fbpx

حكاية فتى كابول الذي سقط من الطائرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“بالنسبة إلينا، تمثل طالبان قصة مخيفة، مثل قصص الرعب الخيالية. وأعتقد أن زكي قد أصابه الفزع بعد رؤية طالبان تسيطر على البلاد، وتلك الحشود اليائسة في المطار”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الخامس عشر من آب/ أغسطس، كنتُ في مدينة في جنوب الهند، حيث التحقت ببرنامج صحافي، بعد تخرجي من كلية الفنون الحرة في نيودلهي. وفي الخارج، كانت هناك احتفالات بيوم استقلال الهند، إلا أنني لم أستطع أن أفكر إلا في أفغانستان؛ وكنت أتحدث مع زميلة لي من كابول- مسقط رأسي- عن استسلام الجيش الأفغاني من دون مقاتلة طالبان.

لقد خشينا سقوط كابُول عما قريب؛ وبينما كنا نتحدث عبر الهاتف، إذ بأخيها يخبرها أن “طالبان” دخلت المدينة، وما إن سمعتُ الخبر حتى بدأ جسدي يرتعد، وأصاب الذعر زميلتي، وبدأت بصوتٍ خائف تتحدث عن أمانها ومسيرتها التعليمية قائلة “ماذا لو طرقوا بابنا؟ سمعتُ أنهم يجبرون الفتيات على الزواج منهم”.

جلستُ في صمت أقرأ الأخبار. بعد الظهر، قرأت خبر هروب الرئيس الأفغاني أشرف غني من البلاد. شاهدتُ مقاتلي “طالبان” جالسين في القصر الرئاسي في كابول؛ وهكذا رأيتُ وطني يُختَطَف على الهواء مباشرة.

لطالما كانت أفغانستان بلداً فقيراً، يصعب العيش فيه؛ لكنّنا تمكنّا من تحقيق بعض التحسن والتقدم في العقدين الماضيين. وعلى رغم أن الفساد كان متجذراً بعمق في المجتمع وفي النظام السياسي؛ إلا أن جيلاً من الرجال والنساء الأفغان في المدن وجد قدراً ضئيلاً من الحريات الفردية، ومن ثمّ بدأ في تحقيق أحلامه. لقد مرّ بخاطري خيالٌ مخيف بأن الزمن قد عاد عشرين عاماً إلى الوراء، وداهمني إحساسٌ طاغٍ بالحنين إلى الوطن، الأمر الذي أدخل الحزن على قلبي، وأشعرني بالدوار.

أمضيتُ اليوم في إجراء اتصالات مع أصدقائي وأساتذتي في أفغانستان، أبث لهم غضبي وحنقي على الولايات المتحدة والأمم المتحدة لتخليهم عنّا. ومن يأسي وقلقي، بدأتُ في كتابة نداءات استغاثة على مواقع التواصل الاجتماعي. إن فقدان أفغانستان، ورؤية عناصر “طالبان” وهم يزيلون علمنا الوطني، كانا بمثابة فقدان أحد الوالدين.

بعد ظهر اليوم التالي (16 آب)، وهو اليوم الأول من حكم “طالبان” لبلادي؛ شاهدت مقطع فيديو لطائرة من سلاح الجو الأميركي من طراز C-17 Globemaster III تقلع من مطار كابُول.

رأيت مئات من الرجال يهرولون نحو الطائرة بينما كانت تسير على المدرج. لقد سارع الأفغان إلى المطار مدفوعين بالخوف والأمل؛ خوفهم على حياتهم، وأملهم بمستقبل أفضل. كانت هناك شائعات أن دولاً أجنبية ستجلي النازحين، حتى من دون تأشيرات، وذلك لأنه مهما كان المكان الذي سيذهبون إليه، فسيكون أفضل من الوطن؛ ونتيجة لذلك، صعد كثر من الرجال إلى فتحات عجلات هبوط الطائرة، بينما تمسك آخرون بهيكلها، في محاولة يائسة وأملٍ يعسر تفسيره بالذهاب إلى أي مكان تتجه إليه الطائرة.

ذكّرني هذا المقطع برحلة خروجي التي كانت أقل فوضوية من أفغانستان عام 2014 -وكانت أول مرة أركب فيها طائرة. ذهبت إلى المطار نفسه، ومعي جواز السفر، وتأشيرة طالبة، وتذكرة الطائرة؛ كنتُ مفعمة بالأمل في بناء حياة جديدة بعد الحصول على منحة للدراسة في إحدى المدارس الداخلية في الهند. ومثل العديد من أولئك الذين كانوا يتشبثون بالطائرة C-17، لم أكن أعرف اللغة الإنجليزية على الإطلاق، كما أنني لم أكن أعرف أحداً في الهند. ومع ذلك، كان عزائي الوحيد أنني قد أعود إلى أفغانستان بأمان يوماً ما؛ ذلك الأمل الذي لم يمتلكه أيٌ من النازحين في مطار كابول.

من هم أبناء بلدي؟

ازدادت سرعة الطائرة C-17 الرمادية، وافترق الذين يلاحقونها كالأمواج. نُشرت مقاطع فيديو للطائرة وهي تشق عباب السماء الزرقاء فوق المطار، وتُظهِر سقوطَ رجلين كانا قد تعلقا بعجلات الهبوط أو الجناحين. رُسِمَت دائرة حمراء حول الرجلين الساقطيْن، اللذَين ظهرا كما لو كانا قطعتي ثلج صغيرتين، بسبب الرياح وبُعد المسافة.

سقط آخران من الطائرة C-17 على أسطح المنازل على بُعد أميال من مطار كابول. وأشار تقرير آخر إلى العثور على بقايا بشرية في عجلات الطائرة عندما هبطت في قاعدة جوية أميركية في الدوحة. كما تشير تقديرات مختلفة إلى مقتل 14 أفغانياً جرّاء سقوطهم من تلك الطائرة. (وفقاً لوزارة الدفاع الأميركية، فقد هبطت الطائرة من أجل تسليم بعض المعدات، وأقلعت بسرعة مرة أخرى بسبب الفوضى الأمنية التي وقعت على المدرج، مما يعني أنها غادرت دون ضم أي ركاب جدد).

شاهدتُ هذه المقاطع مراراً، وفكّرت: مَن هم أبناء بلدي؟ أهم بقايا مئات الآلاف من الأفغان الذين قُتلوا على مدى أربعة عقود، عندما امتصت القوى الأجنبية- الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وباكستان- وعملاؤها دماءَ أفغانستان لإشباع شهواتهم الإمبريالية، وإرواء عطشهم للانتقام والهيمنة، مُحوِّلين وطني إلى رقعة شطرنج يمارسون عليها ألاعيبهم الكبرى، ويحققون فيها مصالحهم الاستراتيجية؟

قرأتُ في يوم الثلاثاء تقريراً على القسم الفارسي من هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”، نشر صورة لمراهق وسيم بقميص أحمر، في صفوف منتخب أفغانستان لكرة القدم للناشئين تحت سن 18 عاماً، وقد وصفه التقرير بأنه من أوائل الأفغان الذين لقوا حتفهم بعد سقوطهم من تلك الطائرة التي غادرت مطار كابول. كان عمره 17 عاماً، واسمه زكي أنوَري.

كان أنوري تقريباً في سني عندما غادرت أفغانستان، وقد أذكى موتُه حنيني إلى الوطن، وذكّرني بسراب رحيلنا بحثاً عن الأمان، وبالرمال الهشة التي يقف عليها مستقبلنا. سيتذكر العالم موته باعتباره واحداً من الأفغان الذين سقطوا من الطائرة، بينما الأجانب على أرائكهم الوثيرة في العواصم الغربية البعيدة سيستحضرون قصة موته وهم يتجادلون حول السياسة الخارجية الأميركية. قليلون هم من سيشغلون أنفسهم بالحديث عن حياته.

بحثتُ عن زكي أنوري على “فايسبوك”، ذي الشعبية الجارفة بين الشباب الأفغاني. لقد كتب كثيرون منشوراتٍ عنه مع إشارة إلى حساب أخيه ذاكر أنوري. كنت مدركة أنه سيكون بالتأكيد حزيناً على فراق أخيه، وبعدما ترددت بعض الشيء، أرسلت له رسالة صوتية على “مسنجر” ، فرَدّ عليّ بعد بضع دقائق، وتبادلنا أرقام الهواتف، ووعدني بأن يتحدث إليّ يوم الجمعة 20 آب.

وُلد الأخوان زكي وذاكر ونشآ في حي “كوته سَنغي” المكتظ بالسكان من الطبقة الوسطى، والواقع في المقاطعة السادسة في كابول. كان أبوهما “غُلام غوث أنوري” -الذي تقاعد الآن بعد عمله في الحكومة الأفغانية- حريصاً على أن يتلقى أبناؤه الأربعة وبناته الثلاث تعليمهم. غير أن زكريا -الابن الأكبر- لم يتخرج من المدرسة الثانوية؛ فقد ترك التعليم إبان فترة حكم “طالبان” الذي اشتهر بالقمع والقسوة من عام 1996 وحتى 2001. وبعد دخول الإنترنت والتلفزيون السلكي والهاتف المحمول وانتشارها في أفغانستان في العقد الأول من الألفية الثالثة، أنشأ زكريا متجراً للإلكترونيات.

بلغ أطفال أنوري الأصغر سنَّ الرشد بعد عام 2001، ما جعلهم يشهدون أفغانستان مختلفة عن ذي قبل، وأتيحت لهم فرصةٌ أفضل في الحصول على التعليم؛ فقد التحقت إحدى بناته بجامعة في كابول، وأخرى تخرجت من المدرسة الثانوية وواصلت دراسة العقيدة في معهد للدراسات الدينية. أما الأبناء، فقد أتم ناصر -ابنه الثاني- تعليمه في المدرسة الثانوية العليا عام 2004، وعمل في الخليج العربي لسنوات قبل أن يعود إلى الوطن ويُنشئ متجراً للهواتف المحمولة.

ويدرس ذاكر- ابنه الثالث، ذو التسعة عشرة عاماً- العلوم السياسية في جامعة رانا، وهي جامعة خاصة أنشئت عام 2009، وتمنح درجات علمية في القانون والتجارة والعلوم السياسية والصحافة. أما زكي فكان ابنه الأصغر. وكما أخبرني ذاكر، “كان زكي على وشك التخرج من المدرسة الثانوية هذا العام. وما زلت لا أستطيع تصديق أن أخي، الذي كان أعز أصدقائي، قد مات”.

في الأيام التي تلت وفاة زكي، أعاد ذاكر مشاهدة مقاطع الفيديو التي كانت الأسرة قد صورتها لزكي عندما كان صغيراً. كان زكي في طفولته يتلعثم في نطق كلمة “غوفتام” guftam، التي تعني “قلتُ” باللغة الدَّرية، إحدى أكثر اللغات انتشاراً في أفغانستان.

وتابع: “كان يقول أوفتام بدلاً من غوفتام”. وأعاد تشغيل مقطع يسأل فيه أحدُ الإخوة زكي: “إلى أي مدى تحبني يا زكي العزيز؟”، فيجيب زكي: “أوفتام”، أي “لقد قلتُ من قبل”؛ فيكرر الأخ سؤاله، فيفتح زكي ذراعيه الصغيرتين قائلاً: “أحبك إلى هذا الحد، أوفتام”! اعتاد الإخوة مشاهدة هذه المقاطع الأسرية والضحك معاً، أما الآن- كما يقول ذاكر- “فقد أصبح من المؤلم للغاية أن أشاهدها بمفردي”.

كان زكي وذاكر مقربين من بعضهما كما لو كانا توأمين، فقد درسا في مدرسة الاستقلال الثانوية، وهي مدرسة فرنسية أفغانية حكومية مرموقة، أُنشئت في عشرينيات القرن الماضي في كابول، وتخرج منها أعلام ومشاهير، مثل أحمد شاه مسعود، القائد والمناضل الأسطوري ضد السوفيات، وعتيق رحيمي، الروائي والمخرج السينمائي. تابع ذاكر قائلاً: “لقد ذهبنا إلى المدرسة ذاتها، واشترينا الملابس ذاتها، حتى نبدو متشابهين بكل طريقة ممكنة”.

اعتاد ذاكر أن يلعب كرة القدم بعد المدرسة في حديقة كابول، وقد تبعه زكي وبدأ باللعب أيضاً. وتبين لاحقاً أن زكي لاعب ماهر، فطوّر مهاراته حتى وقع عليه الاختيار للانضمام إلى صفوف منتخب أفغانستان للناشئين. وقد راود النجمَ اليافع حلمُ تمثيل بلاده في المسابقات الدولية الخارجية. ولأجل هذا الحلم فقط، قال زكي ذات مرة إنه يفكر في الحصول على جواز سفر.

لم يكن زكي غافلاً عن حقيقة أنه يكاد يكون من المستحيل في أفغانستان بناء مسار مهني في احتراف كرة القدم، لذلك لم يتخلّ عن تعليمه. حصل ذاكر على فرصة للدراسة في إحدى الجامعات في تركيا، لكنه لم يستطع الذهاب بسبب الجائحة. وعندما سأل زكي عن خططه لما بعد المدرسة الثانوية، تبين أنه يريد أن يحذو حذو أخيه ذاكر بأن يسعى للحصول على شهادة جامعية من الخارج.

إقرأوا أيضاً:

لكن في العام الماضي، بدت كل هذه الأحلام والخطط معلقة، وذلك بسبب تأرجح أفغانستان على منعطف خطِر. فمن ناحية، كانت هناك محادثات السلام المستمرة بين الأفغان في الدوحة؛ ومن ناحية أخرى، ذلك المستقبل المجهول الذي ينتظر البلاد بعد الانسحاب الأميركي. ومع اقتراب موعد الانسحاب الذي حدده الرئيس الأميركي جو بايدن في يوم 11 أيلول/ سبتمبر -الذي على الأرجح وقع عليه الاختيار نظراً إلى رمزيته في الولايات المتحدة، بغض النظر عن واقع أفغانستان- بدأت “طالبان” تستعد للحرب. وقبيل سقوط كابول بأيام، وبعد سقوط العواصم الإقليمية الكبرى في أنحاء البلاد، بدأ آلاف الأفغان يبحثون عن الأمان في كابول بعدما كثفت “طالبان” حملتها العسكرية لإحكام قبضتها على البلاد.

اجتمع بعض الشباب لجمع المال من أجل توفير الغذاء والدواء والحاجيات الأساسية الأخرى لمساعدة النازحين. وقد انضم إليهم زكي، وأظهر همة ونشاطاً في جمع التبرعات وشراء وطهي الطعام من أجل أبناء وطنه النازحين. فقبل أيام قليلة من سيطرة “طالبان” على كابول، أفرغ زكي معظم ملابسه من دولابه، وقال لذاكر وأمه “هذه الملابس لم تعد تناسبني إطلاقاً”، وملأ بها حقيبة بلاستيكية كانت معه، وكما يقول ذاكر، “ذهب ليوزع ملابسه على العائلات النازحة”.

ذات يوم، كان زكي وأصدقاؤه يتفقدون النازحين بحثاً عمن يحتاجون إلى الدواء، فقالت له عجوز منهم: “يا بني، أنا لا أعرف اسم مرضي، ولا اسم الدواء الذي أحتاجه، أحضر لي أي دواء تجده عندك”. ثم قبل سقوط كابول بيومين، طرح زكي سؤالاً على ذاكر: “معي 12000 “أفغاني” (نحو 140 دولاراً) سأتبرع بها؛ هل أشتري بها أغطية وبطانيات للنازحين أم شيئاً آخر؟”؛ فطلب منه ذاكر الانتظار بضعة أيام، لأنه أراد أن يجمع هو أيضاً بعض المال ليتبرع به، وقال له: “يمكننا أن نشتري معاً شيئاً مفيداً لهم؛ والبطانيات فكرة جيدة”. على الفور وافق زكي على مقترح أخيه، واحتفظ بالـ 140 دولاراً.

في الخامس عشر من آب كان ذاكر في متجر أخيه زكريا عندما سمع بنبأ دخول “طالبان” إلى مدينتهم، وأنهم تجمعوا بالقرب من سراي شمالي (القصر الشمالي) في شمال كابول؛ فاتصل بزكي- الذي كان في طريقه إلى المتجر- وطلب منه العودة إلى المنزل، حيث لحق به ذاكر وقابله هناك. بحلول الليل، بدأت الشائعات تنتشر في كل أنحاء كابول عن أن ثمة دولاً أجنبية مختلفة تقوم بإجلاء بعض الأفغان. وفي الصباح زار بيت العائلة الأخ الأكبر زكريا.

رأى زكريا أن ناصر -الأخ الذي عمل في الخليج، ويحمل جوازَ سفر سارياً- لديه فرصة جيدة في الخروج من البلاد على متن إحدى طائرات الإجلاء. وبسرعة اتُخذ القرار، وحزم ناصر أمتعته، وسيوصله زكريا إلى مطار كابول بسيارته، وطلبا من زكي أن يأتي معهما ليراقب السيارة. يحكي ذاكر أن زكي كان يرتدي براهان وتونبان أخضرَين -وهما قميص تقليدي فضفاض طويل، وبنطال- وأنه “وضع بعض العطر، وارتدى سترتي الرمادية بينما كان يغادر”.

كان الطريق إلى مطار كابول تعمّه الفوضى والزحام، وكان مكتظاً بأناس يحاولون الرحيل. وبعد قيادة السيارة واجتياز نقطة تفتيش تابعة لـ”طالبان” وأخرى تابعة للجيش الأميركي خارج المطار، ترجَّل ناصر وزكريا وطلَبَا من زكي الانتظار داخل السيارة. عند الحادية عشرة صباحاً بتوقيت كابول، تلقّى ذاكر -الذي كان قد خرج في جولة- اتصالاً من زكي. قال له زكي “عزيزي ذاكر، لقد دخلت للتوّ إلى المطار من خلال الجدار. وأنا الآن بالقرب من إحدى الطائرات. وها هم يسجّلون الأسماء. حين أدخل إلى الطائرة قد يتوقّف الهاتف عن العمل، فهم لا يسمحون بالهواتف في الداخل. قد أضطر إلى إغلاقه أو التخلص منه”.

صاح فيه ذاكر، وطلب منه العودة إلى السيارة.

ثم سأله ذاكر “أين ناصر؟”.

فأجاب زكي “إنه بالفعل في إحدى الطائرات”.

“لماذا ذهبت إلى هناك؟ عُد يا زكي”.

أجاب زكي “لا تقلق. فقط ادعُ لي”. ثمّ أنهى المكالمة.

في الأيام التي تلت وفاة زكي، أعاد ذاكر مشاهدة مقاطع الفيديو التي كانت الأسرة قد صورتها لزكي عندما كان صغيراً. كان زكي في طفولته يتلعثم في نطق كلمة “غوفتام” guftam، التي تعني “قلتُ” باللغة الدَّرية، إحدى أكثر اللغات انتشاراً في أفغانستان.

لقد مات أخوك…

وصل ذاكر إلى البيت بعد نحو ربع ساعة. اتصل زكي بأمه، قائلاً لها “حبيبتي، أطلب رضاكِ عني. أنا الآن بالقرب من الطائرة. إن شاء الله سأدخل إلى الطائرة”. توسّلت الأم إليه أن يعود إلى البيت، ولكن زكي أنهى الاتصال. أعادت الأم الاتصال به وناشدته “عزيزي زكي، أرجوك عُد. لا تفعل هذا. ليس لديك جواز سفر ولا تأشيرة! عُد يا بُنيّ! لن يسمحوا لك بالدخول. عُد إلى البيت”.

بُعيد هذا انقطع الاتصال.

وبعد نحو ربع ساعة، تلقّت الأسرة اتصالاً آخر من هاتف زكي على هاتف ذاكر. ردّت إحدى أخواتهما على الجوال قائلة “عزيزي زكي، أين أنت؟”.

كان المتصل شخصاً غريباً. سألها “ما صلتك بزكي؟”.

فأجابته “أنا أخته”.

قال لها “لقد مات أخوكِ”.

فسقط الهاتف من يدها.

وصاح ذاكر وأخواته وأمهم وانخرطوا في البكاء. لكنه أمسك بالهاتف، وصاح في المتّصل “هذا غير حقيقي. أنت تكذب”. ثم خرج من المنزل واتصل مجدّداً. كان المتصل قد حدد هوية زكي من بطاقة الهوية الوطنية، ووجد ساعته ومحفظته وخاتمه ومتعلّقات أخرى؛ وقال لأخيه ذاكر “لقد سلّمت هذه الأشياء إلى أحد أفراد الأمن. عليكم القدوم لأخذ جثمانه”.

صاح ذاكر في المتصل في حزنٍ وغضب. ثم اتصل بإخوته. كان زكريا في طريق عودته إلى البيت. أما ناصر فقد تلقّى الاتصال وهو في إحدى طائرات الإجلاء، ونزل منها عند سماعه بموت زكي.

توجّه ذاكر إلى المطار. أوقف سيارة أجرة، فطلب منه السائق 1200 “أفغاني” (14 دولاراً) بدلاً من الأجرة المعتادة وهي 150 أفغاني (1.75 دولار). لذا اتصل بأحد أصدقائه الذي وصل بسيارته خلال دقائق. أوصله صديقه قريباً من المطار، حيث اجتمع عشرات الآلاف من الأفغان. وكانت هناك مجموعة من “طالبان” عند أحد التقاطعات، وكان أعضاؤها  يردّون الناس ويعيدونهم، ويطلقون النار في الهواء. لكنه اندفع متجاوزاً إياهم، فأطلَقوا بعض الرصاص الذي لم يصبه. إلا أن أحد المقاتلين سحبه وضربه في رقبته وعلى ظهره وقدمَيه. فدفعه ذاكر، وواصل الجري إلى داخل مجمع المطار، متناسياً آلامه. ويقول عن تلك اللحظات “كان عليّ العثور على أخي، فقد كنت آمل أنّ خبر وفاته مجرّد كذبة بالفعل”.

إقرأوا أيضاً:

فتى نحيل يرتدي سترة رمادية

كانت صالة المطار في حالةٍ من الفوضى العارمة. وسأل ذاكر كلَّ من رآهم عن أخيه زكي. فأجابه كثيرون “فتى نحيف يرتدي سترة رمادية وبراهان وتونبان أخضرَين!” وقدّموا تفاصيل دقيقة عن الملابس التي كان يرتديها أخوه المتوفّى. واصل ذاكر سيره ووصل إلى مجموعة من الجنود الأميركيين. وكانت قدمه تنزف، وقد جفَّ حلقه. حاول الحديث بالإنجليزية، وهي لغة يتقنها، لكن الكلام تفلّت منه ولم يتذكّر كلمةً واحدة. وبعد وقت طويل، قال ذاكر لجندي أميركي “أخي، أخي في الصالة”، فسمح له الجندي بالمرور.

بحث ذاكر في كل مكان، وكان يركض ويدور في كل اتجاه كرجل ممسوس. أخبره البعض أن الجثث نُقلَت إلى مسجد المطار، ووجهوه إلى الاتجاه الصحيح. وعندما اقترب من المسجد، دنا منه رجل أصلع وسأله “هل تبحث عن جثمان أحد أقاربك؟”، كان هذا الرجل قد التقط صورتَين للذَين سقطا من الطائرة؛ وأراه الصورة الأولى فتنفّس ذاكر الصعداء، قائلاً “الحمد لله، ليس هو”. ثمّ أراه الرجل الصورة الثانية. يقول ذاكر عن هذا “عرفتُ أخي على الفور”. كان وجه زكي مشوّهاً نتيجةَ السقوط من الطائرة، ولكن ذاكر تعرّف إلى الملابس التي كان يرتديها.

حينها أُغمِيَ عليه.

بعد دقائق، حين استعاد ذاكر وعيه، قيل له إن جثمان أخيه نُقل إلى مستشفى تشارساد بيستار في المدينة. فركض إلى بوابة المطار، حيث كان مقاتلو “طالبان” ما زالوا يمنعون الناس من المغادرة، ويصرخون فيهم وينتزعون حواسيبهم وهواتفهم وسماعاتهم. وبشكل ما استطاع الوصول إلى سيارة أجرة وتوجَّه إلى المستشفى. التقى الإخوة في المستشفى التي كانت في حراسة مقاتلي “طالبان”. طلب زكريا من أخيه ذاكر الانتظار في الخارج، فيما قام هو بفحص عدد من الجثث، لكنه لم يعثر على جثة زكي.

عرف ذاكر أن أخاه زكريا لم يكن قادراً على التعرّف إلى زكي نظراً إلى التشوّه الذي لحق وجهه، ولم يكن هو قد أخبر زكريا- أخاه الأكبر- عن تلك الصورة لجثته التي رآها في المطار، ولم يستطع الحصول عليها بنفسه ليُريها لأسرته عند عودتهما إلى البيت.

كانت بقية الأسرة تأمل أن زكي قد استطاع العثور على مكان في الطائرة. ولكن عند الحادية عشرة مساءً تقريباً، عرضت “آريانا نيوز”، وهي شبكة تلفزيونية محلية، صورةَ زكي في تقريرٍ لها. كان وجهه مغطى بقماشة بيضاء. وقال أحد أفراد الأسرة “تعرّفَت أختي عليه”، فقد أعادوا تشغيل الفيديو على الإنترنت مرات عدة، وعرفوا أن تلك جثته. استعد أفراد أسرة أنوري للجنازة، وفي الصباح أحضروا جثمان زكي. وفيما كانوا يستعدون لدفنه، انضم إليهم في صلاة الجنازة بعض الغرباء وكانوا يبكون. وبعدها تلبَّدَت السماء بالغيوم، وانهمرت الأمطار.

ووفقاً لإخوته، لم تظهر على زكي إطلاقاً أي علامات على الإحباط واليأس، ولا أي رغبة جامحة في مغادرة أفغانستان، باستثناء الحديث عن الحصول على جواز سفر ثم الذهاب في النهاية إلى الدراسة في الخارج أو المشاركة في بطولة دولية لكرة القدم. وليست لدى زكي أو ذاكر أي ذكريات عن حكم “طالبان” في تسعينات القرن الماضي.

وأضاف أحد الإخوة “بالنسبة إلينا، تمثل طالبان قصة مخيفة، مثل قصص الرعب الخيالية. وأعتقد أن زكي قد أصابه الفزع بعد رؤية طالبان تسيطر على البلاد، وتلك الحشود اليائسة في المطار”.

كانت كلماته الأخيرة لوالدته وهو في المَدرَج، قبل انقطاع الاتصال: “ادعِ لي. هذه فرصة”.

هذا المقال مترجم عن foreignpolicy.com ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا  الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً: