالة المدنية المنتصرة للضحايا. كانت الحجة حينها أن الرجل يمتثل لحكم صادر عن محاكم الكنيسة عام 2012، القاضي بمنعه من مجمع عقيدة الإيمان، ومن الحياة العامة والخدمة، ومن جميع الاحتفالات العامة بالأسرار المقدسة، ومن كل اتصال مع القاصرين ومع ضحاياه، تحت طائلة الحُرم الكنسي. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن لبكي قد اعترف بثلاث من عشرات الشكاوى ضده، وطلب العفو من الضحايا، لكنه أنكر أنها كانت أفعالاً جنسية.

لم تكن الكنيسة في لبنان وحدها من حال دون امتثال السلطات في لبنان للمذكرة الدولية، فمنذ بدء ظهور شهادات ضحايا لبكي إلى العلن، تجندت مجموعة من الكتاب والإعلاميين والسياسيين في لبنان للدفاع عن رجل الدين الذي لبس رداء العمل الخيري، عبر تأمين مأوى “للأيتام والمشردين” خلال الحرب اللبنانية في بيت كان يديره لهذا الغرض في فرنسا. كما أفردت وسائل إعلامية مساحاتها للمدافعين عن لبكي عبر سرد سيرة رجل الدين الذي كرسها لخدمة الأطفال. فهو المرتل والمخلص والمتعبد ومدير بيت في فرنسا لأطفال ضحايا الحرب في لبنان (وهنا لا بد من الإشارة ولو عرضاً إلى تورط الكثير من هذه البيوت بقضايا الاتجار بالأطفال لأغراض التبني غير الشرعي من لبنان إلى فرنسا خلال الحرب اللبنانية). وقد وصل الأمر بإحدى الإعلاميات المخضرمات في حينها إلى القول إن تاريخ لبكي من العمل الإنساني يتيح له ارتكاب أخطاء صغيرة لا ترتقي للمس بسيرته ناصعة البياض. هكذا حلل قلمها المقروء أجساد الضحايا قرابينَ لرجل التنسك والخير.

أكثر من 10 ضحايا تحدّثن عن أساليب متشابهة اعتمدها لبكي في استدراجهن ومن ثم الانقضاض عليهن كما وصفت صحيفة “لاكروا الفرنسية”. إلا أن المزاج الشعبي في لبنان ارتأى ترهيب الضحايا والتشكيك برواياتهن عبر الانتصار لرجل اشتهر بجوقته وتراتيله. وهكذا أفردت الوسائل الإعلامية مساحاتها لزرع الارتياب في شهادات الضحايا عبر الإيحاء بأنهن لسن سوى جاحدات وناكرات لجميل منقذهن، وأنهن تم توظيفهن في مخطط متشعب للنيل من تاريخ الرجل الكهنوتي. وقد وصل الأمر ببعض المدافعين عن لبكي للقول بأنه هو من كان ضحية التغرير من قبل ضحاياه. 

وفي السياق عينه، جاءت رقابة المزاج العام اللبناني لتمنع عرض فيلم Spotlight، الحائز جائزة أوسكار كأفضل فيلم لعام 2015. وكان الفيلم قد شكل شهادة توثيقية على قيام 250 كاهناً، بالتحرش بالأطفال في مدينة بوسطن. وقد شكل الفيلم وثيقة إدانة لاستغلال سلطة الدين والتعرض لأطفال أقرّوا بأن سكوتهم عما تعرضوا له كان نتيجة خجلهم أولاً وخوفهم من هذه السلطة التي أطبقت على أنفاسهم ثانياً. كان كافياً أن يتجرأ أحدهم على البوح بما تعرض له لكي تكر سبحة الشهادات، على رغم حالة الإنكار العام، والتهرب من تحمل المسؤولية، وصعوبة مواجهة نظام كامل يستسهل دعم المؤسسة وسلطتها على حساب الأفراد وإن كانوا أطفالاً. في حينها كان الجو العام في لبنان مجنداً للدفاع عن هيبة الطوائف عبر التشكيك بأي شهادة عن تعرض أطفال لاعتداء فيها. وهنا لا بد من التذكير بقضية طارق الملاح الذي قدم شهادته حول تعرضه لاعتداءات متكررة في دار الأيتام الإسلامية وكل ما نتج عنها من شحن طائفي للانتصار للمؤسسات باسم العراقة وتاريخ العطاءات. وهكذا جاء منع عرض الفيلم كتأكيد على إعلاء مصلحة الطوائف عبر إسكات أي صوت قد يتيح المساءلة والمحاسبة. 

لم تكن حادثة بوسطن، الموثقة في الفيلم، الوحيدة حول تورط الكنيسة في حوادث اعتداء على الأطفال. فتاريخ الشعب الأصيل في كندا يشير إلى حوادث اغتصاب تم توثيقها في شهادات أكثر من 6000 شخص عاشوا في المدارس الداخلية التابعة للكنيسة الكاثوليكية ابتداء من عام 1830، وصولاً إلى عام 1996 تاريخ الإقفال النهائي لهذه المدراس. 139 مؤسسة رعائية أنشئت بين 1831 و1996 ضمت حوالى 150 ألف طفل من الأجيال المتعاقبة تحت رعاية الكنيسة ومن ثم بالتنسيق مع الحكومة الكندية الفيدرالية. وتشير الدراسات التي أجريت على 80000 من قدامى النظام المؤسساتي في كندا إلى أنهم تعرضوا لانتهاكات متعددة بقيت قيد الكتمان حتى عام 1990، بعد مسيرة انتقال تدريجي في مسؤولية الرعاية المؤسساتية من يد السلطة الدينية إلى الحكومة الفيدرالية ومع تمثيل الشعب الأصيل في الإدارة، إلى حين اتخاذ القرار التاريخي بإقفال هذه المؤسسات الرعائية لما خلفته من آثار ممتدة غير قابلة للإصلاح.  وفي كندا أيضاً لم تكن مسيرة البوح سهلة في البدايات، إلا أن فصل الدين عن الدولة ساهم إلى حد بعيد في تحفيز الإنصات ومراجعة التجربة واتخاذ الخطوات الإصلاحية، إلى حدّ إنشاء لجنة للمصالحة والتعويض عما خلفه تورط الكنيسة في إنشاء دور رعاية كان هدفها المعلن إنقاذ الأطفال الفقراء، بينما الدافع الأساسي لإنشائها كان القضاء على الشعب الأصيل، بحسب إعلان مسؤول شؤون الشعب الأصيل عام 1920، الذي أكد أن هدف المدارس الداخلية التبشيرية هو القضاء على الشعب الأصيل: “I want to get rid of the Indian problem”.

وكانت المحكمة الكندية أصدرت قراراً بتعويض 6000 شخص، كانوا يوماً أطفالاً في دار رعاية مؤسساتية، حيث تعرضوا لانتهاكات جنسية على يد رجال دين، بمبلغ 30 مليون دولار. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الاعتداءات لم تقف عند حدود الاغتصاب والعنف وسوء المعاملة، بل وصلت إلى حدود القتل المتعمد ودفن الأطفال في قبور من دون أسماء تحت أبنية هذه المدارس. شكل اكتشاف أكثر من 5000 قبر مع بداية شهر أيار/ مايو 2021 صدمة كبيرة للرأي العام الكندي وصلت أصداؤها إلى روما.

مما لا شك فيه أن إعادة الحديث عن جريمة منصور لبكي، مع قرب المباشرة في محاكمته في فرنسا، يشكل امتحاناً كبيراً لنا في لبنان فإما ننتصر للضحايا أو نسقط مجدداً في وحول الطوائف والحرمات. 

هي أيضاً فرصة لإعادة النظر في العمل الرعائي في لبنان وإبعاده من التوظيف الطائفي والسياسي. حان الوقت لتحرير العمل الرعائي من سلطة الدين وإخضاعه لرقابة مدنية مهنية بعيداً من مفاهيم العمل الخيري التي  يتستر تحت ثوبها الفضفاض بعض المغتصبين.

إقرأوا أيضاً: