fbpx

العالم لن يفتقد أنغيلا ميركل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قياساً بكلماتها، كانت ميركل قائدة رائعة. وقياساً بأفعالها، كان سجلها في أحسن الأحوال غير متكافئ. وتحت قيادتها، فشلت ألمانيا في مواجهة أكبر ثلاثة تحديات خلال العقدين الماضيين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خلال أحلك أيام رئاسة دونالد ترامب، بدا أن أنغيلا ميركل هي آخر شخص بالغ على المسرح العالمي. وبينما كان يقود الولايات المتحدة رجل متطرف، وتعيش المملكة المتحدة في حالة من الفوضى، وتنزلق الهند إلى هوّة الاستبداد، وأضحت روسيا والصين أكثر قمعية من أي وقت مضى، رُحّب بالمستشارة الألمانية على نطاق واسع باعتبارها “زعيمة العالم الحر”.

والآن ومع  تنحي ميركل عن المنصب الذي شغلته على مدار الـ16 عاماً الماضية- مع العلم أنه عندما تولت المنصب، كان أقرانها الدوليون هم جورج دبليو بوش، وتوني بلير، وجاك شيراك، وسيلفيو بيرلسكوني- تجعل صورة ميركل البطولية المراقبين الدوليين قلقين بشأن ما قد يحدث في ما بعد، سائلين: هل ستتألق ألمانيا بعد اعتزالها؟ وهل سيكون دور الدولة الدفاعي عن الديموقراطية على المسرح الدولي شيئاً من الماضي؟

تستند  هذه الأسئلة  إلى اعتقادات خاطئة. فعلى رغم أن ميركل تستحق الثناء لكونها زعيمة قوية وإنسانية، إلا أنها لم تكن أبداً هي آخر حصن بين النظام  والهمجية. وحتى بعد تركها منصبها، من المرجح أن يحكم ألمانيا معتدل. وعلى رغم أن ميركل تهتم بالفعل بالقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها لم تفعل شيئاً يُذكر للدفاع عنهما أثناء وجودها في المنصب. وفي ظل حكم خليفتها، من المرجح أن تظل ألمانيا تجمع بين الحديث الرفيع المستوى ونقص المتابعة والاستعداد المقلق للدخول في صفقات فاسدة مع المستبدين.

تبدو مغادرة ميركل منصبها وكأنها نقلة تاريخية. لكن على جانبي الخير والشر على حد سواء، لن يتغيّر بلدها إلا قليلاً بعد رحيلها.

يميل علماء الاجتماع إلى استخدام النمذجة الإحصائية للتفكير في احتمالية نتيجة معينة: كم مرّة يمكن أن يحدث شيء ما إذا وضعت بعض المعايير الأساسية في نموذج مبسط للعالم وطُبّقت ذات المعايير مراراً وتكراراً؟ إذا فعل شخص ما هذا للتنبؤ بمدى احتمالية أن تصبح ميركل مستشارة لألمانيا، فستكون الإجابة، في أحسن الأحوال، أن ميركل لديها فرصة واحدة فقط من بين مليون.

فازت ميركل – وهي امرأة بروتستانتية من ألمانيا الشرقية الشيوعية – ثلاث مرات برئاسة حزبها، “حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي” في ألمانيا الغربية. ومثل الكثير من السياسيين الألمان، تفتقر ميركل للجاذبية وبلاغة الحديث، وتفضل التصريحات السريعة والرصينة عن الخطب الطويلة أو الخطابات الرحلية الخيالية. وحتى بعدما عيّنها معلمها هيلموت كول وزيرةً للمرأة والشباب، نعتها علنًا بـmein Mädchen، أو “ابنتي الصغيرة”.

لكنّ مكانة ميركل الخارجية تحولت إلى ميزة عندما تورّط كثر من كبار قادة الحزب في أواخر التسعينات وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في فضيحة مالية. وحتى مع وقوع معظم الديموقراطيين المسيحيين الرئيسيين تحت ظلال الشك، يمكن أن يصدّق الجمهور بسهولة أن “ابنة كول” الصغيرة ما كانت لتعلم شيئاً عن التعاملات المشينة للمسؤولين الكبار الذين يديرون حقاً الأمور. وبحزم ودم بارد فاجأها زملاؤها- وما اعتبر أول مؤشر على مدى استخفاف الجميع بها- فندَّدت ميركل بمعلمها القديم وشقّت طريقها إلى قمة الحزب.

وبعد فوزها في انتخابات صعبة وتحقيقها أغلبية حاكمة، سرعان ما طوّرت ميركل أسلوبها الخاص. وبطموح قليل لوضع جدول أعمال سياسي، تابعت مسار المناقشات الكبيرة التي كانت تُجرى وقتذاك لتحدّد الاتجاه الذي كانت تهب منه الريح. كما قللّت ميركل حضورها العلني إلى أدنى حد، نتيجة عدم رغبتها في السيطرة على الأثير. وعلى غير العادة بالنسبة إلى سياسية هيمّنت، بالمقاييس التقليدية، على سياسات بلدها لفترة طويلة، ظلت ميركل بعيدة من الأنظار لدرجة أن الناخبين لم تتح لهم الفرصة أبداً ليسأموا منها.

كل هذا يساعد في تفسير نقاط القوة السياسية لميركل. وبما أنها نشأت في ظل نظام ديكتاتوري، تمكّنت ميركل من التحدث عن أهمية الحرية والديموقراطية باقتناع تام. وبصفتها دخيلة على الحياة السياسية، كان لدى المستشارة الألمانية تعاطف حقيقي مع المحرومين. وباعتبارها معتدلة بالفطرة، نادراً ما تميل ميركل إلى استفزاز القاعدة المحافظة في حزبها على رغم الانتقادات اللاذعة والحادة حول المهاجرين أو اللاجئين.

لكن بعض هذه السمات ذاتها تساعد أيضاً في تفسير نقاط الضعف السياسية لميركل. قياساً بكلماتها، كانت ميركل قائدة رائعة. وقياساً بأفعالها، كان سجلها في أحسن الأحوال غير متكافئ. وتحت قيادتها، فشلت ألمانيا في مواجهة أكبر ثلاثة تحديات خلال العقدين الماضيين.

إقرأوا أيضاً:

جاء التحدي الأول بعد حدوث الركود العظيم، عندما دخلت بلدان جنوب أوروبا في دوامة خطيرة من الديون. وكان يمكن أن يعرض عليهم زعيم حاسم خطة إنقاذ سخية أو، بدلاً من ذلك، يدفعهم للخروج من منطقة العملة الموحدة تماماً. وبدلاً من ذلك، عانى الاتحاد الأوروبي، بقيادة ميركل، من عقد مُدمّر للغاية. وفي النهاية، تلافى الاتحاد الأوروبي أسوأ سيناريو، وهو خروج بلد من منطقة اليورو. لكن الثمن الاجتماعي لهذا النجاح الظاهري كان أكبر بكثير من اللازم. ومع وجود مشكلات هيكلية لا تزال من دون حل، قد يؤدي الانكماش الاقتصادي التالي إلى تكرّر المأساة ذاتها.

جاء التحدي الكبير الثاني مع صعود الشعبويين الاستبداديين في أجزاء كبيرة من أوروبا الوسطى. فعندما انتُخِب فيكتور أوربان للمرة الأولى، بإمكان الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات حقيقية على المجر لمنع دخول البلاد في نفق الاستبداد المظلم؛ لكن ما حدث هو أن ميركل وقفت حجر عثرة أمام الإجراءات التي تستهدف محاسبة أوربان، وحافظت على عضوية حزبه في الفصيل الديموقراطي المسيحي في البرلمان الأوروبي. والآن خرجت المجر عن مصاف الدول الحرة، واختار قادةُ اليمين المتطرف الآخرون أن يحذوا حذو أوربان. والنتيجة هي تمكُّن المستبدين من حماية بعضهم البعض باستخدام حق النقض ضد أي عقوبات قد تسعى بروكسيل إلى فرضها عليهم. بعبارة أخرى؛ لم يعد الاتحاد الأوروبي ينادي بالديموقراطيات نظراً إلى عجزه المؤسسي عن ردع وإيقاف الطغاة داخله.

أما التحدي الثالث الكبير فقد ظهر عندما أجبرت الحرب الأهلية في سوريا ملايين الأشخاص على البحث عن ملاذ آمن في أوروبا. جذبت كلمات ميركل الترحيبية، ورفضها الأولي لإغلاق الحدود الألمانية، المعجبين بها في أنحاء العالم. لكن الحقيقة هي أن ميركل لم تكن المدافع الذي تحكمه مبادئه عن حق اللجوء غير المحدود الذي احتفت به وسائل الإعلام الدولية. تماماً مثل التزامها بحقوق الإنسان، كان قرار ميركل بإبقاء الحدود مفتوحة متعلقاً بما اشتهرت به من تردد، وأيضاً بالخلل البيروقراطي الذي تعاني منه البلاد. كانت ميركل ترفض باستمرار التصريح بأنها في النهاية ستوقف موجة اللاجئين -وقد تسبب إحجامها هذا بشكل كبير في صعود الحزب اليميني المتطرف “البديل من أجل في ألمانيا” إلى دور العنصر الأساسي في سياسات البلاد- إلا أنها في الواقع فعلت ما بوسعها لمنعهم من الدخول. فبفضل سلسلة من الصفقات مع حكام مستبدين مثل رجب طيب أردوغان في تركيا، تمكنت ألمانيا من الاستعانة بمصادر خارجية من أجل القيام بالأعمال الدنيئة لإبقاء حدودها غير قابلة للاختراق. لذلك، فعلى رغم قبول ألمانيا اللاجئين رسمياً، إلا أن كثراً منهم يجدون الآن أنه من المستحيل دخول هذا البلد.

من الناحية النظرية، ثمّة اختلافات كبيرة بين المرشحين الثلاثة لخلافة ميركل؛ أرمين لاشيت -كاثوليكي معتدل الطباع من ولاية راينلاند- وهو عضو في “حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي” الذي تنتمي إليه ميركل. أما أولاف شولتز -العمدة السابق المُفوَّه في هامبورغ- فهو يقود منافسيه التاريخيين من “الحزب الاشتراكي الديموقراطي”. وأنالينا بربوك -مُشرِّعة شابة من هانوفر- زعيمة “حزب الخضر”، الذي تشكّل باعتباره حركة ثقافية مضادة في ثمانينات القرن الماضي. 

لكن على رغم من التباين الشديد بين أعمارهم، وسيرهم الذاتية، وأصولهم الإيديولوجية، فإن الثلاثة يضعون أنفسهم فعلياً في موقع القوى التي تحافظ على الاستمرارية، فجميعهم ليبراليون على المستوى الاجتماعي من دون أن تصيبهم موجة “التقدمية”. كما يؤمن الثلاثة بدولة رفاه قوية، فيما يعدون بأن يكونوا مسؤولين مالياً. ويدافع الثلاثة عن الناتو، ويعتبرون الولايات المتحدة حليفاً مقرباً؛ لكنهم غير مستعدين لإنفاق ما يكفي من الأموال على الجيش الألماني لجعل البلاد تمارس بجدية دوراً مؤثراً على المستوى العالمي.

والنتيجة هي حملة انتخابية مُربِكة، ومملة بشكل غريب؛ فعلى رغم أن الناخبين ليس لديهم أدنى فكرة عمَن سيكون المستشار المقبل، أو نوع الحكومة الائتلافية التي سيشكلونها معاً، يبدو أن معظمهم متفقون على أنها لن تحدث فرقاً كبيراً في أي حال.

في الوقت الحالي؛ يبدو أن الحزب الذي سيتصدر المشهد هو “حزب الاتحاد الاشتراكي الديموقراطي”؛ ذلك الحزب الذي ظلت نتائجه الانتخابية في تدهور مطرد في العقود الأخيرة، والذي قيل مرات كثيرة إن نجمه سيأفل عما قريب. منذ بداية الحملة، راهن شولتز -وهو سياسي ينتمي إلى تيار يسار الوسط الذي يتزعمه بيل كلنتون، ولكنه يتمتع بجاذبية ميتش مكونيل- على فكرة أن الناخبين سينجذبون لكفاءته الرصينة وطريقته التي تسير بخطى ثابتة. ونظراً إلى أن لاشيت وباربوك يرتكبان خطأً ساذجاً تلو آخر، فإن هذه الاستراتيجية -التي قوبلت بسخرية على نطاق واسع- يبدو أنها قد بدأت تؤتي ثمارها بطريقة ما

صحيحٌ أن المهتمين بالديمقراطية وحقوق الإنسان ليس لديهم ما يدعو للقلق بشأن ألمانيا، لكنهم أيضاً لا يملكون ما يكفي من الأسباب ليعقدوا آمالاً كبيرة على قادتها، في الماضي والحاضر، وفي المستقبل.

في بداية الحملة؛ تنبأت استطلاعات الرأي بأن الحزب الاشتراكي الديمقراطي سيحل في المرتبة الثالثة بعد حزب الخضر وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي. لكن ما يحدث الآن هو أنه تفوق عليهما. ورغم أن موقع “بريديكت” PredictIt -وهو منصة رهانات على الإنترنت- قد أشار مؤخراً في بداية شهر أغسطس/آب إلى أن فرصة شولتز لخلافة ميركل هي واحد على عشرين (5%)، إلا أنه قد أصبح منذ ذلك الحين صاحب الفرص الأكبر والمرشح الأقرب لخلافة ميركل.

الأخبار السارة حول هذه الانتخابات الألمانية هي أنها لن تحدث تغييراً كبيراً في البلد. وسواء كان المستشار التالي هو أنالينا بربوك، أو أرمين لاشيت، أو أولاف شولتز؛ فإن ألمانيا ستظل -في المستقبل المنظور- ديمقراطية مستقرة ومتسامحة. إذ إنه لا أحد من المرشحين الثلاثة لديه شخصية المستبد، أو الرغبة في اتباع خطى الشعبويين الاستبداديين الذين اعتلوا كرسي الحكم في العديد من البلدان على مدار السنوات الماضية. وفي خضم هذه الأحداث، من المتوقع أن يغيب الدعم هذه المرة عن حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف، الذي حصد نسبة قياسية من الأصوات منذ أربع سنوات.

وللمفارقة، فإن الأخبار السيئة هي أيضاً أن هذه الانتخابات لن تحدث تغييراً كبيراً في البلد. ففي عهد ميركل، لم تكن ألمانيا راعية الديمقراطية أو حقوق الإنسان كما كان يعتقد معظم المراقبين الدوليين. فقد عززت ألمانيا علاقاتها الاقتصادية مع الصين، وسارت خطوات واسعة في سبيل إنشاء خط أنابيب غاز يمثل أهمية كبيرة للكرملين، كما عضدت حكم المستبدين الذين ظهروا في بولندا والمجر، وأبرمت صفقات غير أخلاقية مع طغاة في تركيا ودول أخرى. لذلك، من المرجح أن يستمر مسلسل النفاق نفسه في سياسة ألمانيا الخارجية فور رحيل ميركل.

صحيحٌ أن المهتمين بالديمقراطية وحقوق الإنسان ليس لديهم ما يدعو للقلق بشأن ألمانيا، لكنهم أيضاً لا يملكون ما يكفي من الأسباب ليعقدوا آمالاً كبيرة على قادتها، في الماضي والحاضر، وفي المستقبل.

هذا المقال مترجم عن theatlantic.com ولقراءة الموضوع الاصلي زوروا  الرابط التالي.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!